أميركا واحتجاز الديمقراطية في مصر (2-2)

27 اغسطس 2014

مبارك وبوش الأب عشية حرب الخليج (23نوفمبر/1990/Getty)

+ الخط -

بعد مجيئه إلى السلطة، عقب اغتيال السادات في السادس من أكتوبر/تشرين الأول ١٩٨١، كان على حسني مبارك أن يرسم لنفسه خطاً متوازناً مع الولايات المتحدة، بحيث يضمن بقاء العلاقات الاستراتيجية معها، وفي الوقت نفسه، يضمن عدم اهتزاز مكانته الداخلية. لذا، حاول، في بداية عهده، أن يحافظ على بقاء المساعدات والدعم الأميركي لمصر، كما هو وبأية طريقة. وهنا، يسرد جيسون براونلي في كتابه "احتجاز الديمقراطية.. سياسات التحالف الأميركي-المصري" وقائع وتفاصيل كثيرة عن العلاقات المصرية-الأميركية في بداية عهد مبارك، وكيف نجح الأخير في توظيف حرب الخليج الثانية، من أجل إسقاط جزء كبير من الديون الأجنبية، خصوصاً الأميركية، بعدما دعم العمليات العسكرية الأميركية في الخليج ضد صدام حسين. فعلى سبيل المثال، أقنعت إدارة جورج بوش الأب الكونجرس بإسقاط الدين العسكري الأميركي لدى مصر، والذي بلغ حجمه حوالى 6.7 مليار دولار. وكذلك فعلت السعودية والكويت وقطر والإمارات وبقية دول مجلس التعاون الخليجي، التي أسقطت ما نسبته 7 مليارات دولار، وذلك كله مكافأة على مشاركة مصر فى عملية "درع الصحراء"، التي شنتها الولايات المتحدة ضد قوات صدام حسين في الكويت عام 1990. وقد ساهم إسقاط هذه الديون في رفع حوالى مليار دولار، هي خدمة الدين عن كاهل الحكومة المصرية. وهنا، يكتب براونلي "كان مبارك على استعداد فعل أي شيء، بما فيه استخدام القوات المصرية، من أجل إخراج صدام حسين من الكويت".

وقد تزامنت حرب الخليج الثانية مع أحداث الجزائر، التي أفضت إلى قمع الإسلاميين، والانقلاب على تقدمهم في الانتخابات البرلمانية، وقفز العسكر على السلطة هناك. وهو ما أعطى مبارك ضوءاً أخضر لقمع المعارضة في مصر، خصوصاً جماعة "الإخوان المسلمين". وكانت محاولة تفجير مركز التجارة العالمي في عام 1993 فرصة ذهبية لمبارك، من أجل تقديم خدماته لإدارة بيل كلينتون، حيث تم توثيق التعاون الاستخباراتي بين الطرفين، من أجل مكافحة المتطرفين، تحت رعاية رئيس الاستخبارات المصرية الأسبق، اللواء، عمر سليمان. وبعبارة بليغة، يصف براونلي العلاقة بين مكافحة الإرهاب وإجهاض الديمقراطية بقوله "لأن هدف الولايات المتحدة وحلفائها الاوتوقراطيين كان مكافحة التطرف، فقد تم التغاضي عن كل إجراءات مبارك القمعية لضمان بقائه في السلطة".

وكانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول ٢٠٠١ علامةً فارقةً في العلاقات المصرية-الأميركية على مستويين، أولهما مكافحة الإرهاب والتطرف، وثانيهما مسألة دعم الديمقراطية، وهما الأمران اللذان شكلا معضلةً لإدارة جورج دبليو بوش. فمن جهةٍ، فإن حالة الاستنفار الأمني والعسكري التي عاشتها الولايات المتحدة، عقب وقوع هجمات سبتمبر/أيلول، تتطلب تقوية التعاون الاستخباراتي واللوجيستي بين القاهرة وواشنطن. ولكن، من جهة أخرى، فإن أحد الأسباب العميقة لظهور التطرف هو السلطوية وقمع المعارضين وعدم فتح المجال السياسي أمامهم.

في البداية، حاولت إدارة جورج بوش تدعيم علاقتها بالقاهرة، من أجل ضمان تعاونها فى ملف الحرب على الإرهاب. ووصل التعاون بين الطرفين إلى أعلى مستوياته في أثناء الحرب على أفغانستان، واستخدام الطائرات الأميركية الأجواء المصرية وقناة السويس، فضلاً عن التعاون الاستخباراتي وعمليات التحقيق والتعذيب، التي تجري للمشتبه بهم، من أجل انتزاع الاعترافات، ولعب فيها عمر سليمان دوراً مهما.

وعلى الرغم من ذلك، فإن مجموعة صغيرة داخل إدارة بوش الابن كانت ترى ضرورة دعم الديمقراطية ونشرها في المنطقة، لذا، تم إطلاق مبادرة "دعم الشراكة فى الشرق الأوسط MEPI من خلال وزارة الخارجية الأميركية، تحت رعاية وزير الخارجية الأسبق، كولين باول. وعلى الرغم من ذلك، لم تكن هذه المبادرة تركز على الديمقراطية وحقوق الإنسان كما قد يفهم بعضهم، وإنما على تحسين التعليم وخلق فرص عمل ومكافحة الفساد وتمكين المرأة.. إلخ. وهو ما أكده باول وريتشارد هاس، مدير وحدة تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأميركية آنذاك. لذا، استخدمت واشنطن مسألة دعم الديمقراطية أداة للضغط على مبارك في ملفات أخرى، مثل غزو العراق والعلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، خصوصاً بعد سيطرة حركة حماس على قطاع غزة عام 2007. ويشير براونلي إلى نقطة مهمة تتعلق بملف خلافة مبارك. ففي وقت كان يسعى فيه الأخير إلى إعداد نجله لخلافته، كان هناك قلق كبير لدى إدارة بوش الابن التي كانت تبحث عن شخص آخر يمكن الوثوق به. لذا، حدث نوع من التوتر خلف الكواليس بشأن مسألة وصول جمال مبارك إلى السلطة، حيث لم يكن هناك ارتياح لذلك، ليس لأنه نجل الرئيس، وإنما لأنه شخص يصعب الوثوق به، على عكس شخص مثل عمر سليمان.

وعندما قامت ثورة ٢٥ يناير/كانون الثاني ٢٠١١، كان من المفترض أن يؤدي ذلك إلى تحول فى الموقف الأميركي من مصر، بحيث تصبح مسألة الديمقراطية جزءاً أساسياً للعلاقة، وليس مكملا لها، كما كانت الحال طوال حكم مبارك. ولكن، ضاعت هذه الفرصة، حسب براونلي، بسبب رعونة إدارة الرئيس باراك أوباما، وتردده في دعم هذه العملية، وهو ما عكسته مواقف الإدارة، التي بنت حساباتها، في بداية انتفاضة يناير/كانون الثاني، على أن مبارك لا يزال يتحكم في كل مفاتيح القوة، وأنه لا يزال يحكم. وهنا يمكن الإشارة إلى التصريح الشهير لوزيرة الخارجية الأميركية السابقة، هيلاري كلينتون، حين قالت "يشير تقديرينا للموقف إلى أن الحكومة المصرية لا تزال مستقرة، وأنها سوف تستجيب للمطالب المشروعة للشعب المصري"، في محاولة لإمساك العصا من المنتصف، مما عكس ضعفاً في الرؤية وفشلاً في الحسابات.

حسني مبارك وتومي فرانكس قائد قوات الغزو الأميركي على العراق (29 يونيو/2003/أ.ف.ب)

هنا، يشير براونلي إلى توتر حدث داخل أروقة الإدارة الأميركية، حيث ألقى بعض أعضاء الكونجرس اللوم على جهاز الاستخبارات، بسبب فشله فى توقع ما حدث فى مصر، وعدم تحضير سيناريوهات بديلة، يمكنها المساعدة في رسم السياسة الخارجية الأميركية تجاه أهم حليف فى المنطقة. وقد كانت المشكلة، التي أثيرت، أن الاستخبارات كانت كثيراً ما تركز على ما يخدم المصالح الأميركية دون التركيز على توجهات الرأي العام في مصر، والتحولات التي حدثت في الشهور القليلة قبل خلع مبارك. وقد علقت السناتور، دايان فينشتين(الحزب الديمقراطي، كاليفورنيا) على هذا الفشل بالقول: "لم يكن ينبغي أن تكون هذه الأحداث مفاجئة لنا، لو أن الاستخبارات تقوم بدورها، وتصدر تحذيرات بشأنها"، وتساءلت في تهكم "هل كان أحد منهم يتابع ما يحدث على شبكة الإنترنت؟"، في إشارة إلى موظفي الاستخبارات الأميركية. ولم يتحرك البيت الأبيض تجاه مبارك، إلا عندما تأكد من سقوطه، فأصدر بياناً بعد خطاب مبارك الشهير في الثاني من فبراير/شباط، يطالب فيه بضرورة إطلاق عملية انتقال ديمقراطي حقيقية وذات مصداقية، وهو ما فهمه بعضهم على أنه إشارة عن بداية التخلي عن مبارك.

بعد سقوط مبارك، اتبعت الولايات المتحدة سياسة حذرة، تقوم على عدم إظهار الدعم الصريح لأي طرف، حتى لا يؤثر ذلك على صورتها وموقف الشارع المصري منها. وكان الهدف الرئيسي، طوال تلك الفترة، ضمان استمرار معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، وعدم تحول مصر إلى مصدر قلق للاستقرار في المنطقة. وتدرك الولايات المتحدة أن إقامة ديمقراطية في مصر قد لا يكون في خدمة مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، نظراً لأنها قد تأتي بحكوماتٍ، تختلف مع التوجهات الأميركية وسياساتها. لذا، سعت إدارة أوباما، ولا تزال، من أجل البقاء على الدعم العسكري للقاهرة، ولو جاء ذلك على حساب الديمقراطية وحقوق الإنسان. ورفض أوباما وفريقه القومي محاولة الكونغرس فرض شروط على المساعدات السنوية للجيش المصري، والتي تقدر بحوالى 1.3 مليار دولار. ويرى براونلي أن أي حديث جادّ حول الدعم الأميركي للديمقراطية في مصر بحاجة إلى مساءلة أولويات السياسة الأميركية، وما إذا كانت مصلحة الشعب المصري قد تأتي فى مرتبة سابقة لهذه الأولويات، وهو أمر لا يتوقع حدوثه في الأمد المنظور.

وينهي براونلي كتابه بالقول إن انتفاضة يناير/كانون الثاني ربما تكون قد فتحت صفحة جديدة في العلاقات المصرية - الأميركية، لكنها لم تؤثر بقوة على التحالف الأمني بين البلدين، وهو ما قد يؤدي إلى إعادة إنتاج السلطوية في مصر مجدداً، على غرار ما حدث بعد اغتيال السادات، قبل أكثر من ثلاثة عقود.

A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".