أطلال نمرود.. تحطيم الذاكرة بإزميل التخلف

14 ابريل 2015
هذا "الأسد المجنّح" صار ذكرى في كتاب الإنسانية (Getty)
+ الخط -

ذهولٌ وفجيعة يصيبان من يحدّق في مشهدٍ مستفزٍّ لمجموعة من رجال مليشيات "داعش"، وهم عاكفون على مدينة "نمرود" الآشورية العجوز، يبطشون بآثارها الشاخصة، ويجرفون وجودها الذي ظلّ شاهداً على حضارةٍ جاوزت آلاف السنين.

الوليمة الآشورية الدّسمة التي كانت نهباً للصوص الآثار الغربيين ومواليهم من الداخل سابقاً، صارت اليوم نهباً للتخلّف، حتى صار الناس يترحّمون على أيام أولئك اللصوص، الذين أوصلوا الآثار المسروقة بأمان وحرفية إلى المتاحف الغربية، في حوزة مؤسّسات تدرك معنى الحضارة وعلماء يدرسون تاريخها، ويستقرئون نصوصها، ويستكشفون منها ما شاء الله لهم أن يقفوا على معارف.

تحكي الأسفار والنصوص القديمة أن المدينة المنكوبة كانت تسمى "كالح" أو "كالخو". فاسم "نمرود" أطلق على المكان في فترة قريبة، وكان الرحالة الألماني "كاريستن نيبور"، أوّل من أطلق عليها هذا الاسم سنة 1766، أثناء مروره بها، وربما خطر له هذا الاسم من الكتاب المقدّس، الذي أطلق في بعض آياته على مملكة بابل اسم "أرض نمرود".

يظهر نمرود في التاريخ بوصفه شخصية مركزية، أسّست أوّل مملكة في تاريخ البشرية، هي مملكة "بابل". ويرجّح بعض علماء الآثار أن "نمرود" هذا هو الذي قاد حركة "العبيديين"، من جنوب العراق إلى شماله، في الفترة ما بين "3800-3500 قبل الميلاد، هؤلاء العبيديون القادمون من الجنوب تركوا آثاراً غير سامية، واكتُشفت آثارهم في الطبقات السفلى من أطلال المدن الأشورية. فلعلّ نمرود هو الذي بنى مدينة كالح، وربما كان بعض أتباعه أو سلالته بنوها وأسموها باسمه.

النقوش المسمارية تشير إلى أنّ تأسيس "كالخو" ربما كان في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، في عهد "شلمناصر الأول" (1280-1260 ق.م)، وهناك احتمال بأن المدينة كانت أسبق من هذا العصر، وأنّ "شلمناصر الأوّل" أعاد بناءها وزيّنها وحصّنها.

ازدهرت المدينة حتى صارت عاصمة الإمبراطورية الآشورية الحديثة في عهد "آشور ناصربال" (883 ق.م -859 ق.م)، وظلّت على أهمّيتها تلك لأكثر من 150 سنة، قبل أن يدمّرها الكلدانيون والميديون سنة 612 ق.م.

تقع أطلال المدينة في الجانب الشرقي من نهر دجلة، على بعد 34 كلم جنوبي شرق مدينة الموصل. كان يحيط بالمدينة مربعة الشكل سور يبلغ طوله ثمانية كيلومترات، مدعم بأبراج دفاعية. في الزاوية الجنوبية من السور يوجد "تل نمرود"، الذي عُثر فيه على عدد من القصور والمعابد الآشورية القديمة جداً. في زاوية السور الشرقية يوجد "تل آزر"، الذي كُشِفَ فيه عن قصر وحصن يعودان إلى عصر الملك "شلمناصر الثالث" (858-823 ق.م).

في متاحف العالم
أولى عمليات التنقيب الأثري المنظّم تمّت في الموقع سنة 1846، بواسطة البريطاني "سير أوستين هنري لايارد"، الذي استخرج مجموعة كبيرة من المنحوتات من حجر "الألبستر"، ومشغولات عاجية ومسلات وتماثيل ضخمة. ثم توقّفت العمليات لعدّة عقود حتى قام السير "ماكس مالوان" بإعادة التنقيب سنة 1949، وعن تلك الفترة ألف مالوان كتابه "نمرود وأطلالها". كان من بين اكتشافاته نصوص مسمارية تحوي عهود الولاء التي قدمها الحكام التابعون في الدولة الآشورية للملوك الآشوريين.

اقرأ أيضا: داعش يدمر مدينة الحضر الأثرية بالموصل

توالت عمليات البحث والتنقيب، وهي عمليات لم تنته بعد؛ لأنّ الموقع يشير إلى أنّه لا يزال يحوي مجموعات من الدلائل التي تحتاج إلى تتبّعها. وقد شهدت المنظّمات العالمية المختصّة بأنّ الآثار الثابتة المكشوفة في المنطقة معرّضة للمخاطر بسبب عوامل الجوّ القاسية من تعرية وتصحّر. قبل أن تعود عمليات النهب في ظلّ الاحتلال الأميركي. وقبل أن يظهر شبح داعش مؤخراً.

أبرز المعالم
حصلت المتاحف الغربية على كل ما يمكن الحصول عليه من آثار قابلة للنقل مهما كانت ثقيلة الوزن، في حين بقيت المعابد والقصور والأبراج في أماكنها، شاهدة على عراقة المدينة التي لم نستطع حمايتها.

تحوي أطلال المدينة عدداً من المعابد الآشورية، مثل معبد "ننورتا"، الذي كان معبداً رئيسياً للمدينة حتى عصر الملك "أدد نيراري الثالث" (810-782 ق.م) ومعبد "عشتار" في شرق المدينة، وتمّ الكشف عن مدخله المؤدّي إلى القاعة، وكان على جانبيه تمثالان لأسدين.

ومعبد "نابو" في الزاوية الجنوبية الشرقية من القلعة، وشيّدته الملكة سمورامات (سميراميس) في أوائل القرن التاسع قبل الميلاد، وكان المعبد الرئيسي للمدينة في عصرها.

اقرأ أيضا: تنظيم الدولة يدمّر متحف "نينوى" العراقي (فيديو)

أما القصور الملكية فالمدينة تحوي عدداً كبيراً منها، مثل "قصر الملك آشور ناصر بال الثاني" (884 – 859 ق.م). و"قصر الملك شلمناصر الثالث" (859 – 824 ق.م) و"قصر الملك أسرحدون" (681 – 669 ق.م). وقصر "أدد نيراري الثالث" (809 – 782 ق.م) وهو ابن الملكة سمورامات.

و"القصر المركزي" في وسط المدينة، وفيه أبنية تعود للملك "آشور ناصر بال الثاني" وابنه "شلمنصر الثالث". و"القصر الجنوبي الشرقي"، وهو القصر الخاص بالحريم، و"قصر سرجون الثاني"(722 -705 ق.م) ويسمى "القصر المحروق" لوجود آثار حرق شديد شملت مجموعة من العاجيات البديعة.

أما البرج المدرج "الزقورة"، فيقع في الشمال الغربي من المدينة، ويبلغ ارتفاعه 34 متراً، ويتكون من طبقات بنائية تتدرج في الصغر ابتداء من القاعدة حتى القمّة التي شيّد عليها المعبد الرئيسي للإله "ننورتا". وتمثّله كتلة كبيرة صلدة، تزيّن أجزاءها السفلى قطع آجرية رباعية الشكل، وفي جزئها الأخير بروزات على شكل عُمُد.

تاريخ من الهدم
لا يعدّ ما فعله تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام بآثار العراق من تدمير وتشويه عملاً مبتدعاً في تاريخ منطقتنا السياسية، فقد حفل هذا التاريخ بالعديد من الحوادث المشابهة، نقلتها إلينا كتب التاريخ ومراجعه. وذُكر أنّ الخليفة المأمون أراد أن يهدم الأهرامات، وجمع العمّال لذلك، وباشروا في محاولة الهدم لكنهم فشلوا.

كما يروي المقريزي في كتابه "المواعظ والاعتبار: "أن الأهرام كانت كثيرة في مصر، وهدم عدد منها في أيام السلطان صلاح الدين على يد قراقوش".
كذلك تحدّث المقريزي عن تدمير لأثر روماني يعود للملكة كليوباترا حيث يقول إنّها "بنت في الإسكندرية أبنية عجيبة منها هيكل زحل، وعملت فيه صنماً من نحاس أسود، وكان أهل مصر والإسكندرية يعملون له عيداً في اليوم الثاني والعشرين من هتور، ويحجّ إليه اليونانيون من سائر الأقطار، ويذبحون له ذبائح لا تحصى كثرة، فلما ظهرت ملة النصارى في الإسكندرية جعلوا هيكل زحل كنيسة، ولم تزل إلى أن هدمتها جيوش المعز لدين اللّه، عند قدومها من المغرب إلى أرض مصر في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة من سنيّ الهجرة النبوية".

ولا تقتصر عمليات هدم الآثار على العهود الوثنية أو المسيحية، فقد هُدمت آثار إسلامية مهمّة يرجع تاريخها لصدر الإسلام، ولها قيمة تاريخية عظيمة، مثل بيوت الرسول والصحابة في مكّة المكرّمة.

اقرأ أيضا: العراق: ضبط 207 قطع أثرية قبل التهريب

المساهمون