أسطورة العنف المقدّس

أسطورة العنف المقدّس

19 يناير 2017
+ الخط -
لا تتمثّل الهزّة المعرفية التي يتركها كتاب كارين أرمسترونغ "حقول الدم.. الدين والتاريخ والعنف" (ترجمة أسامة غاوجي، الشركة العربية للأبحاث والنشر)، في أنه يناقش مسألةً جديدةً كُلية، أو يُفصح عن معلوماتٍ تُنشر أول مرة، بل في أنه يخوض فيما أصبح يومياً مُبتذلاً في حياتنا المعاصرة من أحداث العنف، وما هو أشدّ ابتذالاً من التفسيرات المصاحبة لها التي تعطّلت قدرتها التفسيرية أمام تنوّع نماذج العنف وتعقيدها. وعلى الرغم من هذا، يتمكّن الكتاب من هزّ ما يعتقد أغلب المشتغلين بالثقافة أنهم يعرفونه حول العلاقة الثلاثية بين الدين والدولة والعنف، واقتراح نموذجٍ مختلفٍ ومؤثر لفهم هذه العلاقة.
يتمثل مفتاح أرمسترونغ لهذا في الانطلاق من قاعدتين: توسيع مفهوم العُنف إلى حدٍ كبير، ليشمل العُنف البنيوي الذي تمارسه الدولة تجاه السكان، وأدوات الإكراه والتمييز التي تفرض التراتب الاجتماعي الهرمي، والحروب الخارجية والحروب الأهلية والإبادات الجماعية والاضطهاد، وغيرها، كما أنّها وسّعت النطاق التاريخي للبحث ليمتدّ من مملكة سومر الزراعية قبل خمسة آلاف عام وحتى اللحظة الراهنة. مثّل هذا التوسّع نقطةً مثاليةً لتحرير النظرة إلى العنف من القيود الضيقة للحظة الراهنة، حيث صار معظم الحديث عن العنف يعني الحديث عن "الإرهاب" تحديداً، والحديث عن الإرهاب يعني الحديث عن نموذج محددٍ من العمليات التي تنفذها عناصر مسلمةٌ متسللةٌ بين المدنييّن، وخصوصاً الأوروبيين والأميركيين، وتحت شعارٍ إسلامي. تحرّر الذهن من الاحتباس في هذا النموذج من العنف يمهّد لتحرّره من التفسيرات التي طوّعتها وفرضتها السياسة حول العنف، بوصفه ثمرةً خالصةً للأيديولوجيا والتعصب والنصوص الدينية المحتقنة بالكراهية. من هذه النقطة، تشرع أرمسترونغ في استعراض أفكارٍ محدودة حول علاقة العنف بالدين والدولة، لكن ضمن برهانٍ تاريخيّ واسع، تستخدم كلّ فصلٍ جديدٍ منه لتوكيد الأفكار نفسها وتطويرها.
من أهمّ هذه الأفكار، فكرة تصطدم مباشرة بالكليشيه التفسيري الذي يربط بين الإيمان والعنف ربطاً جوهرياً وتاريخياً، إذ تبدأ الفصول الأولى من "حقول الدم" بالتأكيد على أن هذه النظرة التي تعزل الدين بوصفهِ عاملاً مستقلاً إنما هي نوعٌ من تفسير التاريخ تفسيراً علمانياً بأثرٍ
 رجعي، لأن من سمات الحضارات المبكّرة أنها ما كانت تنبني على تمايز وانفصال بين الدين والسياسة والمجتمع والاقتصاد، كان للمعابد دور اقتصادي، وكان للحُكام والأباطرة مكانة دينية إلهية، وحيثما امتزجت الأدوار والسياقات بهذه الطريقة، كان من المستحيل عزل العامل الديني، أو نسبة العُنف إليه بصورة حصرية وجوهرية. وعوضاً عن هذا، يبدو العنف في تلك الحقَب أشدّ اقتراناً بالاقتصاد الزراعيّ الذي كما أفضى إلى نشوء الحضارات والممالك أدى إلى تراكم فائض الإنتاج. ومع الفائض، ولدت الهرمية الاجتماعية والسُّلطة، والعُنف. وبناءً على هذا، تسعى إلى الاستدلال على فكرةٍ أخرى، تقول إنه ما من أدوارٍ تاريخية ثابتة للدين والسياسة تجاه العنف، لم يكن الحاكم أو الإمبراطور حامياً دوماً للسكان من العنف، ولم يكن الدين دوماً هو مصدر الأحقاد والحروب الأهلية، حدث تبادل أدوارٍ مستمر عبر التاريخ بين هذين في ممارسة العُنف أو لجمه، وتبادلا (الدين والسياسة) فيما بينهما التأثير، "فالدين يؤثر في السياسة، والسياسة تؤثر في اللاهوت"، والقمع السياسي يؤدي إلى إنتاج النماذج المتطرّفة دينياً، والعقائد الثنوية. كما أن اعتناق الدين نفسه لا يُفضي إلى مواقف متشابهة، بل إنها تبرهن على ظروفٍ أدى فيها الإيمان بالعقيدة نفسها إلى ممارساتٍ عنيفةٍ وأخرى مسالمة، وهذا ما يمكن رؤيته في كل زمانٍ ومكان.
تُشير أرمسترونغ إلى أن أحد دوافع الممارسات العلمانية الأبكر (في الصين) كان عجز الدولة المضطرة إلى العنف البنيوي عن التزام تعاليم الدين المسالم. وفي فصلٍ آخر، تُشير إلى انطواء بواعث إصلاحية مارتن لوثر على شيء من هذا القبيل: على يأس من العالم الدنيوي، وبحث عن الخلاص الفردي عبر إنقاذ الدين من عنف الدولة، بفصله عن المجال السياسي. وهي تعيد قراءة "أسطورة" نشأة العلمانية بوصفها نتاجاً للحروب الدينية الأوروبية بين الكاثوليك والبروتستانت، وتستدلّ على أنه (وعلى الرغم من الجوهر الديني لتلك الحروب) إلا أنها لم تكن حروباً دينية خالصة، ولم تكن الهرطقة ضمنها تمرّداً دينياً بقدر ما كانت تمرّداً سياسياً، لكن جون لوك حبس التفكير في تلك الحروب، عبر تفسيرها دينياً، وإطلاقه "أسطورة العنف المقدّس".
ولم تُفضِ العلمانية بعد هذه الحروب إلى حالة من السلام وانحسار العنف، بل استعاضت 
الشعوب عن المقدّس الديني بتقديس "الأمّة"، أو بالدين المدني الذي نظّر له جان جاك روسو، ومارست الطقوس والعنف في سبيل هذا المقدّس العلماني، كما حدث منذ أعقاب الثورة الفرنسية، وحتى حروب أوروبا في القرن العشرين، وصولاً إلى معضلة الدولة الحديثة التي "اختُرعت لاحتواء العُنف، لكن الأمة أصبحت تُستخدم لإطلاقه". أما الصحوات الدينية والانبعاثات الأصولية على امتداد القرن العشرين، فظواهر "ما بعد حداثية" نتجت عن آثار الاستعمار الذي أقحم منظوره للمجتمعات ووتيرته الانتقائية والاستغلالية للتحديث على مجتمعات تقليدية، كما في الهند والعالم العربي، كما تساوى المنظوران الديني والعلماني، على حدٍ سواء، في قدرتهما على تبرير الاستعمار وشرعنته.
يهزّ كتاب "حقول الدم" الأجوبة التي نتداولها حول العنف، ومن ثمّ يهزّ الأسئلة نفسها. أهمّ فكرة ينخرها الكتاب أن سؤال العُنف يجد جوابهُ في العلمانية. وهنا، يشتبك الكتاب مع الراهن العربي الذي لا تنفكّ الدول العلمانية فيه عن تقديم البراهين على عنفها الذي يتجاوز عنف الجماعات الإسلامية. بالإضافة إلى أنّ مشكلة العنف ليست نتاجاً للنصّ الديني المحض، ولا للعقيدة المجرّدة، ولا لفكرة الدين بحدّ ذاته، وأن السياق التاريخي للدولة يلعب دوراً أهمّ في انبعاث العنف أو إخمادهِ. هناك مسافةٌ بين تفسير دور الدين في العنف وتبرير ممارسة العنف الديني. وعلى الرغم من أن "حقول الدم" عُرضة (كما هي الحال مع أيّ كتابٍ مهمّ) لإساءة استخدامٍ واسعة عبر توظيف أطروحتهِ لتبرير عنف التنظيمات الإسلامية، أو مديح الأصولية أو هجاء التحديث، إلا أن هذه التوظيفات تظلّ على هامش الفكرة الأساسية التي سعى إلى إجلائها، وهي أن المسألة معضلة الدولة أكثر مما هي معضلة الدين.
@Emanmag
avata
إيمان القويفلي

كاتبة سعودية، باحثة في علم الاجتماع