أحلام فرنسا.. إمكانات محدودة وأثمان كبيرة

23 يناير 2015

هولاند ومسؤولون عسكريون على متن "شارل ديغول" (14 يناير/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -
على عكس بريطانيا التي استسلمت لقدر غروب الشمس عن إمبراطوريتها، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وارتضت أن تصبح شريكاً صغيراً لمستعمرتها الأميركية السابقة، ظلت فرنسا تكابر وتعاند، متوهمة أنها مازالت دولة كبرى، ولديها القدرة على القيام بأعباء الدور. من حق فرنسا، من دون شك، أن تتبنى مواقف متمايزة، وأن تحافظ على استقلاليتها، وأن تدافع عن مصالحها، وهو الميل الذي أسس له الجنرال شارل ديغول، وعبّر عنه، في مناسبات عديدة، منها قراره الحصول على القنبلة النووية عام 1960، ثم اتباعه سياسة تقارب مع موسكو في عز أيام الحرب الباردة، قبل أن يقرر الانسحاب من الجناح العسكري لحلف الناتو عام 1966 ويسلك طريق الحصول على القنبلة الهيدروجينية عام 1968.
منذ ذلك الحين، تحاول فرنسا الحفاظ على شيء من استقلاليتها على الساحة الدولية، في إطار المظلة الغربية، خصوصاً عندما يكون اليمين (ورثة الجنرال ديغول) في الحكم. فالكل يتذكر الخلاف الحاد الذي وقع بين حكومة الرئيس الفرنسي، جاك شيراك، وإدارة الرئيس بوش الابن على خلفية غزو العراق، والمرافعة الشهيرة التي قدمها دومنيك دوفيلبان عندما كان وزيراً لخارجية فرنسا في مجلس الأمن ضد مشروع قرار يوفر غطاء لواشنطن لغزو العراق.
حاول الفرنسيون استرضاء السيد الأميركي بعد ذلك، أملاً في الحصول على جزء من الكعكة العراقية، ورغبة في تخفيف التوتر الذي أخذ يتصاعد، بسبب المنافسة التي اشتدت، عندما بدأ الاهتمام الأميركي يتزايد في غرب إفريقيا، التي طالما اعتبرتها باريس حديقة خلفية لها، مع الجولة الشهيرة التي قام بها الرئيس بوش الابن للقارة السمراء، بحثاً عن مصالح اقتصادية وتجارية في يوليو/تموز 2003، قبل أن تقرر واشنطن إنشاء قيادة عمليات إفريقيا (Africom) عام 2007. لكن تحسناً كبيراً على العلاقات بين الطرفين كان عليه أن ينتظر مجيء الرئيس نيكولا ساركوزي الذي كان يعبر عن إعجاب غير مألوف من مسؤول فرنسي، فضلاً عن كونه الرئيس بنمط حياة الكاوبوي الأميركي.
مع ذلك، استمر الفرنسيون في التأكيد على استقلاليتهم، وعلى وجود دور قيادي لهم على الساحة الدولية، في كل مناسبة تسنح لهم، فدعا ساركوزي إلى إنشاء الاتحاد من أجل المتوسط، متحدياً رفض ألمانيا، شريكه الأكبر في الاتحاد الأوروبي، الفكرة. فأقام في ذكرى انتصار الثورة الفرنسية في يوليو/تموز 2008 احتفالية كبرى، جمع فيها معظم قادة ضفتي المتوسط للإعلان عن انطلاق مشروعه. بعد ذلك، لم يترك ساركوزي مناسبة إلا وحاول اغتنامها للبقاء في الأضواء، وادعاء دور لم يكن عدم القيام به ليؤثر على مجرى الأحداث، ولو بمقدار أنملة، كما حصل في زيارته دمشق في سبتمبر/أيلول عام 2008، وكان من أهم أهدافها إبعاد سورية عن إيران ولعب دور في مفاوضات السلام السورية-الإسرائيلية التي كانت تجري، ذلك الوقت، بوساطة تركية.
مع انطلاق ثورات الربيع العربي، حاولت فرنسا، كعادتها، أن تبحث عن دور لها في سياقه، فعارضته أول الأمر، لا بل عرضت على حليفها زين العابدين بن علي تدريب الشرطة التونسية ومساعدتها لقمع الاحتجاجات، قبل أن تغير رأيها، بعد امتداد الاحتجاجات، وتقبل بالتغيير، ثم تنتقل كلياً إلى المقلب الآخر، عندما تحمست لإطاحة نظام العقيد القذافي، وقادت التدخل عسكرياً في إطار "الناتو" لتحقيق ذلك. لكن حدود القدرات الفرنسية، والأوروبية
عموماً، سرعان ما تكشفت خلال الحملة على ليبيا، عندما قرر الأميركيون أن يتراجعوا إلى الخلف، وأن يتركوا لشركائهم الأوروبيين مهمة إزاحة القذافي، فطالت العملية شهوراً، قبل أن يعود الأميركيون من جديد لإنقاذ ماء وجه أوروبا.
بعد إنجاز المهمة في ليبيا، وفي ظل عدم الحماسة الأميركية، تنطح الفرنسيون لمزيد من التدخلات الخفيفة (light intervention) الذي لا يتطلب حشد قوات برية كبيرة، فتدخلوا في مالي مطلع عام 2013، لوقف زحف جماعات إسلامية على العاصمة باماكو، كما قضوا على احتمال قيام حكم إسلامي في إقليم أزواد، شمال البلاد. وبتدخلهم في مالي، حاول الفرنسيون التأكيد على دورهم القيادي في أفريقيا، فضلاً عن استعدادهم للدفاع عن مصالحهم في منطقة تحتوي ثروات نفطية وغازية ومعدنية كبيرة، أهمها اليورانيوم.
في سورية، حاول الفرنسيون، أيضاً، أن يزعموا دوراً قيادياً، وكان موقفهم الأكثر تقدماً ووضوحاً من بين جميع نظرائهم الغربيين في دعمهم الثورة السورية، والدعوة إلى إطاحة نظام بشار الأسد، بيد أنهم لم يستطيعوا ترجمة موقفهم إلى سياسة عملية، نتيجة عدم حماسة الأميركيين. وكذلك فعلوا عندما تصدروا الأوروبيين، في دعوتهم إلى مواجهة صعود تنظيم الدولة، فاستضافت باريس المؤتمر الذي أطلق التحالف الدولي لمحاربة التنظيم الدولة، وساهموا بأكبر عدد من الطائرات، بعد الولايات المتحدة، لمحاربة "داعش" في العراق.
ويعكس الدور القيادي الذي تسعى إليه فرنسا تمسكاً بماض يحن الفرنسيون إليه، لكنهم لا يمتلكون الإمكانات للاضطلاع به. وتكفي الإشارة إلى اثنين من المؤشرات العسكرية والاقتصادية، للدلالة على محدودية القدرات الفرنسية، ففي المجال العسكري، تملك فرنسا حاملة طائرات واحدة، عمرها الآن 29 عاماً، هي شارل ديغول، وخرجت من الخدمة عام 2001، حيث جرى ترميمها، لكنها عادت خرجت من الخدمة مجدداً خلال الحملة على ليبيا بسبب الاستنزاف (تملك الولايات المتحدة في الخدمة 11 حاملة طائرات واثنتين قيد الإنشاء). أما اقتصادياً، ففرنسا مهددة أن تتحول الى "اليونان" أخرى، بفعل الدين العام الذي يبلغ نحو 2 تريليون يورو، أي ما نسبته 95.1% من الناتج الإجمالي القومي (مقارنة بـ 72% في الولايات المتحدة). في المحصلة، يبدو أن أحلام فرنسا أكبر بكثير من قدراتها، بيد أن الأسوأ أنها أحلام غير قابلة للتحقق، تضع فرنسا في صفوف المواجهة الأمامية، وترتب عليها، بالتالي، دفع أثمان كبيرة نتيجة ذلك، كما اتضح في الهجمات الأخيرة التي استهدفتها.