"نايت أون إيرث": الموسيقى رفيقة التجوال

"نايت أون إيرث": الموسيقى رفيقة التجوال

07 ديسمبر 2019
(تتشابه شخصيات الفيلم مع تلك التي في أغاني ويتس)
+ الخط -

يروي نعوم تشومسكي قصةً جرت معه أثناء إحدى زياراته للسويد. فوجئ المفكر الأميركي حينها بلطف سائقي سيارات الأجرة، وحين سأل أحدهم عن سبب هذا اللطف، أشار الأخير إلى قميصٍ دارجٍ طُبِع عليه اقتباسٌ لتشومسكي كان قد قاله في إحدى المقابلات حين سُئِل عن مآل أصحاب الفكر المستقل، وأجاب: "يصبحون سائقي سيارات أجرة".

قد تصعب الموافقة على نتيجة تشومسكي خفيفة الظل، إلا أنه ثمة سحر مميز يحيط بسائقي سيارات الأجرة كرواة للقصص وخبراء بالمدن التي يجوبونها ويخبرونها حين تنام وتستيقظ، كما تدلنا على ذلك الأعمال الفنية التي تتناولهم أو مشاهداتنا الشخصية.

حاول جيم جارموش الاستفادة من هؤلاء الرحالة والعوالم الصغيرة التي تُخلَق وتزول في سياراتهم، في فيلمه Night on Earth الذي صدر عام 1991. وكما يوحي الاسم، فإن الفيلم يكتفي بتسجيل مشاهدات في ليلة واحدة من مدن عدة في العالم، دون أن تحكمها حبكة واحدة أو خط متسلسل؛ مجرد مصادفات ليلية في سيارات أجرة، تحدث في خمس مدنٍ هي لوس أنجلوس ونيويورك وباريس وروما وهلسنكي.

إلا أن ثمة أشياء تربط أجزاء هذا الفيلم ببعضها (مثلما تفعل سجادة ليبوسكي) وقد تكون أبرزها موسيقى الفيلم التي ألفها توم ويتس وأصدرها في ألبومٍ منفصل، يحمل اسم الفيلم ويضم 16 قطعة موسيقية.

لا تكفي الإشارة إلى العلاقة بين جارموش وويتس –والتي شهدت تعاونهما سابقاً في فيلمي Down By the Law وMystery Train للإجابة عمّا قدمه الأخير في هذا الفيلم، بل تمتد إلى تشابه شخصيات الفيلم مع تلك التي تحضر في أغاني ويتس واستخدامه للآلات الموسيقية والتوزيع والأنواع المختلفة ليبرز هذه الشخصيات ويصف مسارات رحلاتها.

يتسّم نتاج ويتس بالتنوع من حيث الأنواع الموسيقية، كالبلوز والجاز والتانغو وغيرها والموضوعات أيضاً، وربما يكون هذا التنوع هو نقطة التلاقي، ففي Night on Earth يرتبط التنوع الجغرافي بتغير النوع الموسيقي، كما أن كل لوحة تقدم موضوعات ومشاعر مختلفة، وهو ما يبرع ويتس في تقديمه، رغم إبقائه على لحن ثابت للمدن أحياناً ضمن مقطوعات الـ 'Mood music' رغم اختلاف توزيع الآلات المستعملة فيها.

يبدأ الفيلم بمشهد عام للكرة الأرضية، وبالأغنية الرئيسية للفيلمBack in The Good Old World التي ستتكرر خلال الفيلم بإعادة توزيعات مختلفة، تكون الأولى فيها "غجرية" والأخيرة كـ "فالس".

وتنطلق اللوحة الأولى من لوس أنجلوس، مدينة الأحلام الكبيرة، حيث يختار جارموش الجزء الأفقر والمهشم من المدينة ويعرّفنا عليه عمرانياً. تُرسَم الصورة عبر الأبنية المتهالكة والمطاعم الصغيرة، ومنها تظهر بطلة اللوحة الأولى، كوركي، التي تعيش حياة سائقة اعتيادية ضمن البيئة التي يعرّفنا جارموش عليها. وخلال سير رحلتها، تقل كوركي امرأة تعمل باكتشاف المواهب السينمائية ونلحظ الفروقات بينهما.

ويختار ويتس لهذه اللوحة توزيعاً يعتمد على الباص والبيانو والتشيلو ليرسم إيقاع الرحلة ويرافق الغيتار الكهربائي الذي يظهر ويختفي مصاحباً المشاهد من جزء المدينة المتآكل ويشبه صوته ذاك الذي قد تقدمه فرقة روك محليّة في المدينة ذاتها.

تشبه هذه العلاقة تلك التي تجري في السيارة إلى حدٍ ما، بين كوركي والمرأة التي نستشف موقفها وعلاقتها القائمة على الاستغراب من المكان، من عبارات يومية مثل حديثها عن حلول الظلام باكراً. تحاول السيدة نهاية الأمر إخراج كوركي من الحيز الاعتيادي الذي تعيش ضمنه عبر إقناعها بأن تصبح نجمة سينما، إلا إن لكوركي أحلامها ضمن هذا الحيّز بأن تصبح ميكانيكية محترفة.

تحضر في اللوحة الثانية علاقة شبيهة بين الغريب والمعتاد، إلا أن الأدوار تكون مقلوبةً فيها. ويحضر الغريب على هيئة مهرج فار من ألمانيا الشرقية، ويعمل سائقاً في نيويورك. تلعب المفارقة دورها هنا حين يقود الراكب، يو يو، السيارة عوضاً عن هيلموت، السائق التائه الذي يواجه نيويورك متسلحاً بنظرة طفولية عن الولايات المتحدة الأمريكية، وتتغير خلال الرحلة نظرته عنها لتتحول من مكانٍ يحلم به الفار إلى مدينة قاسية مخيفة في الليل، حين يُترَك وحيداً بعد أن يصل الراكب إلى وجهته.

تتشابه القطعتان في لوحة نيويورك ولوس أنجلوس من حيث الآلات، إلا أن ويتس يعزز حضور الباص ويستبدل الغيتار الكهربائي بترومبيت جاف وبارد يتماشى مع الشعور العام في المدينة بعد ساعات عملها، ويعزز صداه الشعور الكبير بالفراغ ويقوي أفكار جارموش عن العنف والاغتراب والوحدة والظلمة، التي نجدها في موسيقى ويتس أيضاً.

تنقلنا الساعة الثالثة على الجدار إلى باريس. هناك يسأم سائق أجرة إيفواري من الراكبين في سيارته ويطردهما بعد اتهامه بالعمى وسوء قيادة السيارة وتركب مكانهما شابة فرنسية عمياء، يخطئ السائق حين يعتقد أنها ستكون الراكبة التي ستسهل الأمور عليه.

ثمة تركيز كبير في هذه اللوحة على البصر، أو طريقة رؤية الأشياء. فبينما تفتقد الشابة لهذه الحاسة فيزيولوجياً، تحاول إثبات افتقاد السائق لها أيضاً عبر حوارهما، حين تسخر من قيادته وعدم درايته بشوارع المدينة كغريبٍ عنها أو حين تجيب على أسئلته الفضولية عن الحياة كضريرة، مارّة بالذهاب إلى السينما والرقص وممارسة الحب واختبار كل هذه التجارب بطرقٍ مختلفة. في هذه اللوحة، تظهر الشابة كالشخصية الأكثر حسيّةً بين الاثنين، قبل أن تصل إلى وجهتها ويرتطم السائق بسيارة أخرى ويقول بأنه لم يرها، إزاء ابتسام الشابة التي تمشي بجانب قناة مائية تحت جنح الظلام.

تتشابه هذه اللوحة مع سابقتيها، إذ تحضر العلاقتان المختلفتان مع المدينة وفرض كلٍ منهما لشكل "ترحالٍ" مختلف، إلا أن الراكبة هنا تقدم منظوراً مختلفاً لرحلتها بحكم الطريقة التي ترى بها المدينة والأشياء. ويبقى التركيب الموسيقي شبيهاً بذاك في لوس انجلوس ونيويورك، من حيث استخدام الآلات الموسيقية والإيقاع، إلا أنه بشكلٍ غير مفاجئ يعتمد بشكلٍ رئيسي على الأكورديون، كعلامة فرنسية يسهل تمييزها بما يصاحبها من صور يسهل تخيلها عن المساحات الحميمية والحسيّة.

تأخذ الأمور منحىً مغايراً في لوحة روما، إذ يقدم سائق السيارة في اللوحة الرابعة نموذجاً شديد التباين عمّا سبقه. ورغم وحدته كغيره، إلا أنه يلجأ إلى أسلوب كوميدي للتعامل معها، محادثاً نفسه ليهرب من عزلته عبر الخيال.

يستقل راهبٌ السيارة، ويحاول السائق الذي يتوق إلى الحديث بناء صلةٍ معه عبر الاعتراف. ورغم إصرار الراهب على رفض أداء هذه المهمة، يشرع السائق بالإفصاح عن أسوأ أسراره بطريقة كوميدية تتقاطع بشكلٍ فاضح مع فحوى ما يقوله، مودياً بالراهب الذي يسقط ضحية ذبحة قلبية، ما يدفع السائق للتخلص من جثته.

في هذه اللوحة يزاوج جارموش بين الحد الأقصى من جرعة الكوميديا في الفيلم كله وبين نهاية سوداء لا يبدو ان السائق يحس بثقلها مثل المشاهد. ويستعمل ويتس لينقل هذا الإحساس المبالغ من الكوميديا في هذه التجربة الفريدة أسلوباً مختلفاً أكثر خفةً وحركةً وكرنفالية. وبينما نلحظ النمط نفسه الذي يشبه ذاك في باقي اللوحات، تحضر الآلات الإيقاعية بشكلٍ أكبر مع أصوات مختلفة كالأجراس والصفير وآلات كالترومبيت والغيتار والهارمونيوم لتعطي الإيحاء باللحركات والإشارات المبالغ فيها في تناسقٍ مع صورة نمطية إيطالية أيضاً.

تقع خامس اللوحات في هلسنكي الفنلندية، وإذا كانت سابقتها الأكثر كوميدية في الفيلم كله فإن اللوحة الأخيرة هي الأثقل والأكثر برودةً. ففي أطراف المدينة الصناعية يُقل سائق أجرة منهك مجموعة من الرجال الثملين، الذين يحاولون تهوين الأمور على صديقهم الذي يمر بمأساة شخصية وينتهي الأمر بهم جمهوراً لمأساة السائق الكبيرة وقصته عن الفقدان واليأس.

ترتبط طبيعة هذه القصة الباردة والمظلمة بالمدينة نفسها وغطائها الثلجي الكثيف، الذي يشقه سائقٌ وحيد لا يستطيع الفرار من مأساة كبيرة يدرك أن أحداً لن يستطيع فهمها أو الإحساس بها، كما توحي بذلك المدينة ذاتها، التي ترسم المسافات الكبيرة بين أبنيتها إحساساً بالبعد يرافق برودها.

ترافق الصورة في هذه اللوحة موسيقى معتمدة على باص وتشيلو أكثر حضوراً وثقلاً، ولحنٍ على الكلارينيت تتداخل فيه أصوات الترومبيت المكتوم والأكورديون، لتخلق قطعة موسيقية لحنية ومتناسقة تصنف كفالتز.

تلعب الموسيقى في فيلم Night on Earth دوراً مكملاً للصورة الليلية وتساهم في تطوير وإغناء القصص والشخصيات والجو العام التي نجد مثيلات لها في أعمال ويتس نفسه، وتخلق جواً من القلق والحيوية والتنوع. ورغم أن الألبوم قد لا يكون الأبرز أو الأهم عند مستمعيه الشغوفين، إلا أنه ينجح في استثارة المشاعر ونقل المستمع إلى أماكن مختلفة عبر أسطورة عن الهرب بحد ذاته.

كما أنه يعد أبرز نتائج التعاون بين ويتس وجارموش الذي لم ينحصر بالموسيقى والعلاقة بين مخرجٍ ومؤلف كالتي نجدها عند أمثال سيجريو ليون وإينيو موريكوني، أو هيتشكوك وبيرنارد هيرمان مثلاً. إذ أدى ويتس أدواراً في أفلام جارموش، كان آخرها The Dead Don't Die الذي أدى فيه دور رجلٍ يعيش على أطراف الحضارة البشرية ويراقبها بينما تنهشها جموع الموتى الأحياء، ويذكرنا باهتمامٍ مشترك بين الاثنين بـ "الأشخاص فاقدي الطموح والمهمشين" كما يقول جارموش.

دلالات

المساهمون