"الشعبونية" عادة نابلسية يطاولها التغيير

"الشعبونية" عادة نابلسية يطاولها التغيير

26 ابريل 2019
الحلويات النابلسية من أساسيات "الشعبونية" (عصام الريماوي/ الأناضول)
+ الخط -

من العادات الاجتماعية التي حافظ عليها الفلسطينيون منذ مئات السنين، ما يُعرف بـ"الشعبونية"، نسبة إلى شهر شعبان، وهو الشهر الجاري، خصوصاً في مدينة نابلس المعروفة بحلوياتها

في نابلس، شمالي الضفة الغربية، تتميز الاحتفالات بعادة "الشعبونية" العريقة، أكثر من بقية المدن الفلسطينية. ففي هذه الاحتفالية المرتبطة بشهر شعبان، يتولى "كبير العائلة" أو من ينوب عنه من أبنائه، الدعوة إلى صلة الرحم. توجه تلك الدعوة إلى الأخوات والبنات وبنات الأعمام ليأتين رفقة أبنائهن إلى مأدبة غداء، يتبعها تناول الحلويات النابلسية المشهورة مثل الكنافة. وفي الليل تكون السهرة العائلية بحضور الرجال أيضاً، وتكتنفها الأجواء المرحة، واسترجاع الذكريات.




ومع اقتصار "الشعبونية" هذه الأيام على مأدبة غداء، فقد كانت، حتى فترة وجيزة لا تزيد عن أربعين عاماً، بطقوس مختلفة، ومنها أنّ المدعوات كنّ يبتن في بيت الداعي مع أطفالهن مدة تتراوح ما بين ثلاثة أيام وأسبوع، فتُعَدّ الولائم، وتقام السهرات، حتى مطلع الفجر.

هذه اللّمة العائلية لم تكن للميسورين والأغنياء فقط، فالعائلات المتوسطة والفقيرة ليست محرومة منها، لكنّ اتساعها لديهم لم يكن باتساع الفئة الأولى، إذ تنحصر في الأرحام القريبة، وليوم واحد فقط، مع ما تيسر من ضيافة. لكنّ الشعبونية بكلّ أحوالها فرصة لصلة الرحم و"كسب الأجر والثواب من رب العباد".

طقوس الشهر الهجري في هذه المدينة لا تقف عند إطعام الطعام، فهي من أشهر المدن الفلسطينية احتفالاً بليلة النصف من شعبان، لا سيما أنّ نابلس معروفة بالنزعة الصوفية. فمع قرب غروب شمس الرابع عشر من شعبان تبدأ الاستعدادات لما يُعرف بـ"ليلة الشعلة"؛ إذ تنطلق المواكب من أمام الزوايا الصوفية كزاوية الشيخ نظمي، يتقدمها الأطفال وهم يحملون المشاعل، رفقة حملة البيارق الملونة وقارعي الطبول، لتجوب البلدة القديمة منها، بينما يتضمن الاحتفال فعاليات ترفيهية للأطفال مع ابتهالات ومدائح نبوية، وفقرة خاصة لحكواتي نابلس.

الحاجة أم وائل (68 عاماً) تستذكر تلك الأيام، فترتسم على وجنتيها ابتسامة، وتقول لـ"العربي الجديد": "أذكر عندما كان جدّي وأخوالي يأتون إلى بيتنا أول شهر شعبان، ويدعون والدتي للحضور في أول خميس من الشهر لقضاء الشعبونية عندهم، وأجلس أعد الساعات لليوم الموعود، لأنني سألتقي بالبنات من جيلي، نلعب ونلهو في ساحة المنزل وحول بركة الماء". كانت والدة أم وائل وخالاتها ومعهن زوجات أخوالها، يستيقظن من الفجر، لإعداد الطعام، وتبدأ رائحة الطبيخ تنتشر في أجواء الحي، وتكتمل الفرحة بالاجتماع على مائدة واحدة تمتد عبر الساحة الكبيرة تظللها الأشجار ودوالي العنب، ولا يسمع غير صوت نافورة البركة وضرب الملاعق بالصحون.

بالرغم من "الأشغال الشاقة"، فإنّ النسوة كنّ يتزين في ساعات النهار، ويلبسن أجمل ما لديهن في ساعات المساء، ويجتمعن على ضوء القمر، يتسامرن ويتحدثن ويستمعن إلى القصص والنوادر، ولا تخلو السهرة من الرقص الشعبي على صوت الطبل والدف بأداء جماعي جميل ومتناسق.

ولأنّ التغيير بات سمة العصر، فقد طاول كذلك "الشعبونية"، وأكثر ما يمكن ملاحظته هو تحوّل هذه العادة إلى موسم لتحصيل الرزق لدى بعض العائلات، وتحديداً النساء. حتى المطاعم تسعى إلى الرزق فيها أيضاً، فنسبة لا بأس بها من الأسر النابلسية باتت تعتمد اليوم، أكثر من أي وقت مضى، على الطعام الجاهز.

وهذا التحوّل في إعداد الطعام خارج المنزل لا يعيب "الشعبونية" أو ينتقص من قدر المدعوين، فالأوضاع الحياتية الآن اختلفت عن السابق، إذ إنّ أم خالد (55 عاماً) وبعد زواج ابنها وابنتيها وانشغالهم بأطفالهم، بالإضافة إلى كونهم جميعاً يعملون في وظائف، لم يعد هناك من يساعدها في التحضير للعزومة، لذلك اعتمدت هذه السنة على إحضار الطعام من الخارج. تقول لـ"العربي الجديد": "لنا جارة فقيرة الحال، لكنّها فنانة في الطبخ، أوفّر لها المقادير من الأرز واللحم، فتعدّ هي الطعام مقابل مبلغ مالي يعينها على الأوضاع المعيشية القاسية، وهكذا تفعل بقية الجارات".

كذلك إيمان، ابنة الثلاثين عاماً، فهي أيضاً موظفة ولديها طفل صغير، تعتمد على مطعم راقٍ لتحضير الطعام، فبنات جيلها بمعظمهن يفعلن ذلك. توضح لـ"العربي الجديد" أنّ "الطبخ لعزومة كبيرة يحتاج إلى ساعات وساعات، عدا عن الجهد والتعب الجسدي، فنوفر هذا الشقاء على أنفسنا، بالاتفاق مع مطعم يجلب الطعام ساخناً في الوقت المحدد".

أما عائلات أخرى، فتدعو الأقارب إلى تناول الطعام خارج البيت، إذ إنّ نظام السكن السائد اليوم في شقق متوسطة أو صغيرة الحجم ضمن عمارات سكنية كبيرة، يدفع البعض إلى دعوة أقاربه إلى تناول الشعبونية في المطاعم. يقول عبد الله حمد، لـ"العربي الجديد": "ليست لديّ مساحة كافية لاستقبال أقاربي الذين قد يزيد عددهم عن 30 شخصاً في بيتي الذي لا تزيد مساحته عن 120 متراً مربعاً، فهو لا يتسع لهم من دون أدنى شك". يضحك: "من أين أجلب 30 كرسياً؟". ويقرّ حمد بأنّ ذلك يضيّع عليهم كثيراً من طقوس "الشعبونية" كما أنّ الكلفة عالية، لكن "لا بديل، فالمهم كسب الأجر" ولقاء الأحبة وتغيير الأجواء، وقبل كلّ شيء المحافظة على العادة النابلسية الرائعة".




الحال نفسها تمتد إلى الحلويات، فقليلون ما زالوا يتمسكون بصنعها داخل المنزل، كما يشير مجدي أبو صالحة، وهو صاحب محل حلويات شهير في نابلس، في حديث إلى "العربي الجديد". لذلك، يعدّ شعبان موسماً لهم بات يضاهي رمضان في البيع. يقول: "نحن نصنع تلك الحلويات بالتواصي، بمعنى أنّ صاحب الشعبونية يحجز موعداً قبل أيام لنعدّ له طلبه في اليوم المحدد، نظراً للإقبال الكثيف على الحلويات". ويؤكد أبو صالحة أنّ هذه العادة أثرت على مجمل الحركة التجارية في مدينة نابلس إيجاباً، فاستهلاك الطحين والسكر والفستق والجوز واللوز والجبن يتضاعف: "هذا بالنسبة لنا كبائعي حلويات، والأمر نفسه في بقية القطاعات، كالمطاعم ومحلات الهدايا والأدوات المنزلية".