رمضان عكا... لن تجدوا مكاناً مثلها

رمضان عكا... لن تجدوا مكاناً مثلها

12 يونيو 2018
متعة للكبار والصغار (العربي الجديد)
+ الخط -
تشتهر مدينة عكا الفلسطينية التاريخية في الأراضي المحتلة عام 1948 بحفاظ سكانها على تراثهم العريق، ما يجعلها وجهة اعتيادية للزائرين الذي يقصدون بحرها وأسواقها في شهر رمضان والأعياد خصوصاً

ليست مدينة عكا الفلسطينية المحتلة كغيرها من مدن وقرى الداخل الفلسطيني في شهر رمضان المبارك، فبمجرد دخول الزائر إليها ستبهره، ليس ببحرها وأسوارها فحسب، لكن بأجوائها التي تمزج بين الحاضر والماضي، بين عبق التاريخ والتراث والأصالة، وبهويتها المميزة وأهلها البسطاء وخفة دمهم، وهي التي تجتذب خلال الشهر الفضيل والعيد نحو نصف مليون زائر وفق بعض التقديرات.

كأنّ هذه المدينة الجميلة تقول لزائريها: "أنا عكا، سيدة مدن فلسطين، أنا التاريخ والحاضر، أنا التي أسحركم وأبهركم كلّ عام فتأتونني من جديد. أنا المكان الوحيد في فلسطين التاريخية الذي تستطيعون أن تعيشوا فيه بعض أجواء الماضي وعراقته، وأن تشموا شيئاً من رائحته، وأوفر لكم بأدوات الحاضر ما يُبهجكم، أنا فرحة الصغير وبسمة الكبير... ولأنّي أنا عكا تأتونني من كلّ مكان، فأتزين لكم كعروس ولدت في الألف الثالث قبل الميلاد، لكنّها تبقى فتية لا تهرم".



تنبض بالفرح
عكا في رمضان والعيد تملؤها الزينة والإضاءة الجميلة. تركض في حواريها الخيول، تجر العربات بمن حملت، وتنطلق قواربها في البحر وتعج أزقتها بالناس، فينتعش اقتصاد أهلها، الذين ينظرون إلى رمضان والأعياد كرافعة اقتصادية، تدعم صمودهم في ظل صعوبات الحياة التي تواجههم وتضييق المؤسسة الإسرائيلية عليهم. عكا رمضان والأعياد لا تشبه الفرح لكنّها الفرح عينه، بأناقتها وخفة ظل أهلها ورحابة صدرهم، بسهراتها وأجوائها وزينتها، بحجارتها وبيوتها وكلّ شيء فيها.

في خان الشواردة أو ما يعرف أيضاً بخان التجار، الذي يُعتقد أنّه يعود إلى القرن الثامن عشر وحقبة القائد ظاهر العمر الزيداني، يقف رازي عودة عند عربته المزيّنة، يبيع الترمس والفول الساخن. يتوسط ساحة الخان، وينتشر الناس من حوله في مقاهي المباني العتيقة. يقول لـ"العربي الجديد": "عكا مميزة ومختلفة، خصوصاً في المناسبات والأعياد". يتحدى: "هل رأيت مثل أجواء عكا في أيّ مكان آخر؟ لن تجد حتى لو ذهبت إلى كلّ العالم. تجتذب الناس من كلّ مكان. في نهار رمضان ينصرف الناس أكثر إلى التسوق فتكون الأجواء هادئة نسبياً، لكن في ساعات ما بعد الإفطار تنقلب الحياة رأساً على عقب، وكأنّ الروح تدبّ من جديد وبقوة في عكا، فنجد أنّ المقاهي قد امتلأت بالناس والعائلات، وكذلك الشوارع والأزقة. تجد أيضاً عربات الخيول تعمل كلّها. يقصد الجميع عكا من كلّ مكان لكي يروّحوا عن أنفسهم قليلاً، وبالتأكيد هذا فيه أيضاً منفعة اقتصادية لأهالي المدينة".

محمد حلف، من بلدة عرب الحلف، يقف على مقربة من عربة الترمس والفول، ويؤكد كلام عودة، وهو الذي وصل خصيصاً إلى عكا مع العائلة ليستمتع بأجوائها: "أجواء عكا مميزة جداً، في بحرها وبرّها، ولذلك نقصدها دائماً مع العائلة والأصدقاء، وعادة خلال شهر رمضان المبارك نزورها 4 مرات على الأقل بمعدل مرة أسبوعياً، في نهاية الأسبوع. نشعر أنّ عكا هي عنوان لهذه الأجواء الجميلة، التي لا نجدها في أيّ مكان آخر. إنّها مدينة تنبض بالفرح بالرغم من ظروفها، وتبعث على السعادة".

حناطير
مع التوغل في عكا، باتجاه الميناء، تلتهم الحناطير الأزقة، ذهاباً وإياباً، تنبعث منها أصوات الموسيقى، وأصوات أجمل لأطفال صغار يضحكون مع عائلاتهم السعيدة بالرحلة. وسط انهماكه مع ركاب عربة حصانه، يقول صاحب الحنطور، محمد زكور: "الحمد لله نحن نهيء أجواء جميلة في عكا، خصوصاً خلال شهر رمضان المبارك وأعياد مختلف الطوائف. لا تجد في أيّ مكان آخر في البلاد مدينة تجمع بين السفن والحناطير، بين البحر والبلدة القديمة، وهذا الفرح الكبير. عدا عن كون عكا جميلة جداً بطبيعتها، وتاريخها، وآثارها وبحرها وناسها، فنحن أيضاً بمبادراتنا نزيد الجمال جمالًا ونرحّب بزائرينا بما يليق بهم، وهم الذين يأتون من مختلف البلدات والمناطق، من مختلف أرجاء فلسطين المحتلة. نقولها بثقة: لا توجد أجواء مثل أجواء عكا. نحن متمسكون بأرضنا وبلدنا وبهذه الأجواء الجميلة، التي تعطينا دفعة جيدة على طريق الصمود والبقاء".

يتابع زكور أنّ "الحنطور ما زال يحافظ على قيمته في عكا. هذا جزء من تراثنا أباً عن جد كما نقول. والتمسك بالحنطور في عكا ليس بالأمر السهل كما قد يظن البعض، فقد واجهتنا صعوبات كبيرة من قبل البلدية (الإسرائيلية) التي حاولت استهدافنا مراراً وتكراراً، والتضييق علينا، لكنّنا كافحنا وصمدنا وحافظنا على هذا الإرث. البلدية ترافقها الشرطة، تضغط علينا وتحاول تحديد مساراتنا والنيل منا، لكنّنا نحافظ على هذا التقليد لأنّه يجري في دمائنا وليس مجرد تجارة، فصحيح أنّ هذا المجال يوفر باب رزق لنا، لكنّه أيضاً تراث، ليس لأهالي عكا فحسب، لكن للعروبة كلها. قبل بضع سنوات، صادرت البلدية والشرطة عدداً من خيولي، ومع هذا لم أتنازل بل عزمت على المضي قدماً. ولا شك في أنّ هذه الحركة النشطة في رمضان تقوّينا جداً وتدعم صمودنا".




عصير
على بعد بضع خطوات يبيع حسن حلواني العصير. وجهه يحمل ابتسامة كبيرة تنافس الفواكه والحمضيات الكثيرة التي تحيط به. يقول لـ"العربي الجديد": "رمضان فيه ميزات كثيرة كما نعلم جميعاً، فهو شهر العبادة، والصيام والتقرب إلى الله تعالى، كما أنّه شهر يتميّز بالكرم والأعمال الصالحة، وكذلك فإنّه شهر جميل جداً في عكا، ويضفي عليها أجواء رائعة". يتابع: "عكا مدينة سياحية بطبيعتها وتجتذب الكثير من الزائرين العرب والأجانب وغيرهم، لا سيما في نهاية الأسبوع، وفي رمضان، ومع انتهاء صلاة التراويح، تجد أنّ البلدة القديمة من عكا تعج بالناس من كل البلدات المجاورة وحتى البعيدة، فيركبون السفن والحناطير، ويشربون العصير ويأكلون ويقصدون المقاهي، يتجولون في الميناء، يرفهون عن أنفسهم ويسعدون هنا. وفي العيد نجد أنّ الأجواء تزداد جمالًا فوق جمالها. أكثر من نصف مليون إنسان يزورون عكا في أيام العيد وأواخر رمضان. كيف لا وهي التي تحمل التاريخ، وكانت عليها عيون الحكام في القدم، وذُكرت في الكتب؟ كيف لا وهي إحدى أكثر المدن الفلسطينية التي حافظت على عروبتها وعاداتها ومعالمها؟ حتى البيوت في عكا القديمة تطل على بعضها البعض وتتلاصق كأنّ الجميع هنا عائلة واحدة وما زالت العلاقات الجميلة والطيبة تجمع بين الجيران. الماضي هنا مجبول بالحاضر. ربما بعض المسلسلات التي فيها شيء من التاريخ والتراث تذكّر الناس بعكا، وتكتمل الصورة عندما يجلسون في مقاهي عكا بين الجدران والأسوار والخانات القديمة ويشاهدون تلك المسلسلات التي تُبث في رمضان، فيشعرون بأنّهم جزء من الحدث".

لا يتحدث حسن حلواني عن الانتعاش الذي يبعثه العصير الطازج الذي يعده على عربته في من يشربه، لكن عن انتعاش آخر أيضاً: "شهر رمضان المبارك يشكل رافعة اقتصادية لأهالي عكا القديمة، التي تمر بفترات هادئة جداً تجارياً وسياحياً على مدار العام، ويكون النشاط خلالها خفيفاً، وفي رمضان والأعياد نجد الأسواق تنتعش. أهالي عكا ينتظرون هذه المناسبات لتحقيق أكبر استفادة ممكنة، لكي يتمكنوا خلال الأشهر اللاحقة من الصمود في فترات الركود".



قوارب إلى حيفا
"السفينة السريعة نار... والله لنكَيّف، سفينة الأمواج... أبوك يا الملح إمك يا السكر"، بلهجة محلية وعبارات خاصة يروج محمد عماش وحسن زكور لقواربهما الحمراء السريعة في ميناء عكا. ما إن يمتلئ أحدها بالركاب، حتى ينطلق مسرعاً في عرض البحر وسط صراخ الركاب المستمتعين. يقول زكور لـ"العربي الجديد": "شهر رمضان أجمل ما يكون في عكا. نحن ننتظر هذا الشهر الفضيل دائماً على أحرّ من الجمر. لا نخفي أنّ ساعات ما بعد الإفطار فيها منفعة اقتصادية لأهالي عكا القديمة، خصوصاً أنّ الأوضاع تشهد ركوداً ما بعد الأعياد وخارج المناسبات. وهناك فرق كبير في ساعات ما قبل الإفطار وبعد الإفطار في نشاط الحركة".




بدوره، يقول عماش لـ"العربي الجديد": "عملنا تطور في الجولات البحرية، فبات بإمكاننا الوصول إلى حيفا بحراً والعودة مجدداً. أهالي عكا بسطاء ودمهم خفيف وفي الوقت نفسه "جدعان"، وهذا يساعدنا أيضاً على استقطاب الزائرين". يقطع كلامه ويعود إلى المناداة مع رؤيته مجموعة زائرين تقترب: "السفينة الحمرا نار... نار السريعة نار".