شاهدتُ قارئاً تحت المنضدة

شاهدتُ قارئاً تحت المنضدة

13 ابريل 2020
إبراهيم بريمو/ سورية
+ الخط -

لم يتوار عن ذهن سعيد ذلك اليوم حينما أستيقظ صباحاً، وتفحّص بريده الإلكتروني، فوجد الرسالة الأغلى في حياته. إحدى أهم دور النشر في أميركا تطلب التواصل معه للاتفاق حول ترجمة روايته الأخيرة إلى الإنكليزية. لم يكن يفهم ما كُتب في الرسالة بشكل واضح حتى بعثها إلى عاصف؛ مهندس الحاسوب وصديقه المقرّب الذي طالما كان يعتمد عليه في تيسير أموره؛ حيث أعانه في قراءة بنود العقد وكتابة موافقته وإرسالها إلى الدار.

ومثلما تخيّل تماماً بعد صدورالطبعة الإنكليزية، توجّهت كل الأضواء نحوه وأصبح بين ليلة وضحاها ضمن أشهر الكُتّاب في محيطه الإقليمي، هذا ما تداولته عناوين الصحف وقتها. ومع أنه قد تنبّأ بحدوث ذلك، إلّا أنه أوضح في إحدى المقابلات المباشرة مع الجمهور قلقه من الشهرة، ومن احتمالية أن يفقد خصوصيته ووقته لأجل الآخرين، وأضاف مع إبتسامة صغيرة أنه اضطر في الأيام التي تلت صدور روايته أن يغيب عن الأنظار ويمتنع عن الذهاب إلى الأماكن العامة، أو المطاعم المشهورة إلا للضرورة الملحّة.

قال بطريقة تهكمية إنه لم لكن ليحظى بوقت كافٍ لتناول وجبته هناك؛ لأنه سيُحاط بمجموعة كبيرة من المحبّين يطالبونهُ بأن يشاركهم في اتقاط صور سيلفي، وأبدى استغرابه من وجود أشخاص يعرفونه في الأماكن الفقيرة التي يقل فيها اهتمام الناس بالقراءة؛ فقد جرى استقباله مرّةً بحفاوة كبيرة في أحد المطاعم الشعبية الصغيرة. كلّ العاملين هناك قدّموا له التحايا وباركوا له صدور الطبعة الإنكليزية من روايته، وأضاف أنه يتمنّى من قُرّائه أن يلتمسوا له الأعذار لعدم الرد على رسائلهم، لأنه منشغل جدّاً بالقراءة والتخطيط لكتابة عمل جديد. ومع عدد الرسائل التي تصله يومياً، لن يستطيع الرد على أيّ منها، ولو أنه ترك كلّ ما في يديه وسخّر وقته للرد على كل الرسائل لما استطاع أن يردّ على نسبة صغيرة منها.

أنهى الحوار بشكر الجمهور لمساندته الدائمة له، ثم خرج من باب القاعة الخلفي لتفادي الإعلاميين والمحبّين. لكن هذا الوضع لم يستمر طويلاً. بعد أشهر قليلة، تصدّرت روايةٌ لأحد كتّاب جيله قائمة الأكثر مبيعاً، بعد أن حاز جائزة أدبية دولية مرموقة، وخطف كلّ الاضواء. وأسوأ من ذلك، ظهر كثيرٌ من الكتّاب الجدد الذين أخذ كلٌّ منهم حصّته من الاهتمام والتقدير لدى القرّاء ودور النشر، وهذا ما جعل سعيد يخسر سلطته المعنوية التي اعتاد أن يستخدمها مع الآخرين، ممّا أدخله في حفرة عميقة من التوتّر والخوف بسبب قلقه على اسمه من الذوبان. وهكذا قرّر أن يُسرع في إصدار رواية أُخرى. عكف على كتابتها لأشهر، لكنه تفاجأ عندما أكملها وشرع في التواصل مع دار النشر بأنَّ ردّها لم يكن بالحماسة المعتادة.

اتّضح له ذلك عندما ردّ عليه أحد المحرّرين في الدار، وليس مديرها مثل كلّ مرّة. حاول أن يتغاضى عن الموضوع، لأنه واثق بأن الأحترام سيعود حالما تصدر الرواية ويعود اسمه إلى الواجهة من جديد. لذا قدّم الكثير من التنازلات لصالح الدار وتخلّى عن أجره المعتاد. كل ذلك لأنه أدرك خطر الوقت الذي سينجب الكثير من "المشاهير" فينتهي أمرهُ إلى الأبد. كان عليه أنْ يُسارع في عودتهُ إلى الساحة الثقافية بأقرب وقت ممكن، إلّا أنّ ما حدث معه في حفل توقيع روايته التي عنونها "رحلة إلى الجبل الأصفر" كان مخيّباً؛ إذ لم يحضره عدد لائق باسمه وشهرته.

عاد إلى البيت منفعلاً وأخبر زوجته بأنَّ لعبة ما تُحاك ضدّه لصالح أحد منافسيه، زاعماً أنّ الدار تعمّدت التقصير في الحملة الدعائية لكتابه الجديد، وبعد أنّ تكوّر حول نفسه في الغرفة، حمل هاتفه واتّصل بموظف السوشال ميديا في الدار ووبّخه بشدة، بعدها تلقّى ردّاً رسمياً من الدار عبر الإيميل تقول فيه إنّها سخّرت كلّ جهودها في دعم الرواية ولم تبخل بأي شيء لإنجاحها، حتى أنها رصدت للحملة الدعائية للكتاب مبلغاً أكثر بكثير ممّا خصّصته لكتابه السابق؛ فقرّر حينها أن يسلك طريقاً آخر ليتمسّك بما تبقّى من قُرّائه.

فكّر في أنْ يُخصّص وقتاً أكبر للسوشال ميديا للردّ على كل متابعيه، إلّا أنه وبعد أن ردّ على كلّ الرسائل القديمة المعلّقة منذ زمن طويل، لم يستقبل رسالةً واحدة جديدة. صار في كلّ مرّةٍ يفزّ من مكانه ويتوجّه إلى هاتفه ليتفحّص إذا ما تلقّى رسالة جديدة من أحد المتابعين. لاحظت زوجته كل تلك التحوّلات التي طرأت عليه وكانت قلقة جدّاً حيال أمره. حاولت أكثر من مرّة بأن تهوّن عليه وتطلب منه أن يراقب نفسه، ففي الآونة الأخيرة لم يعد يقرأ أو يكتب شيئاً. لم يعد يفعل أي شيء سوى متابعة بريد الرسائل المعطوب.

وبعد عدّة أيام طرأ شيء جديد على حياته؛ إذ تلقّى رسالة جديدة من أحد المتابعين، يخبره فيها بأنه من أنه أحد قرّائه المخلصين، لكنه بعد أن قرأ عمله الأخير لم يجد تلك الخلطة السحرية التي كان يجدها في أعماله السابقة.

احمرّ وجهُه ثم راح يمسك الهاتف بكلتا يديه ويتناوب بين الجلوس على الكنبة والوقوف قربها. فكّر بشكل محموم بأن يختار ردّاً مناسباً له، وفي النهاية أخبره بأنّه يودّ أن يلتقيه ليناقشه حول نوع الكتابة التي حاول أن يخلقها في كتابه الجديد، ويشرح له التحوّل الكبير الذي أحدثه على مستوى الحبكة واللغة في هذا الكتاب، وأنه اختاره من دون نقّاد وصحافيّين كثر ليحاوره في ذلك، ودعاه إلى منزله.

لاحظت زوجته أنّه يتصرّف بطريقة غريبة، حيث راح ينثر الكتب في كل مكان قرب الكنبة، على الطاولة وقرب الخزانة، يضع الكتب ويتراجع خطوات نحو باب الدخول وينظر من هناك، ليتأكّد ممّا إذا كان الضيف سيلاحظ ذلك. ومع دخوله كانت زوجته تراقب ما سيحدث من خلف الستارة، ولاحظت أنه مع العشر دقائق الأولى ارتفع صوته فوق المعتاد، وفجأةً أمسك الضيفَ من ياقة قميصه وجرّه إلى غرفة المكتب، وأقفل عليه الباب من الخارج، ثم راح يفتّش في الدرج ليعود ومعه حزمة من الورق ويدفعها من تحت باب الغرفة وهو يصرخ به قائلاً: "لن تخرج من هذه الغرفة حتى تقرأ لي مجدّداً، ستقرأ كلّ شيء كتبته رغماً عن أنفك".

ردّ عليه الضيف أنه لم يكن يتوّقع أنه قد جُنّ بعد إخفاقه الأخير، لكن هذا لن يجعله يتردّد للحظة واحدة في أن يُقدّم شكوى ضده حالما يخرج من المكان، وبأنه سيخبر السلطات باختطافه وإجباره على القراءة، ثم فتح نافذة الغرفة ليستنجد بالناس لينقذوه من كاتب فقد صوابه.

بعدة مدّة قصيرة، وصل رجال الشرطة إلى المنزل وحرّروا القارئ من قبضة الكاتب. وفي التحقيق بينما كان الضابط يحاول تدوين إفادته، كان سعيد ينظر إلى أسفل الطاولة، ثم يميل برأسه يميناً ويساراً، ثم يفزّ من كرسيه ويستنجد بالشرطة قائلاً: أمسكوه قبل أن يهرب، إنه هناك أسفل المنضدة، ليسأله ضابط التحقيق: من هناك؟ فيرد سعيد: أقسم لكم أنني شاهدت قارئاً تحت المنضدة.


* كاتب من العراق

المساهمون