كتـابة المكـان

كتـابة المكـان

08 سبتمبر 2015
لوحة للفنانة السعودية فاطمة النمر
+ الخط -
عُرف عن عالم الجغرافيا الرائد الإدريسي بأنه كان في مؤلفاته يتحاشى قدر الإمكان الخلط بين التاريخ والجغرافيا.
ومع أنه لم يسبق لي أن تعمّقت في جملة الدوافع التي حدت به إلى هذا التحاشي، فإن بالإمكان توقع على سبيل الافتراض أن أهم هذه الدوافع كامن في تجنب الخنوع للتحوّلات (كي لا أقول التشوهات) التي يخضع لها نقاء الجغرافيا تحت وطأة وقائع التاريخ، ولا سيما الناجمة عن الغزوات الخارجية أو التمدّد الكولونيالي.
على ما يبدو تقصّد الإدريسي من باب أولى أن يكتب الجغرافيا أو أن يرسمها خرائط كما هي في الأصل، وبذا كان طليعياً في تمردّه على نوائب التاريخ والزمان.
على هذا النسق يمكن اعتبار الكثير مما يمكن إدراجه في إطار "أدب المكان" نصوصاً متمردة على وقائع التاريخ.
وتشير دراسات نظرية متعددة إلى أن كتابة المكان في أدبيات الشعوب التي وقعت في براثن الاستعمار كانت شكلاً من أشكال مقاومة الخطاب الكولونيالي.
وبالقدر عينه كان تمثيل المكان المحلي الأصلي في الخطاب الأدبي لدى الشعوب التي انتقلت إلى عهد ما بعد الكولونيالية بمنزلة رد اعتبار لحقائق جرى تغييبها أو تشويهها في النتاجات الأدبية والفنية لوكلاء الذاكرة الجماعية لدى الطرف المستعمر، التي بدورها كانت إفرازاً لتمركز هذا المستعمر حول ذاته ولرؤيته الاستعلائية إزاء الآخر.

اقرأ أيضاً: قصة قصر!

سبق ان أشرنا ضمن هذه الزاوية إلى أن فكرة استعمار فلسطين صهيونياً قامت منذ أواخر القرن التاسع عشر على أساس الإحلال الذي يستلزم من بين أشياء أخرى الإقصاء والتدمير الثقافي.
وتدمير الماضي العربي والإسلامي لفلسطين لم يقتصر على الجانب الماديّ فحسب، وإنما أيضاً شمل الجانب الثقافي (جرى التلميح في الوثائق الإسرائيلية المتعلقة بهذا الجانب إلى أن الغاية القصوى من وراء هذا التدمير هو أن تكف الأرض عن "تنّفس جذور الثقافة")، وجرى ذلك كله داخل إطار أوسع هو سعي الحركة الصهيونية إلى اغتيال الهوية الفلسطينية بمدى ما أنها هوية ثقافية بالأساس.
وأكدنا في السياق نفسه أن هذا التدمير ارتبط ببرمجة "الذاكرة الجماعية" وتصميمها. وكما أثبت باحثون كثر، شكّل الحيّز المكاني واحداً من أهم حلبات الصراع على شكل ومضمون تصميم الذاكرة الجماعية لطرفي الصراع الإسرائيلي والفلسطيني في شتى أرجاء فلسطين التاريخية.
ولفت أحد هؤلاء الباحثين إلى أنه من الضرورة بمكان التأكيد بداية، أن وكلاء تصميم الذاكرة لدى الطرف الصهيوني أدركوا في وعيهم الكامل بادئ ذي بدء، أن الصراع يرتكز بشكل رئيسيّ على مبدأ يفيد أن أي ربح لطرف يعني خسارة تامة للطرف الآخر، وأن كل طبقة ذاكرة تُبنى لدعم مطالب مشروعهم الاستيطاني الإحلالي من المفروض أن تأتي لتغطية طبقة من طبقات الذاكرة العربية والفلسطينية المتجذرّة في الأرض.
ووفقاً لهذا الباحث (م. كبها) لم تقف الأمور عند هذا الحد، بل إن الهيئات المسؤولة في المؤسسات الصهيونية انتهجت سياسة تخطيط واضحة لتغيير هوية الأرض إضافة إلى تغيير ملكيتها وأساساً من خلال محاولة إحياء المسميات التوراتية ونسبها إلى كل ما هو غير ما هي عليه، فضلاً عن نسب تسميات جديدة تحيي رموز المشروع الصهيوني منذ بدايته، كالمتبرعين أو الذين "سقطوا" في سبيل تجسيد المشروع.
وبموجب وثائق الحركة الصهيونية في تلك الفترة، كانت ثمة تعليمات واضحة أصدرت إلى جميع العاملين في الحقل تطالبهم باستعمال التسميات الجديدة وضرورة تجاهل التسميات العربية.
على سبيل المثال وردت في تعليمات أصدرها يتسحاق بن تسفي (لاحقاً أصبح الرئيس الثاني لدولة إسرائيل) للعاملين في القسم العربي في "الوكالة اليهودية" توجيهات حول ضرورة البحث والتنقيب في القرى العربية عن آثار ومقامات يمكن نسبها للديانة اليهودية من خلال تهويد أسمائها، على اعتبار "أن الاسم العبري رمز يحمل قيمة سامية المعنى والدلالة، من شأنها أن تبرز الهوية القومية اليهودية وأن تقوّي صلات الشعب اليهودي بأرضه".
غير أن "كتابة المكان" في الثقافة العربية لم تقتصر على فلسطين التي حطّ بها غزو كولونيالي عمل على تغيير معالم هذا المكان، بل شملت مناطق جغرافية أخرى أيضاً.
وأشك مثلاً فيما إذا كان يمكن استعادة "تاريخ المكان" في عمّان في النصف الأول من القرن الفائت من دون قراءة كتاب عبد الرحمن منيف "سيرة مدينة- عمّان في الأربعينيات".
وسواء قصد أو لم يقصد، استطاع منيف في هذا الكتاب أن يبرز تاريخ المكان في عمان إبان واحدة من فتراتها الأهم، إذ لصق تصوير انعكاس الأحداث التاريخية في ذلك الوقت وتأثيرها على حياته اليومية كطفل يمثل الجيل الصغير آنذاك وعلى حياة جدته التي تمثل الجيل الأكبر.

المساهمون