مهرجان القاهرة السينمائي الدولي:37 دورة والانهيار لا يزال طاغياً

مهرجان القاهرة السينمائي الدولي:37 دورة والانهيار لا يزال طاغياً

16 نوفمبر 2015
افتتاح الدورة السابعة والثلاثين لمهرجان القاهرة السينمائي
+ الخط -
لا يختلف "مهرجان القاهرة السينمائيّ الدولي" ـ الذي تُقام دورته الـ 37 بين 11 و 20 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي عن مهرجانات مُقامة في مدن عربية تتوق كلّها إلى اكتساب صفة "دولي"، وإن لم تتوصّل لغاية الآن، على الرغم من أعوامها الطويلة واختباراتها المختلفة، إلى امتلاك ركائز ثابتة تحصّن خطواتها المتقدّمة إلى الأمام. مهرجان قديم هو، إذ يتأسّس في العام 1976، أي بعد ثلاثة أعوام فقط على "انتصار" يتحقّق في "حرب أكتوبر" (1973) ضد إسرائيل. 

نشأة مطلوبة

الظروف السياسية والتاريخية والثقافية والاجتماعية القائمة في مطلع سبعينيات القرن المنصرم، عاملٌ فعليّ يُفضي إلى إيجاد نشاط سينمائي يمنح القاهرة مكانة دولية، ويُرافق تاريخها العريق في صناعة الصورة الفنية، ويضعها بصفتها "هوليوود الشرق" في واجهة المشهد العربي. لكن "مهرجان القاهرة السينمائي" يتأخّر في التأسيس عن "أيام قرطاج السينمائية" (1966)، ويسبق النشاطات السينمائية في العاصمة السورية بين منتصف خمسينيات القرن الـ 20 وأوائل سبعينياته التي يتمّ تفعيلها وتوحيدها بإنشاء "مهرجان دمشق السينمائي" في العام 1979. غير أن مهرجاني قرطاج ودمشق لم يُصنّفا في الخانة نفسها مع مهرجان القاهرة، لأنهما معنيان بتحديد جغرافي مختلف، وبموعد لا يتطابق والدورات السنوية، إذ إنهما يُقامان مرة واحدة كل عامين. فالأول مرتبط بسينما عربية وأفريقية، والثاني معنيّ بسينما عربية وأميركية لاتينية وآسيوية، وإن تكن فيهما مساحة دولية أيضاً.

التاريخ يحتضن مسارات وتحوّلات كثيرة، خصوصاً أن البدايات الأولى لمهرجان القاهرة تترافق وانقلابا جذريا في العمل السياسي للنظام الحاكم، ما يؤدّي إلى إعلان مقاطعة صارمة لكل أشكال التطبيع مع إسرائيل، على مستوى المهرجان أولاً، وأيضاً على المستويات الثقافية والفنية والاجتماعية المختلفة ثانياً. في اللحظة هذه، يجد مهرجان القاهرة نفسه منخرطاً في صراع سياسي ـ ثقافي، يبدو أنه يستحيل عليه التغاضي عنه حينها. الأسس لا تزال سائدة لغاية اليوم، في ما يتعلّق بمسألة المقاطعة، والبنى التي تُحركّه سنين طويلة "ثابتة"، هي أيضاً، في مهمّتها، بعيداً عن كلّ تجديد ضروري، وعن كلّ فعل تقدّمي بالمعنى العصريّ للتعبير، وعن كلّ رغبة شفّافة وصادقة في مواكبة تحوّلات العالم بمستوياتها كلّها. لذا، فإن مفردة "ترهّل" تلازم المهرجان منذ زمن بعيد، وبعضهم لا يتردّد عن القول إن "الزمن البعيد" هذا عائدٌ إلى فترة رئاسة سعد الدين وهبه بين العامين 1985 و1997 (عام رحيله). لكن وهبه، بشخصيته القوية وعلاقاته المتينة بمراكز نفوذ متعدّدة في أنظمة الحكم القائمة في مصر (ضابط شرطة ينتقل إلى الثقافة والفنون، ويُنتخب في "مجلس الشعب"، ويتبوّأ مناصب فنية وأدبية مختلفة)، قادرٌ على حلّ معضلات تنظيمية وإدارية كثيرة، وإن بشكل آنيّ ومؤقّت، من دون أن يُبدِّل حرفاً واحداً في برنامج "مقاطعة إسرائيل". يُقال إن "صرامته" تمنح المهرجان صفات من شخصيته، دافعة إياه إلى "العالمية"، فإذا بتقرير صادر عن "الاتحاد الدولي لجمعيات المنتجين السينمائيين" في العام 1990 يضعه في المرتبة الثانية في لائحة "أفضل مهرجانات العواصم"، بعد مهرجان لندن وقبل مهرجان استوكهولم.

اقرأ أيضًا: أفلام المحرقة، جمال الصورة وخبث الرسائل

"هذا كلّه قديمٌ. الزمن تغيّر. المهرجان محتاج إلى تأهيل جذري يعيده إلى المشهد الدولي. محتاج إلى انتفاضة داخلية حقيقية، أو إلى صياغة مهرجان آخر يحتلّ مكانه". هذه خلاصات يبوح بها معنيون بالهمّ الثقافي وبالفنون المصرية، ويريدون للمهرجان صورة تشبه المهرجانات الدولية الثابتة في مكانتها العامة. بعضهم القليل يُدرك صعوبة تحقيق هذا، إن لم تكن استحالته: "التداخل الكبير والخطر بين السياسة والسينما بشكل خاص يحول دون تحرير المهرجان من سطوة الأنظمة العسكرية الحاكمة". اختصار المأزق بهذا التعبير حقيقي، يُستَكْمل بالقول إن الانهيارات المختلفة التي تعيشها مصر منذ ما قبل "25 يناير 2011"، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والإعلام، كما في الثقافة والفنون والسياسات المتعلّقة بها، لن تبتعد عن "مهرجان القاهرة". اهتراء يُصيب الجهات كلّها، ما يعني أن لا خلاص قريباً لمهرجان القاهرة، ولا طاقة له على تحقيق برامج إصلاحية جذرية وحقيقية، إن تكن برامج كهذه موجودة فعلياً.

اقرأ أيضًا: عن سينما عربية تصنعها مخرجات شابات

ارتباكات وخلل

الفساد المتنوّع يضرب المهرجان منذ "الانفتاح الاقتصادي الليبرالي" لأنور السادات. هذه مسلّمة أكيدة، تتوضّح عاماً تلو آخر عبر روتين قاتل وتكرار مُملّ للأشكال والمضامين المختلفة الخاصّة بالدورات كلّها، وإن تتضمّن المختارات أفلاماً مهمّة، عربية وغربية معاً. يقول البعض إن "الاتحاد الدولي للمنتجين" لم يكن يريد سحب الصفة الدولية من المهرجان بسبب توقّفه عن تنظيم دورات سنوية إثر "25 يناير" فقط، لأن تراجعه المزري عن البنود الأساسية يبدأ قبل هذا التاريخ بكثير، وهذا عامل يمكن أن يؤدّي إلى سحب الصفة منه. فساد مالي، وفوضى تنظيمية، وصراعات داخلية من أجل منصب أو مصلحة، وانبهار بنجوم "عالميين" يتقاضون بدلاً مالياً ضخماً لقاء ساعات قليلة في القاهرة، مطلقين خلالها تصريحات متشابهة عن "حبّ مصر" و"جمال مصر" و"رفاهية مصر"، في مقابل انفضاض واضح عن أي تفكير بإصلاح الخلل الناشئ بين المهرجان والسينمائيين المصريين أولاً، وبردم الهوّة الكامنة بينه وبين أكثر من جيل سينمائي شباب ثانياً.

الأزمات عديدة: صالات غير مجهّزة بتقنيات حديثة تحترم السينما وصانعيها ومشاهديها والعاملين فيها. فنادق تمتلك تصنيفاً يصل إلى "5 نجوم"، لكنها تكون إما عادية أو أقلّ بقليل أحياناً. المحسوبيات المنكشفة في آلية التعاطي مع الضيوف: الصداقات المبنية على مصالح مشتركة تؤدّي إلى تكريم ضيوف عرب على حساب آخرين، بينما الغالبية الساحقة من النقّاد السينمائيين (المختلفين تماماً عن الصحافيين الفنيين والإعلاميين) يتعرّضون لنوع من تهميش، خصوصاً أن مواجهة النقص المالي في الميزانية تُترجم أولاً في تقليص عدد أيام الدعوة المجانية لهم.

يحاول "مهرجان القاهرة السينمائي الدولي" الحصول على أفضل إنتاجات العام السابق لكل دورة من دوراته. يريد عروضاً أولى للمسابقة الرسمية على الأقلّ، لكنه يصطدم بغياب المهتمّ بأمر كهذا. لن يكون الوضع الأمني المرتبك، والصورة السلبية عن مصر في الخارج، سببان لانفضاض كثيرين عن المهرجان. فهذا الأخير يعاني اضطرابات يُدركها المعنيون بالنتاجات السينمائية، فيُفضّلون عرض نسخ من أعمالهم فيه من دون أن يكون له حقّ العرض الأول. بهذا المعنى، لن يدخل المهرجان إلى الفئة الأولى، كبرلين وكان والبندقية، لأن المتطلّبات منعدمة. مع هذا، تبلغ أفلام كثيرة مرتبة مذهلة من براعة الفن في التقاط نبض الناس والحكايات، غير أنها تُعرض في صالات غير مجهّزة سينمائياً، ما يؤثّر سلباً في لغتها واشتغالاتها.

تساؤلات

البهرجة الاستعراضية جزء من صناعة المهرجان. يُدرك سمير فريد هذا الأمر، فيفصله عن افتتاحٍ ثانٍ متمثّل بدعوة الضيوف جميعهم إلى مشاهدة الفيلم المختار ("القطع" للألماني التركي الأصل فاتح آكين) بعيداً عن صخب الإعلام والأضواء في الليلة السابقة. بينما لم تشأ ماجدة واصف، رئيسة المهرجان في دورته الـ 37 هذه، أن تفصل بينهما، فإذا بالافتتاح يسبق عرض "ريكي والوميض" (2015) لجوناثان ديمي، في ظلّ فوضى تضجّ بها الصالة الكبرى لـ "دار الأوبرا" بين الافتتاح وعرض الفيلم. البهرجة تلك مطلوبة، لكن من دون أن تكون الأساس، خصوصاً أن فنانين وفنانات كثيرين لا يتفاعلون مع المهرجان خارج حفلتي الافتتاح والختام، وهم يشاركون فيهما لإظهار ما يرتدون من أزياء وما يضعون من مجوهرات مثلاً، ولإظهار المهرجان نفسه كحيّز ثقافي ـ فني ـ استعراضيّ متكامل أمام عدسات الكاميرا.

"يُشبه مهرجان القاهرة صورة البلد"، يقول ناقد سينمائي مخضرم يريد البقاء على هامش النشاطات السينمائية والثقافية والفنية كلّها. "البلد منهار. الفساد يأكله من الداخل. لن يستطيع المهرجان تجنّب هذا، لخضوعه للسلطة والنظام القائمين. نحن لسنا في فرنسا أو ألمانيا مثلاً. المآزق الاقتصادية والارتباكات السياسية وقضايا الفساد التي تظهر بين حين وآخر هناك لا تؤثّر إطلاقاً بمهرجاني كان وبرلين، لاستقلالهما التام عن كل سلطة سياسية". هذا واضح لمن يتابع المهرجان المصري، أقلّه منذ نهاية التسعينيات الفائتة. السلطة فاعلة ومؤثّرة، والرقابة تتدخّل كعادتها في كلّ شاردة وواردة متعلّقة بالأفلام المصرية والعربية والغربية طبعاً، وإن ينجح رؤساء سابقون للمهرجان في التخفيف من وطأة سطوتها على أفلام تُعرض في مناسبة فنية ـ ثقافية كهذه.

لن يُنقذ حضورُ "نجوم عالميين" ساعات قليلة إلى القاهرة مهرجانَها هذا. المطلب واضح: تأهيل جذري يستحيل على أحد إجراؤه ما دام جزءا من تأهيل البلد برمّته، وتحريره من "ثقافة الفساد المتنوّع" التي تنخر روحه وبنيانه الماديّ معاً.

(كاتب لبناني)

دلالات

المساهمون