من السماء إلى الأرض

من السماء إلى الأرض

16 نوفمبر 2015
لوحة للفنان الروسي فاسيلي كانديسكي (Getty)
+ الخط -
لئن كان الدكتور، رضوان السيّد، مفكّرًا مشتغلًا بالمعرفة، فإنه في حصيلة الحوار المنشور معه هنا يُقدِم من باب واسع على إنزال المعرفة من سماء النظرية إلى أرض الواقع العربي، كي يُيسّر استعمالها لإدراك هذا الواقع بدايةً، ومن ثمّ للقبض على العوامل التي تعيق نهضته، باعتبار ذلك سبيلًا لا استغناء عنه بغية السعي إلى التجاوز. 

ولا يزال محفورًا في أذهان الكثيرين من أبناء جيلي، على ما أعتقد، أن المعرفة مرتبطة في أحد جوانبها الأكثر أهمية بالعِلم.

وإذا كان العلم ذاته، بحسب عدة مفكرين عالميين، معرفة قبل أي شيء، فمن الواجب الإشارة إلى أن المسلمين من علماء الكلام كانوا لا يفرقون بين العلم والمعرفة، ويعتبرون أن "العلم والمعرفة اسمان واقعان على معنى واحد"، كما أكد ابن حزم، ولذا كان بعضهم يشدّد على أن "كل علم تعلّق بمعلوم، فإنه معرفة له، وكل معرفة لمعلوم فإنها علم به"، وفقًا لما أشار إليه القاضي عبد الجبّار (يمكن للاستزادة العودة إلى كتاب "نظرية المعرفة"، للدكتور عادل السكري).

اقرأ أيضًا: صورة المثقف 

وبرأيي، فإن عدم التفريق بين العلم والمعرفة قد يكون أحد الدوافع التي وقفت وراء المقولة الذاهبة إلى أن "المعارف المتخيّلة تولد من رحم الصمت المطبق للمعارف العلميّة"، والتي سكّها المارتينيكي، إيميه سيزار.

تطلّ من كلام السيّد أفكار عديدة، منها فكرة العلاقة مع الماضي، من زاوية راهنية العودة إليه في المفترقات البارزة أو حتى خلافها، لا يهمّ. وهي فكرة جديرة بالتأمل الآن بالارتباط مع ما يحدث هنا على أرض فلسطين.

وعلى كثرة ما قيل في شأن هذه الفكرة، فإن شاعر فلسطين، محمود درويش، يبقى من أفضل الذين صاغوها على نحو معبّر ولمّاح في ارتباطها مع ما حدث سنة 1948، في مناسبة الذكرى الخمسين للنكبة، من خلال الكلمات التالية: "لا معنى للنظر إلى الوراء إلا لمعرفة أين نحن الآن. ونحن، إذ نحاول قراءة الماضي الذي لم يمضِ بعد، نحاول أن نتجاوز سؤال البقاء إلى سؤال الوجود الحرّ، الذي تحقق فيه الذات حرية محاكمة الذات... فلا يكفي أن نعيد رواية ما فعله الآخرون بنا. بل آن لنا، ونحن نتذكر ذلك، أن نتساءل بين حين وآخر عما فعلنا بأنفسنا، لا لنبرئ التاريخ من دمنا، بل لنعرف كيف لا يضيع دمنا سُدىً، وكيف نفكر بطريقة العودة إلى التاريخ، تاريخنا على الأقل".

اقرأ أيضًا: كتابة المكان

لعل مركز الثقل في هذا المسعى يتمثل في الوعي بالذات.
من هذا الوعي، يمكن أن نستعير اللغة أيضًا، وربما تتحدّد وظيفتها أو بالأصح شروطها، وفي مقدمها شرط تسمية الأشياء بمسمياتها.

في تناقض ذي دلالة، بالارتباط أيضًا مع ما يحدث على أرض فلسطين الآن، نُلاحظ تواترًا في المحاولات الإسرائيلية للنأي عن محاسبة الذات لذاتها إلى ناحية تلميع الصورة فحسب، وخصوصًا منذ الانتفاضة الثانية سنة 2000.

ومع أن من الصعب الجزم بمسألة انعدام الاكتراث الرسمي والإعلامي بتلميع "صورة إسرائيل"، قبل تلك الانتفاضة، إلا أن ما يجدر الالتفات إليه أن هذا الموضوع لم يحتل المرتبة المتقدمة، التي أصبح يحتلها بعد سنة 2000 في سلم الأولويات الإسرائيلية، خلال الأعوام الأولى التي أعقبت إقامة إسرائيل سنة 1948. ويعزو البعض ذلك لا إلى عوامل متعلقة بالخشية أو التحسّب من تداعيات انفضاح الصورة الحقيقية على مواقف الرأي العام العالمي، بشأن جوهر إسرائيل، وإنما إلى انهماك "الآباء البناة" (المؤسسين) في عملية ترسيخ دعائم "الدولة الوليدة"، لكونها "دعائم" انطوت على ارتكاب العديد من الجرائم والآثام والموبقات الأخلاقية، التي لم يتكشف منها سوى النزر اليسير. وقد نُسبت في هذا الموضوع إلى أول رئيس للحكومة الإسرائيلية، ديفيد بن غوريون، مقولة مفادها "إنّ الأمر المهم هو ماذا يفعل اليهود، لا ما سوف يقوله الغوييم (الأغيار)" عن أفعالهم. وفي هذه المقولة إشارة بليغة إلى تغاضي الممارسات التي أعقبت إقامة إسرائيل، عما يمكن أن يترتب عليها من إسقاطات تتعلق بصورتها العامة، ناهيك عن الإصرار عليها عن طريق العمد. وهي- للمعلومية - ممارسات جرت على ركام من ممارسات صهيونية في هذا الشأن، لا تقلّ شدّة ودهاء، أدّت بدورها إلى إقامة "الدولة"، وإلى مكابدة الشعب الفلسطيني شرور تلك الموبقات حتى يومنا هذا. ويؤكد آخرون أنّ هذا التغاضي يتضاد، حتى، مع اكتراث الديانة اليهودية بمسألة الصورة العامة، سواء على المستوى العمومي أو على مستوى الأفراد. وتمثيلًا على هذا الاكتراث يجري دومًا استحضار قول مأثور من تراث الديانة اليهودية، جاء فيه أن "الإنسان يقاس، عادة، بكأس شرابه وجيبه وغضبه"، وأيضًا استحضار الفقرة الاستهلالية للإصحاح السابع من سفر الجامعة في التوراة، والتي ورد فيها أن "الصيت خير من الدهن الطيّب"!.

دلالات

المساهمون