شقوق في جدار إسرائيل

شقوق في جدار إسرائيل

29 ابريل 2018
أفلست كل التكتيكات بالتعامل مع النضال السلمي (ليور مزراحي/Getty)
+ الخط -
لم يمضِ على الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة أكثر من ثلاث سنوات، حتى خرجت إسرائيل بشنّ حرب شاملة على قطاع غزة أواخر عام 2008 بتكتيكات جديدة استخدمت فيها القوة بشكل مفرط من قصف ومدفعية واجتياح مستخدمة أسلحة محرمة دولياً كالفوسفور الأبيض؛ لكن الحرب لم تكن فسحة ونجحت المقاومة حينها في رفع تكلفة الحرب وسقطت الميركافاه في حي الزيتون، لم يكن الاجتياح طويلا ولم تستطع قوة إسرائيل الاحتفاظ بالأرض كثيراً، بنت إسرائيل بعد ذلك استراتيجيتها تجاه غزة على الحرب الشاملة والقصف الجوي والمدفعي والبحري وأعادت الكرّة في حرب عام 2012 ثم حرب عام 2014.
ظنت دوائر صنع القرار في إسرائيل أن استخدام القوة المفرطة والحفاظ على الردع وترميمه يكفيان لردع قطاع غزة، وكانت تبحث عن آليات مواجهة الأنفاق ونصبت بطاريات للتصدي لصواريخ المقاومة، تجهزت وبنت خططها بناء على هذه المعطيات، بدت غزة كمعسكر بإمكان إسرائيل استهدافه وقتما شاءت، لكنها لم تفكر إطلاقاً في قدرة غزة على استحداث أدوات مواجهة استراتيجية تتعدى التكتيك المؤقت، وفي الوقت الذي ظنت فيه إسرائيل أن الحصار والردع قد نالا من غزة واستكملت عرضها بالتأييد الأميركي الذي أفضى للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها حتى استدارت غزة معلنة عن تحول جذري في المواجهة؛ استحدثت مسيرات العودة التي خرجت فيها جماهير غزة صوب الحدود الشرقية لقطاع غزة، فأفلست كل الاستراتيجيات وأفلست كل التكتيكات العسكرية في التعامل مع هذا الفعل الشعبي النضالي السلمي. فما الذي فعلته مسيرة العودة في جدار الخيارات الإسرائيلية العسكرية تجاه غزة؟
لم تنته المسيرات بعد، وبالتالي لا يمكن حصر التداعيات، بل لا يمكن لهذه السطور أن تقدم قراءة وافية كافية عن تبعات هذه المسيرات وما الذي ستفضي إليه لاحقا، هذا لا يمنع إجراء فحص للتبعات الآنية والأولية التي انعكست في السلوك الإسرائيلي تجاه مسيرات العودة في قطاع غزة، والتي يمكن إيجازها في المستويات التالية:

تعريب الخطاب الإسرائيلي
تحتفل إسرائيل هذه الأيام بمرور سبعين عاما على نشأة الدولة، ورغم مرور هذه السنين كلها إلا أنها لم تعد آمنة، إذ لم تنته المواجهة. وقد نجحت مسيرة العودة في إعادة القلق وفي وضع القضية الفلسطينية على خريطة الأحداث، الأمر الذي تطلب أن يتحدث قادة إسرائيل باللغة العربية السلسة المباشرة التي لا تخلو من رجاء وتعكس عمق المأزق، سبعة عقود مرت على نشأة إسرائيل ويخرج وزير أمنها إفيغدور ليبرمان ليحذّر جماهير غزة من الاقتراب من السياج الأمني مع إسرائيل ويخبرهم أنهم يعرضون حياتهم للخطر؛ جاء التحذير مكتوباً بالعربية في "تويتر" على صفحة ليبرمان، هذا السياج الذي يفترض به أن يحمي إسرائيل وسكان الكيبوتسات بات مدخل خطر وتهديد، وها هو ليبرمان الذي يفترض أنه وزير جيش يخاطب جماهير غزة ويحذرها من الاقتراب من السياج الأمني والذي لم يعد آمنا.
وهذا أفيخاي أدرعي، المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي يخرج بلسان عربي مصوّر، يستشهد بالأحاديث الدينية ويستدعي نصوص السنة ويحرم حرق الكاوشوك حتى بات محط تهكم في صفحات التواصل الاجتماعي، لقد بدا الأمر تهكمياً ولم يبق مسؤول إسرائيلي من دون أن يُعرّب لسانه ويخاطب جماهير غزة التي قلبت كل الموازين. هكذا اضطرت إسرائيل للنزول عن الشجرة ومخاطبة جماهير غزة باللغة العربية بعدما كانت تتوعدها بمزيد من القوة والقصف والتصعيد.

المستوى العسكري
مسيرات غزة أخرجت أوراق القوة العسكرية الإسرائيلية من المواجهة، عندما حوّلت جيش إسرائيل ووحدات النخبة إلى شرطة لفض المظاهرات والمسيرات، هكذا بدت الدولة التي تجهزت وراكمت قوتها للحرب، لكن حساباتها لم تذهب إلى أنها ستواجهه سيلاً من البشر استطاع أن يُحيد قوة إسرائيل ويدفعها للتفكير بطرق وحسابات مختلفة وغير مسبوقة، مسيرات العودة مستمرة وممتدة ودائمة وأسبوعيا تستحدث أدوات جديدة من الاعتصام والخيام إلى الكاوشوك والطائرات الورقية الملتهبة التي وصفها تقرير لموقع والا بأنها تسببت حتى الآن في سبع حرائق طاولت مساحات واسعة من الأراضي المزروعة بالقمح وكبدت المزارعين خسائر كبيرة واستنفرت طواقم الإطفاء، كان هذا التقرير أولياً، وسيكون للطائرات الورقية لاحقا ما لها، ستدفع بالمؤسسة العسكرية الإسرائيلية للبحث عن حلول لم تتوقع في أسوأ كوابيسها أنها ستضطر لهذا التحدي.
حتى البعد النفسي لم يغب، عندما أحضر المتظاهرون مجسمات لجنود إسرائيل الأسرى في قطاع غزة. سيستمر هذا الإنهاك ولن يتوقف، ستكون إسرائيل بحاجة لنشر جنودها على طول الحدود في حالة ترقب واستنفار، هكذا عطلت الجماهير المنتفضة في غزة كل ترسانة إسرائيل العسكرية المتطورة.
لم يعد بإمكان جيش إسرائيل الاستمرار في برامجه وتدريباته الطبيعية لم تعد إجازات جنوده وقادته واحتياطه منتظمة، هذه المسيرات أدخلت إسرائيل في حرب استنزاف تجيد الجماهير الفلسطينية استثمارها في حين تقف إسرائيل لتبحث عن آليات مواجهتها في معادلة بدت حتى الآن صفرية. إسرائيل التي دربت جنودها على الحرب ضد قطاع غزة عليها الآن أن تعيد تدريبهم على مواجهة الحشود على الحدود؛ بعدما كانت تدربهم وتبني هياكل مشابهة لأحياء غزة لاجتياحها في الحرب بات عليها مواجهة سيناريو اجتياح هذه الجماهير لحدودها.

المستوى السياسي
نجحت مسيرات العودة في خلق حالة قلق وتوتر بين الأوساط السياسية الإسرائيلية ووصلت حد المطالبة بتشكيل لجان تحقيق فيما يحدث، لم يتوقف الأمر عند النيل من تماسك المؤسسة العسكرية فقط بل امتد للنخبة السياسية أيضا، مسيرة المليون بدت تحديا استراتيجيا تطلب توجّه الجنرال أيزنكوت إلى الحدود وإعلانها منطقة عسكرية مغلقة، غزة التي تمنى قادة إسرائيل يوميا أن تغرق في البحر أغرقت إسرائيل في مستنقع من التحديات، وعطلت كل المشاريع السياسية التي تتحضر لها في المنطقة لم يعد ممكنا الشروع في أي عمل أو مشروع أو تخطيط سياسي لا تكون غزة جزءا أصيلا فيه ومنه، بدا النقاش يدور عن تغيير سياسات التعامل مع غزة، بدأ يدور الحديث عن ميناء ومطار عائم لغزة، بدت غزة جزءا من الاستقطاب السياسي في إسرائيل.
بدأت المستويات السياسية والعسكرية في إسرائيل تتحدث عن ضرورة منع انهيار قطاع غزة، وبدأت تطرح أفكاراً وسيناريوهات، من قبيل نقل الحكم في غزة من حماس إلى السلطة أو إلى تجمع من دول الجامعة العربية. ذهبت الأفكار المطروحة تتحدث عن استثمارات في غزة، بما في ذلك استثمارات من حكومة إسرائيل في إعادة بناء البنى التحتية المدنية، المياه، المجاري، الكهرباء وغيرها. بدأت نخبة إسرائيل تقول غزة يمكنها أن تهددنا بوسائل لم نعرفها بعد، بوباء ينتشر إلى إسرائيل. أو ربما بعلم أبيض يرفع ذات يوم على كل بيوت غزة. ماذا نفعل عندها؟

المستوى الأمني
راهنت الأجهزة الأمنية في إسرائيل أن الأوضاع في قطاع غزة ستقود الناس للخروج ضد حركة حماس، وبنت سيناريوهاتها على هذه الرهانات، فإذا بالناس تخرج ضد إسرائيل وتتجه إلى الحدود وتقيم الخيام هناك، ولا يمكن وصف ما حدث إلا بالفشل الأمني والاستخباراتي الكبير الذي فشل في تقديم قراءة أولية، وإلى اللحظة لم تحسم القراءة الأمنية الإسرائيلية مجريات الأحداث وتطوراتها، يقول يوآف ليمور الخبير العسكري في صحيفة إسرائيل اليوم في وصف مسيرات العودة بأنها شكّلت تحدّياً حقيقياً وجاداً لإسرائيل، ويعترف بأن هذه الأوضاع الأمنية قد تتدحرج وتخرج عن السيطرة ما يعني أسوأ السيناريوهات.
ويصف الجنرال عاموس يادلين؛ الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية "أمان" أن ما حققته مسيرات العودة الشعبية بأن من شأنه أن يُصعّد من مستوى المواجهة، وأن هذه المسيرات تفرض تحديا أمنيا على إسرائيل، ويوضح يادلين في ورقة بحثية نشرها معهد أبحاث الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب، الذي يترأسه، أن الفلسطينيين يعبرون عن انتصارهم على إسرائيل من خلال هذه المسيرات التي أعادت قضيتهم لصدارة الأحداث، ووجدوا فيها استراتيجية جديدة أكثر جدوى في مواجهة إسرائيل، دون الدخول في حرب عسكرية، حتى الآن.

المستوى الإعلامي
عندما سُئلت غولدا مائير لماذا لا تُصعد إسرائيل جهودها الإعلامية؛ أجابت بدهشة بأن هذا ليست ضروريا إذ إن الجميع يعرف أننا محقون. مسيرة العودة نجحت في قلب هذه الرواية، ويصف الصحافي الإسرائيلي ناحومبرنياع التداعيات الإعلامية لمسيرة العودة في صحيفة يديعوت يوم الثامن من شهر إبريل/ نيسان بأن المعركة هي على الرواية، على الوعي. "لا توجد هنا قصة أخرى"، قال لي في الغداة أحد قادة الجيش الإسرائيلي. السؤال هو كيف يتخذ هذا اليوم صورته في عيون الإسرائيليين، في عيون الغزيين، في عيون الفلسطينيين في الضفة، في عيون الرأي العام في الدول العربية، في عيون حكومات الغرب. خمس جبهات مختلفة. كل واحدة وسياستها. إسرائيل لا يمكنها أن تنتصر في مثل هذه المواجهة. يمكنها فقط ألا تخسر.
إسرائيل قتلت في يوم الجمعة الثالثة تسعة شهداء، أحدهم كان الصحافي ياسر مرتجى، الذي جرت جنازته في غزة بمشاركة شعبية واسعة. يصف ناحوم موت مرتجى بأنه هو الضرر الأكبر للكفاح الإسرائيلي، يقول في سبيل الرواية في أثناء نهاية الأسبوع سألت جهة مسؤولة في الجيش الإسرائيلي كيف حصل أن شخصا يرتدي سترة واقية ومكتوب عليها صحافة بالإنكليزية قتل بالنار.
تدحرجت التبعات الإعلامية ففصلت إسرائيل مذيعاً إخبارياً، بعد منشور له عبّر من خلاله عن أسفه كونه إسرائيلياً بعد سقوط ضحايا فلسطينيين في أحداث قطاع غزّة، ليردّ عليه ليبرمان قائلاً: "نحن أيضاً نخجل بسبب وجود مُذيع مثل كوبي في إذاعة الجيش، ومن الأفضل أن تغادر الإذاعة". لقد كشفت هذه المسيرات صورة إسرائيل وهي تستخدم قوة مفرطة تجاه المتظاهرين. فقط من أجل منع المتظاهرين من اجتياز السياج الأمني.
دفعت إسرائيل الثمن ومنيت بخسائر قاسية، تلقت انتقادات دولية قاسية وخطرة لم تسمع بها منذ سنوات طويلة، وعادت القضية الفلسطينية للصدارة الدولية، ولولا الدعم الأميركي للموقف الإسرائيلي، لكانت لجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة في طريقها إليها. يقول يادلين عما يحدث على الحدود لقد تجلت العزلة التي تعانيها إسرائيل في أروقة الأمم المتحدة، خاصة في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فضلا عن الانتقادات الداخلية التي ظهرت داخلها حول التساهل في تعليمات إطلاق النار باتجاه المتظاهرين الفلسطينيين، وما قيل عن عدم التناسب في استخدام القوة، وعدم اللجوء لوسائل لتفريق المتظاهرين الذين حاولوا اجتياز الحدود دون إيقاع ضحايا في صفوفهم.

المساهمون