العودة إلى حمص القديمة ليس كالخروج منها

العودة إلى حمص القديمة ليس كالخروج منها

19 مايو 2014
الآلاف خسروا منازلهم في حمص القديمة (فرانس برس/Getty)
+ الخط -

طغى مشهد خروج مقاتلي حمص القديمة ضمن الاتفاق الأخير الذي رعته الأمم المتحدة على مشهدٍ آخر لم ينل نصيبه من الضوء، إذ لم يكن أقل تأثيراً من خروج المحاصرين من تلك البقعة التي قاتلوا فيها على مدى عامين ليُبعدوا في النهاية عبر تسوية، إلا أولئك المدنيين الذين دخلوا أحياءهم القديمة كسيل بشري لرؤية ما تبقى من منازلهم في مشهد أقرب ما يكون للسينمائي.

 في العاشر من مايو/ أيّار الجاري دخل آلاف المدنيين بذهوٍل شديدٍ حمص القديمة متفحّصين أحياء وزوايا المدينة. كانوا يبحثون عن منازلهم على الرغم من الدمار الذي غيّب ملامح الأحياء.

أبو مصطفى واحد من الذين لم تخنهم الخطى إلى الدار، يروي لـ"العربي الجديد" عن دخوله المدينة القديمة قائلاً: "كانت مشاعر الفرح كبيرة في الطريق، ربما هي بهجة العودة، أو شعور الاستئناس بالجموع، إذ كانت الأعداد بالآلاف. لكن هذا الشعور لم يدم طويلاً فما إن لاحت أولى مناظر الأبنية المدمّرة واتضحت الصورة على حقيقتها حتى بدأت انهيارات الناس وظهرت تعابير على وجوهها ليس لها توصيف، وباتت الخطى أكثر حذراً".

يتابع الرجل وصف رحلته: "دخلت وزوجتي من حي الحميدية. كان دماره مرعباً. وصلت إلى مؤسسة المياه حيث بقايا الرصاص وشظايا القذائف تملأ المكان. مشيت بجانب مقبرة الكتيب. حتى القبور تبعثرت بفعل القذائف. الشيء الوحيد الذي لم يستطع هول الموقف حجبه هو رائحة الموت التي كانت تفوح من كل زقاق وزاوية، فقد رافقتني حتى وصلت إلى مكان سكني في باب دريب. استمرت الرائحة بينما وقفت أمام منزلي الذي رحلت عنه قبل عامين. منزلي الذي لم يتبق منه شيء".

 

من رأى ليس كمن سمع

 

تناقلت وسائل الإعلام أخبار حمص لحظة بلحظة من بداية الاتفاق إلى خروج المقاتلين وحتى دخول الناس إلى المدينة القديمة، ولكن من رأى على أرض الواقع ليس كمن سمع.

 يعود أبو مصطفى ليصف لحظات دخوله إلى المنزل فيقول: "وقفت مذهولاً لا أعرف من أين أدخل، إذ أنّ واجهة البناء كانت قد تداعت تماماً. استطعت الدخول عبر فجوة في جدار منزل جيراننا، الذي لم يكن أفضل حالاً من منزلنا. لم يبق شيء. وقفنا أنا وزوجتي نتأمل المشهد. لم أتمكن من التحرّك فجلست على كومة من الحجارة. أخذت زوجتي تبحث بين ما تبقى من الأغراض، بينما أخذت أبحث في الذاكرة".

يتابع أبو مصطفى بلكنته الحمصية: "استرجعت بداية الثورة في باب دريب وكيف اشتعلت حمص. لم أتخيل ولو للحظة أن الوضع سيؤول لما هو عليه. لم يدم تفكيري طويلاً فقد أخرجني بكاء زوجتي من تلك الحالة. اقتربت منها ووجدتها تمسك بيدها علم نادي الكرامة، الفريق الرياضي الرسمي لحمص، الذي وجدَته بين الأنقاض. كان ولدي يعلّقه في غرفته. ربما ذكَرها العلم به، فهي لم تره منذ سنتين. فقد هرب بعد أن طلبته المخابرات للتحقيق".

عاش أبو مصطفى في حمص القديمة أكثر من خمسين عاماً متنقلاً بين أحيائها إلى أن استقر في باب دريب، ليراها اليوم بمشهد مختلف تماماً. يتابع:" اعتليت سطح البناء المقابل لمنزلي، بناء من ستة طوابق لم يبق إلا هيكله فقط. خلال صعودي مررت بكل البيوت التي أعرف جميع سكانها، لم يأت منهم أحد ولم يبق من البيوت إلا الخراب. وصلت سطح المبنى الذي يطل على أحياء الخالدية، جب الجندلي، تحت المأذنتين، الحميدية، ومع حجم الدمار لم يعد شيء يحد الرؤية".

يضيف بحسرة: " كنت أفكر في تصوير المشهد عبر كاميرا المحمول، لكن لا أعرف لماذا لم أتمكن من ذلك. ربما ﻷنّني لم أصدق ما رأيت. لم يبق حجر على حجر في حمص القديمة. كأن الساعة قامت هنا. تمنيت لو أنّي لم أشهد هذا اليوم، لم أرغب بالاحتفاظ بصورة في مخيلتي لما رأيت فكيف أوثقها بصورة ".

يؤكد أبو مصطفى بأنّ أهالي حي الغوطة في حمص الجديدة باتوا يكشفون من أحيائهم منطقة سيدي خالد في حمص القديمة، وهذا دليل على تسوية المدينة القديمة بالأرض.

 

قبور في كل مكان

 

انتشر الأهالي في حمص القديمة كل في حيه يتفقدون منازلهم، منهم من يجمع ما تبقى من الذكريات، ومنهم من يلتقط الصور. لم يتمكن أحد من حبس دموعه، إلا الجنود المختالين ببنادقهم بين الناس المحاصرين بالدمار وشعارات الحرية على بقايا الجدران. صرت أسأل نفسي: "كيف عاش هؤلاء الشباب بين هذا الدمار مدة عامين في الجوع والحصار والقصف، وكيف صمدوا كل تلك الفترة؟".

يغرق الرجل الخمسينيّ أكثر في وصف المشهد. يقول: "لا توجد زاوية إلا ودفن فيها أحدهم. القبر صار سنتيمترات من التراب ترتفع عن الأرض غرست فيها قطعة صغيرة من الإسمنت من بقايا حُطام المنازل خط عليها اسم صاحب القبر، وتاريخ وفاته".

يردف أبو مصطفى: "خرجت بعد ساعتين ونصف من المدينة، بناءً على أوامر عناصر النظام. حملت زوجتي بعض الصور وأوراق ثبوتية للمنزل، وفي اليوم التالي قررتُ العودة لأدخل باقي الأحياء القديمة لوحدي. أحسست أني لم أشبع من المدينة، إلا أنّ قوات النظام منعتنا من الدخول بحجة الألغام التي زرعها الثوار قبل خروجهم".

ويؤكد أبو مصطفى أنّ هذا القرار كان "لتمكين الشبيحة من السرقة في اليوم التالي، وما كان السماح بالدخول في اليوم الأول إلا لتصوير الناس وهم يدخلون وعرضها على الإعلام، إذ كان المكان يغص بوسائل إعلام النظام".

أبو مصطفى واحد من آلاف خسروا منازلهم في حمص القديمة، ومئات آلاف السوريين الذين فقدوها في مناطق مختلفة. كتب له أنّ يعود فلا يجد شيئاً، ليبقى السؤال الدائم المرافق لحيرة السوريين: "إلى متى؟".