خميس رصرص.. وغبار أول خيمة لجوء

خميس رصرص.. وغبار أول خيمة لجوء

15 مايو 2014
مخيم الفوار للاجئين بالضفة الغربية (العربي الجديد)
+ الخط -

 
"الخيمة" تأخذك في فلسطين المحتلة إلى الذاكرة العتيقة للألم والويلات التي عاشها الشعب الفلسطيني منذ تهجيره من أرضه عام 1948، عندما قامت العصابات الصهيونية بمهاجمة القرى والأرياف لتخويف الفلاحين وترحيلهم عن أرضهم، وما زالت رائحة غبار الخيمة البالية عالقة في مخيلة اللاجئ المسنّ خميس رصرص (95) عاما أثناء سرده لـ"العربي الجديد" حكاية الهجرة واللجوء إلى مخيم الفوار للاجئين الفلسطينيين جنوب الخليل.

يستذكر رصرص، المولود عام 1920 في بلدة الفالوجة المهجرة على بعد 12 كم من غزة، في بدايات حديثه أيام الأرض وخيراتها، حين كان الجميع يعيش بسلام، بينما كان والده المسن يملك أرضا كبيرة وأبقارا وأغناما، وأخواه اللذان عاشا معاً يفلحون الأرض ويزرعونها دون والدتهم التي توفيت وهو في مرحلة الرضاعة، إلى أن بدأت هجمات العصابات الصهيونية عام 1948-1949 لتقتل وتشرد أكثر من ثمانية آلاف إنسان كانوا يعيشون فيها.

ويقول إنهم مع أول المناوشات التي كانت تجري مع عصابات اليهود قاموا ببيع أبقارهم وأغنامهم ثمناً للسلاح من أجل الدفاع عن أراضيهم وبيّاراتهم الزراعية، التي كانت تشكل كل حياتهم آنذاك، إلا أن الشرطة البريطانية لم تتوان لحظة واحدة عن مساعدة اليهود المهاجمين، فبدأت باعتقال كل من تجد لديه قطعة سلاح "البارودة" كما كانت تسمى.
"استنوا، أخدوها بالليل، نستردها بالنهار" يقولها رصرص كما هي بلهجتها التي كان يرددها على مسامعهم الجيش المصري كلما سقطت قرية من القرى المجاورة بالفالوجة، حيث كان الرجال يستعدون لمحاولة "الفزعة" وصد الهجوم عن تلك القرى، مع الجيش المصري الذي كان يخوض مهام الدفاع عن القرى الفلسطينية التي تتعرض لهجمات العصابات.

ويضيف، زادت هجمات اليهود على القرى المحيطة بالفالوجة، وبدأ الفلاحون بالهجرة نحو القرية طلبا لحماية الجيش المصري، حيث بدأت ضربات اليهود ترمي بثقلها نحوهم، الأمر الذي دفعهم نحو رحلة اللجوء في اتجاه الخليل وقطاع غزة.

ويقول المسن رصرص الذي مازالت معالم النكبة مرسومة على جبينه: "عائلتي تفرقت، أخي الذي كان يحرس الأغنام هاجر إلى الأردن، أما زوجتي وطفلي وشقيقي الآخر فهاجروا إلى قطاع غزة".

وتابع بأن "الجيش المصري توقف عن المقاومة بعد نفاذ ذخيرته، وغادر المكان، بالإضافة إلى هجرة معظم سكان القرية الجميلة، ولم يتبق فيها سوى قرابة 1000 شخص من المسنين والعجزة وأصحاب الأملاك والأراضي، وهو كان من بين الباقين لحراسة آبار القمح والشعير حيث كانوا يطمرونها آنذاك في آبار لتخزينها، وحمايتها من السرقة".

أما رحلة هجرته فبدأت بعد سقوط قريته أثناء انتهاء الهدنة التي عقدها الصليب الأحمر الدولي بين الجيش المصري قبل مغادرته والعصابات الصهيونية التي كانت تقوم باقتحامات ليلية لتخويف من تبقوا، حتى تم قتل أحد المسنين بالرصاص، الأمر الذي روعهم وطلبوا من الصليب الأحمر جلب الحافلات لتقلهم إلى قطاع غزة والخليل.
توجه خميس رصرص برفقة عدد من اللاجئين بواسطة مركبات الصليب الأحمر الدولي إلى

بلدة اذنا الواقعة شمال غرب الخليل، وقلبه معلق هناك في الفالوجة حيث آبار القمح والشعير المخزونة في جوف الأرض، ليتسلل إلى غزة ويستعيد زوجته وطفله، ثم يبدأ حكاية اللجوء في مخيم مؤقت أقيم على مشارف بلدة اذنا، حتى تم نقلهم إلى مخيم الفوار جنوب المدينة.

انقطع صوته، وبدأت أنفاسه الكاهلة تضعف شيئاً فشئياً عند سؤالنا له عن ذكريات أول منزل تم بناؤه في المخيم. طلبنا منه أخذ قسط من الراحة ليتمكن من العودة إلى حنين الذكريات ويسرد لنا قصة عُمرها ست وستون عاماً.

"أنا اللي بنيت المخيم" رددها بشيء من الألم، وهو يشير إلى جدران منزله الذي كان أول منزل تم بناؤه، حيث اعتقد أن المنزل بديل للخيمة لحين العودة، دون أن يدرك بأن المخيم هو البديل الأبدي لبيارات شعيره وقمحه التي لم يبعها في البداية وقال: "لم أبع حبوب القمح والشعير، كنت مؤملا بالعودة، اعتقدت بأن الجيش المصري لن يهزم، وأن دخول اليهود إلى قريتنا مستحيل".

رصرص كان شاهداً على كل حجر استخدم في بناء منازل المخيم عام 1958، والذي استغرق عامين فقط ليصبح اسمه مخيم الفوار للاجئين الفلسطينين بالقرب من بلدة دورا جنوب الخليل، وتم تعيينه من قِبل وكالة الغوث (أونروا) كمساعد لمدير وكالة الغوث في المخيم، كونه متعلّماً حتى الصف الرابع قبل النكبة، حيث استبدل بيده الخيام البالية بالقطع الاسمنتية.

بنى رصرص المخيم بيديه، كان شاهداً على كل شيء حين اختفت زوبعة الخيام، وتلك الغصة التي تركتها في قلوبهم كونها خيمة لجوء، وجميع من يقطنها كانوا يعتقدون أنهم على بعد أسبوعٍ أو أسبوعين من العودة، وأن الجيوش العربية سوف تعيدهم إلى قراهم التي هُجّروا منها، حتى أنهم علقوا مفاتيح منازلهم على صدورهم وجدران اللجوء حتى اليوم، لكنهم لم يعودوا.

يُقسم اللاجئ المسن ومفتاح منزله معلق على حائط المنزل، بأنه لن ينسى "حلم العودة" فرائحة سنين صباه العشرين عندما هاجر، ما زلت تسكن خطوط يديه المتجعدة من شوقها لحبوب القمح والشعير، ولم يستطع أن يتغلب على حشرجة الدمع في عينيه حينما داهمه حنين الذكريات لكأس اللبن الذي كان يشربه قبل الرحيل، ويضيف بأنه لم ينس لا الأرض ولا الشجر والقمح ولا الشعير.

ويختم حديثه لـ"العربي الجديد" بالقول: "لو فرشوا لي الأرض بالدولارات، لن أتنازل عن أرضي، قالوا آه، قالوا لا، سوف نعود".