يوميّات الحرب في غزّة (27)

يوميّات الحرب في غزّة (27)

24 ديسمبر 2023
يبكيان عند جثث شهداء في ساحة مستشفى في دير البلح وسط قطاع غزة (20/12/2023 فرانس برس)
+ الخط -

يدوّن الكاتب والقاصّ والروائي، وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف، أيامه وسط جحيم القتل والحصار في قطاع غزّة، وهو الذي فقد عديدين من أقاربه شهداء، في أثناء المذبحة الراهنة التي يرتكبها مجرمو الحرب في دولة الاحتلال الإسرائيلي. يكتب أبو سيف في يوميّاته توثيقاً إنسانياً وشخصياً ومجتمعياً، رهيفاً وبالغ السخونة والحرارة. يكتب الألم الفردي، متوازياً مع الألم الجماعي الفلسطيني الذي يُكابده أهل غزّة المتروكون لآلة الحرب العمياء. تنشر "العربي الجديد" بعضاً من هذه اليوميات التي يحرص الروائي، المعروف، على كتابتها، لتكون مقطعاً في مدوّنة الموت والحياة الفلسطينية المديدة.

(19 ديسمبر)

مرّت أربعة أسابيع منذ خروجي من الشمال. في مرّات عديدة، تبدو الأسابيع الأربعة سنوات طويلة، وفي لحظات أخرى، تبدو كأنها ثوانٍ قليلة. حين أتذكّر تلك التفاصيل المؤلمة للحياة في تلك الأيام التي أمضيتُها في الشمال وغزّة، ينتابني شعورٌ غريبٌ عن ضيق الحياة وفرص النجاة من الموت. كنتُ أركض من الموت، وكان يركض خلفي، وكنت أحسّ بأظافره تمسك ثوبي، وهو يُحاول أن يشدّني حتى يخطفني مع الآخرين. وكنت ألهثُ وأنا أحاول أن أجد فرصة ليوم آخر في الحياة. مرّت أسابيع أربعة، وأنا أنتقل بين أكثر من مكان، حتى استقرّ بي المقام في خيمةٍ في مخيّم النزوح الكبير. تنقّلتُ من خانيونس للنصيرات ودير البلح ثم رفح، ونمتُ في أكثر من مكان، وظلّ قلبي معلّقاً وقلقاً على كل من أحبّ أيضاً هناك. وأسأل نفسي كل ليلة عن مأمون في خانيونس وعن أختي عيشة في دير البلح وعن أحمد سعيد هناك وعن الدكتور سعيد الصطفاوي في النصيرات. كما أسأل نفسي كل ليلة عن والدي وبقية أهلي ممن ظلّوا هناك في الشمال. أربعة أسابيع وأنا أعد الأيام لعل هذا الكابوس ينتهي. في الشمال، كنتُ أعدّ أنفاسي ونبضات قلبي وخطواتي المتعثرة في الطرقات التي لا أعرفها، وأنا أعدّ الأيام وأشطب يوماً آخر من عمري. مرّ الزمن ومرّت الأيام، ثم جئتُ إلى هنا أفكر أن الحياة ستكون أكثر أمناً. الليلة الماضية، في قصفٍ واحدٍ في رفح، استشهد 16 شخصاً منهم أطفال. الموت في كل مكان، والقتلُ لا يرحم، والزنّانة تحصد الأرواح. جئتُ إلى هنا، لأنني كنت أريدُ أن أخفّف بعض التوتر والقلق في كل ما يحيطني، لكنني اكتشفتُ أن القتل قد يكون أقلّ، وقد يكون أكثر بعداً عن دروبنا، لكنه موجود دائماً. ومع ذلك، ظلّ هذا التوتر موجوداً، وظلّ الخوف على من نحب قائماً وربما اشتدّ أكثر. حين كنت بينهم، كنت جزءاً مما قد يتعرّضون له، وكانت إمكانية الوصول إليهم في حال عدم وجود شبكة الاتصال والإنترنت ممكناً، وحين كنتُ بينهم كنتُ أنظر حولي، فأرى ما يجري، وأرانا كلنا هناك في صورة كبيرة.

الصورة
دخان
دخان يتصاعد فوق شمال غزّة بعد قصف إسرائيلي (21/12/2023/Getty)

أشتاقُ إلى هناك. بات الهنا هناك والهناك هنا. تتبدّل الأماكن وتتغيّر الاتجاهات، وتتحوّل زوايا الرؤية. من لا يشتاق لمكانه! من لا يشتاق لمرتع طفولته وذكرياته. أحد إفرازات الحرب هو مصطلح الشمال والجنوب، وهو مصطلحٌ لم يكن قائماً بمثل هذه الكثافة، ولم يكن متداولاً بالطريقة نفسها. الآن بات له دلالات سياسية واجتماعية. أفكّر في كل تلك الأيام التي أمضيتها في الشمال، وأنا أفرّ من الموت، وأهرب نجو النجاة المرجوّة، وأفكر في كل العذاب والألم وكل ما مرّرت به وعانيته، وأفكر أنني، في نهاية المطاف، تجاوزتُ ذلك كله، ويظلّ معلقاً في جيب الغيب، إذا ما كان سيمرّ وقت طويل أو وقت أقصر حتى ينتهي كل هذا الكابوس.
صورة بشعة اليوم من جباليا، بعد استهداف الجيش بناية هناك. صورة حمار مقتول أمام عربته التي وقع عنها راكبوها وتضرجوا بدمائهم وأجسادهم ممدّدة على الأرض قرب العجلات. مشهدٌ لا يمكن لأكبر شيطان أن يتصوّر حدوثه. كثير من الصور المؤلمة. وكلما رأينا صورة كتلك نبدأ موجة القلق والتوتر، ونحن نتصل في كل من نعرف هناك، حتى نتأكد أن أهلنا ليسوا ممن وقعوا ضحية هذا الاعتداء. الصورة تذكّر كما الرائحة كما خاطرة القلب. ولكن الصورة تؤلم أيضاً، لأنها تقول لنا أيّ مصير ينتظرنا ربما، وينتظر من نحبّ. ما يحدُث جزءٌ من حدث مستمر بدون توقّف، وقد يحدُثُ لاحقاً ولن يتوقّف عن الحدوث. 
يعلن الجيش أن عملياته في بيت حانون قد انتهت. ومصدر آخر يقول إن الجيش قد يسمح لبعض سكّان شمال غزّة بالعودة إلى الشمال. وكلمة شمال غزّة الآن في قاموس الحرب والنزوح والتهجير تعني سكان محافظتي غزّة وشمال قطاع غزّة، وهي مناطق تضم جباليا المخيّم والبلدة والنزلة وبيت لاهيا وبيت حانون والقرية البدوية، وهي ثاني أكبر محافظة في قطاع غزّة، ويزيد سكّانها فقط ببضعة آلاف من السكان عن محافظة خانيونس. ... قال أحدُنا في الخيمة "بعض؟" أي أن هذا لن يشمل الجميع. فقط من يريد له الجيش أن يعود سيتم السماح له بالعودة، أمّا من لن يُسمح له بالعودة لن يعود. هل ستتم، في بداية الأمر، عودة النازحين من بيت حانون، ثم بعد الإعلان عن انتهاء العمليات في جباليا، سيسمَحون بعودة النازحين من هناك وهكذا؟ لا أحد يعرف. قال إبراهيم إنهم ربما سيرحّلون كل من تبقى في غزّة والشمال إلى بيت حانون، وإقامة مخيّم كبير لهم هناك، ويتم إدخال المساعدات له، حتى تواصل قوات الجيش عمليّاتها في بقية المناطق. أيضاً، كل ما يقع في باب التحليل لا يفيد في شيء إلا في زيادة القلق، وتأكيد شرعية الخوف من القادم. ليس المرء بحاجة ليتذكّر أنه في بيت حانون ربما لا يوجد بيت لم يتم هدمه. ربما تكون بعض البيوت صالحة جزئياً، لكن أغلبية البيوت مهدّمة ومدمّرة، والحياة هناك ستكون جحيماً آخر.

الرغبة في العودة إلى الشمال تأكل كل محاولات الناس في البحث عن بعض الاستقرار

تذكّرتُ حديث المرأة في عربة الشاحنة أمس، حين قالت إنها ستنام في الشارع بجوار بيتها. الرغبة في العودة إلى الشمال تأكل كل محاولات الناس في البحث عن بعض الاستقرار. الإنسان بحاجةٍ للاستقرار، لأنه بحاجةٍ لأن يجد شيئاً ذا معنى في الحياة. وهو لا يستطيع أن يستمتع بأي شيء إذا لم يؤقلم نفسه على وجوده. الحياة هنا مؤقتة بكل المعاني، والناس تفكّر في بيوتها وفي ما خلفته هناك من ذكريات. تلك الذكريات التي تصلح للاستعارة في وقت الألم، لأنها تخفّف من حدّته كثيراً. الناس تفكّر في تلك اللحظات التي سيحملون فيها أمتعتهم ويسيرون في الطريق المعاكس في شارع صلاح الدين، ويعبرون الجسر فوق الوادي، ويجتازون دوّار الكويت، حتى يجدوا أنفسهم فعلاً في منطقة الشمال، ثم يسيرون إلى بيوتهم أو ما تبقى منها. هناك سيبحثون عن نثار الذكريات، ويلملمون بقايا الماضي، ويعيدون تركيب الحاضر حتى يصلح للبقاء. وهناك أيضاً سيبكون كثيراً، لأنهم سيعرفون أن ما جرى أكبر من قدرة الذاكرة على التأقلم من كي الماضي. كنّا نجلس في الخيمة، ولأول مرّة نتجاوز العاشرة ليلاً، إذ إننا في العادة ننام عند الثامنة أو الثامنة والنصف. مع الوقت بدأنا نتعود على السهر، وبدأنا ندرّب عيوننا على البقاء رغم برد الخيمة وصوت الريح تضرب النايلون وتهزّ الأوتاد. 
الليلة، سهرنا مطوّلاً في الخيمة، لم يغادر الشباب إلا عند العاشرة، وهذا وقت طويل وأطول من أي ليلة أخرى يمضونها في الخيمة عندي. جهّز سواح الذُّرة الفشار لنا، وجلسنا نستمتع ونحن نأكل الذرة كأننا نشاهد مباراة. سيذكّرني "فيسبوك" بصورة لي من كافتيريا "بريك" في المخيّم العام الماضي، بعد أن حضرت مباراة الأرجنتين مع فرنسا في ختام كأس العالم. بالطبع، فازت الأرجنتين. كنت أحبّ أن أحضر مباريات كرة القدم في هذه الكافتيريا بجوار سوق المخيم خلف المدارس، وكان لا يمر أسبوع من دون أن أجلس هناك مع أولادي، أو مع بعض الأصدقاء نشاهد مباراة لبرشلونة. وكانت مباريات الكلاسيكو أسوأ ما يمكن أن يحدُث لشدّة التوتر وانقسام الجمهور. نظرتُ في الصورة، وشاهدت فرحتي في ذلك الوقت، بعد أن انتهت المباراة. كان محمّد المقيد يقف بجواري، وكانت الكافتيريا تعجّ بالمئات الذين خرجوا يهتفون لميسّي ليلتها. في سهرتنا في الخيمة، أتينا على قضايا وذكريات كثيرة، كما على الكثير من تفاصيل حياتنا وبقايا أحلامنا، وحلمنا الأهم والأكبر بالعودة إلى الشمال، بالعودة إلى بيوتنا حتى لو لم يبق لنا أي بيت هناك، المهم أن نعود. العودة فكرة لا بد أن تتحقق، ولا بد أن تتجسّد مهما اختلفت السياقات، و"عودة عن عودة بتفرِق".

طفل يرفع علامة النصر
طفل يرفع علامة النصر مع وصول سكان مخيم البريج للاجئين إلى دير البلح (22/12/2023 فرانس برس)

تحدّثتُ مع أخي خليل الليلة الماضية عبر جوّال هيثم الوحيدي. يقيم خليل هو وزوجته في مركز تموين الوكالة. كان والدي يقيم معهم، لكنه انتقل اليوم للإقامة مع زوجته وأخي موسى وأختي أمينة وزوجها وطفليها في منزل والد زوجة أخي إبراهيم، وهو من البيوت التي لم يتم هدمها في الحرب. لا يأكلون جيداً. لا يوجد كثير من الطعام، خصوصا الطحين. ومع ذلك يستخدمون بتقشّف كل ما هو متوفر في بيوتهم التي لم تدمّرها الحرب بعد. تضرّرت سيارتي جزئيا، بعد أن تركتها في شارع الحارة. بدا خليل منهكاً، وهو يقول إنهم لا يأكلون جيداً، وإنه لا يوجد مساعدات، ولا أحد يقدّم لهم شيئاً. 
اليوم، تذكّرتُ أنني لم أغسل وجهي بعد أن استيقظتُ من النوم، وتذكّرت أنني لم أفعل ذلك لأيام. كانت العاشرة والنصف، حين دخلت الحمّام في مقر الهلال في خربة العدس، لأغسل وجهي، كأنني استيقظتُ من النوم لتوّي. عادات يومية كثيرة ينساها المرء في ظل بحثه عن تفاصيل الحياة الأخرى. هل غسْل الوجه يبدو ترفاً؟ ربما. وفي معمعة التذكّر بعد أن غسلت وجهي، تذكّرت أنني لم أنظّف أسناني منذ أسبوع تقريباً. وقد تمرّ أيام أخرى ولا أقوم بذلك. كما تمرّ أيام ولا آخذ حمّاماً، لأن الماء أمر نادر، ولأن مكان أخذ حمّام لا يتوفّر بسهولة، لذلك كتبتُ ورقة صغيرة وضعتها في هويتي التي أحتفظ بها في جيبي دائماً، كتبت عليها "تذكّر أن تغتسل"، وهذا ليس تذكيراً بضرورة الاغتسال، بل هو تذكير بأن أبحث عن فرصة حتى أغتسل. ملأ أبو رياض قبل يومين جردلاً كبيراً بالماء الساخن، وأحضر كيلة صغيرة وعلبة شامبو "فاتيكا"، وقال لي أن أذهب لأستحم. قلت في نفسي لا بد أنه سمعني قبل يومين أتحدّث لياسر عن الأمر. قلت مازحاً: وين البشكير. ضحك، وقال: "أوعك تصدّق إنه حمّام حمّام". أي شيء. وكان حمّاماً رائعاً.
تقترب الشمس من المغيب بعد نهار سطعت فيه رغم برودة الجو. سرتُ أمام مقر الهلال الأحمر عند الظهر نصف ساعة "أتشمّس". كنت أمضي وأفرك ذراعي، كأنني أغسلهما بأشعة الشمس. الآن سأمشي حتى وسط المدينة، لا لشيء إلا كي يمرّ الوقت. أمشي حتى يمر الوقت أو كما يقول صديقي الدكتور محمد زيارة "أقلط الوقت"، أي دعْه يمرّ ويمضي. ثم هناك أتمشّى قليلاً قد أشتري لياسر "الكسترد" أو الفستق المحمّص، ثم ننتظر مواصلة تقلّنا إلى المخيّم. الوقت يجب أن يمضي ونحن يجب أن ننتظر. معادلة غير عادلة لكنها تخلق اتزاناً. من أجل ذلك، أقسم النهار وألتزم بنوع من الروتين القاهر خلال تزجيته، حتى ينتهي مثلما كنت أفعل في رمضان، وأنا فتى في انتظار أذان المغرب.

الكلّ مشغولٌ بالحرب وبالنار والقتل والتدمير وبتصريحات الجنرالات والساسة، ولا أحد يهتم بتلك التفاصيل الدقيقة لحياة الناس

أشتاقُ لعاداتي ولنفسي، ولأن أكون أنا. أشتاقُ لأن أقوم بكل ما كنت أقوم به، حتى لو كان عبثاً. أشتاقُ لأن أعيش كل تلك الأيام التي كنتُ أعيشها، والتفاصيل التي كانت تُبحر بي على مدارج الزمن، وتحملنا فوق لجاج الحقول البعيدة في الذاكرة. كلّما فكّرتُ في هذا الوقت الذي مضى، وفكّرت أن الكثير منه بات جزءاً من الذاكرة، وأن عليّ أن أفيق ذات يوم لأكتشف أنني فعلاً خسرت جزءاً من عائلتي وكثيرين من أعزّ أصدقائي، وأنني فقدت بيت العائلة، حيث كنوز ذاكرتي، وأن حارتي تهدّمت بشكل شبه كامل، وأن المخيّم الذي أعيش فيه لم يعد منه إلا خطوط باهتة في دفترٍ مزّقته الحرب، وأنني لم أعُد نفسي. كلما فكّرتُ في ذلك كله، اشتقتُ لنفسي أكثر، واشتقتُ أن أنظر إلى المرآة، وأقول لوجهي "صباح الخير". 

(20 ديسمبر)

في الحافلة، كان الشاب في المقعد الخلفي يعلن فرحته بتمكّنه من شراء علبة بيبسي صغيرة أخيراً. قال مازحاً: كنت أحلم بهذه اللحظة منذ كنت في الرابع الابتدائي. ... وهو بالطبع يحاول أن يصوّر مدى سعادته وانتظاره أن يشرب البيبسي. سأله شابٌّ آخر: هل اشتريتها باردة. ... ضحك، وقال: لو كان "بتغلي" راح أشربها. ... اشترى العلبة الصغيرة بخمسة شواكل، وهي في الأساس بشيكل واحد. كل شيء أضعاف سعره الحقيقي. قال رجل عجوز: "نحن نأكل بعضنا بعضاً"، في إشارة إلى ارتفاع الأسعار. قال شاب آخر إن الأسعار ستنخفض بعد أيام بعد السماح بإدخال البضائع من كرم أبو سالم. تم السماح للتجار بالاستيراد، خصوصا مواد الطعام والسمانة والطحين. ما زال كيس الطحين وزن 25 كيلوغراما يباع حتى اللحظة بثلاثمائة شيكل، فيما كان سعره 25 شيكلاً فقط. أصرّ على موقفه، وقال: لا بأس، بعد أيام سنشعر بالفرق. ابتسم وهو يلتفت إلى الشاب صاحب البيبسي: ويقول: وراح تصير علبتك بشيكلين. ... تستغرق الرحلة من منطقة المخيّم إلى وسط البلد، في بعض الأحيان، ساعة لشدّة الازدحام في الطرقات، ولكثرة ما تتنقل الحافلة بين الشوارع المختلفة في تل السلطان والأحياء الجديدة تنقل الركاب. رحلة في الوقت العادي لن تستغرق الدقائق الخمس، لكنها تأخذ الآن كل هذا الوقت. ومع ذلك، لا بد أن أكون محظوظاً اليوم، إذ تقلني حافلة وأجلس على كرسي، ولا أقف بين عشرات الركاب في عربة شحن، معلقاً تضربني مطبّات الطريق التي تسير فوقها العربة يميناً وشمالاً.  
الآن أعرف كل علامات الطريق والمحطّات التي سيطلب الركاب أن ينزلوا عندها. الكويت (مدرسة الكويت) رابعة (مدرسة رابعة العدوية) خولة (مدرسة خولة) يبنا (نسبة لقرية يبنا قرب يافا) دوار زعرب، الشابورة، الدفاع المدني (محطّة الدفاع المدني قرب مركز المدينة). وفي داخل السلطان عند العودة أيضاً ثمّة مواقف مختلفة للحافلة: التنمية (مقرّ وزارة التنمية الاجتماعية) النصّ (شارع النصّ) بير كندا، التحلية، مكّة (مدرسة مكّة) أبو السعيد (مفترق شهير)، الطيارة (مفترق عليه مجسّد لطيارة) السعودي، (الحي السعودي) الإماراتي (مقرّ الهلال الأحمر الإماراتي) خريس (مفترق على اسم أحد سكان المنطقة)، الجامعة (مقابل الجامعة المفتوحة)، الإسكان الأحمر (بقايا بنايات كانت مدهونة باللون الأحمر وكانت تقع مقابل المستوطنة الإسرائيلية قبل انسحاب إسرائيل من غزّة عام 2005)، وغير ذلك الكثير مما لا تسعفني الذاكرة لحفظه.

الصورة
مخيم البريج
فلسطينيون يغادرون منازلهم في مخيم البريج للاجئين وسط قطاع غزّة (22/12/2023 Getty)

عاد الحديث عن التهدئة وعن إمكانية وقف إطلاق النار مؤقتاً خلال فترة وجيزة. قال شاب: إننا قد نفاجأ بتهدئة خلال يومين. ... ردّ آخر: أريد أن أفاجأ بوقف الحرب بشكل كامل. زهقنا تهدئات. بعد التهدئة تعود الحرب أكثر شراسة. ... هكذا يؤمن الناس، والتجربة علمتهم أن التهدئة جزءٌ من الحرب. عموماً، أي شيء قد يخفّف عن الناس ولو مؤقتاً.
لا أحد ينجز تقارير صحافية عن حياة الناس في المخيّم هنا. الكل مشغول بالحرب وبالنار والقتل والتدمير وبتصريحات الجنرالات والساسة، ولا أحد يهتم بتلك التفاصيل الدقيقة لحياة الناس. لا أحد يتحدّث عنهم. الغريب أنني، وبعد كل تلك الفترة، هنا في المخيم ووسط الخيام فعلاً لم أر صحافيا واحدا يعدّ تقريرا عن بؤس الحياة هنا، أو عن تفاصيل الحياة المريرة التي يعيشها النازحون وصمودهم، وهو البطولة الحقيقية في وجه قسوة الحرب. في الخيمة، كان سوّاح قريبي هو من أشار إلى هذه النقطة في جلستنا الليلية في الخيمة. سوّاح، الصحافي المتمرس، ينتظر أن يغادر إلى تركيا، وفق ما أبلغه مرؤوسوه في الوكالة الدولية التي يعمل فيها. قلت له: أنت تعرف أن الصحافة تذهب خلف الخبر الطازج، لا أحد يريد أن يتحدّث عن معاناة الناس. ... قاطعني: إلا إذا كانت تلك المعاناة تصبّ في خانة سياسة الوكالة التي يعمل فيها. هززتُ رأسي، فالصحافي يعمل لدى الوكالة، وهو، في أغلب الأحيان، يتبع سياستها وينفذها. 
تذكّرت المحللين الذين يصولون ويجولون على الفضائيات، يقدّمون رؤيتهم عما يجري، وجلهم إن لم يكن كلهم، لم يخض في حياته معركة واحدة، ولا عرف ما هي الحرب. هذا موسم، كما قلت مرّة، لإبراهيم. يحاول الكل، في الموسم، أن يأخذ حصته ويبيع بضاعته، أما البضاعة الحقيقية التي هي معاناة الناس فمن يشتريها. 
تريد سجى، ابنة أخي إبراهيم قطّة لترعاها هنا. ... هنا في الخيمة؟ سألتُها. قالت: نعم في الخيمة، وحين نعود آخذها معي إلى البيت. .. قلتُ: لم يبق بيت. ... قالت: آخذها معي حين أذهب. إبراهيم قال إنه يبحث لها عن قطة. لا توجد قطط كثيرة هنا، لكنه قال إنه سيجد واحدة لدى صديق يعرفه. تذكّرتُ القطة التي كان يرعاها بلال، ويرمي لها الطعام فوق سطح الجيران بعد أن تركوها وغادروا المنزل. من يطعم القطّة الوحيدة الآن؟ ومن سيرمي لها بعبوة الماء ويثقب غطاءها حتى ينز ماء فتشربه. من لها ببلال آخر الآن.

هكذا يموت الإنسان، وهو يبحث عن النجاة، وهكذا لا يصل الموت في الطريق إلى الحياة

في الصباح، سرت ثلاث ساعات في المخيّم برفقة أخي إبراهيم وصديقي رائد حسين (أبو ثائر) وصديق لرائد اسمُه أبو أحمد. تجوّلنا في الممرّات بين البركسات، وجلسنا مع مجموعات كثيرة من الأصدقاء، ووقفنا نتحدّث مع بعضهم، ونتبادل الذكريات والأحلام والحديث العابر عن الراهن المؤلم. كان المخيّم يفيق على وقع الصباح والشمس المختبئة خلف الغيم، وكنّا نسير في الطريق المغطّى بالماء الآسن والرمل والأوساخ. النسوة والرجال يوقدون الفرن الطيني ليحضروه، حتى يخبز أرغفة الناس. شاركتُ، أنا ورائد، في لقم فوهة النار ببعض الأخشاب. كانت السيدة تضع ركوة الشاي فوق الفتحة العلوية للفرن، حيث سيتصاعد اللهب بعد قليل، والرجل يمسح بلاطة الفرن بقطعة قماش. كان النهار يستعدّ لأن يكون نهاراً لائقاً بتفاصيل الحياة التي يعيشها الناس في هذه الحرب. 
اليوم، غادر زميلي وزير الأشغال العامة والمواصلات، الدكتور محمد زيارة. نظر ياسر في عينيّ، يسأل: ونحن متى سنغادر؟ قلت: قريباً. ... طالما سافروا اليوم سنسافر قريباً. ربما غداً. لا أعرف حقيقة، ولكنني كنت أحاول أن أجد إجابة ما للقلق في عينيه. أبلغني الدكتور زيارة، بالهاتف، أنهم أبلغوه أن اسمي قد يظهر في كشف مغادرات غداً. قلت له "اللّي عند أهله على مهله". بدا ياسر متعباً فهو يشتاق لأمّه ولإخوته، ومر زمن طويل على كل تلك التجارب التي عاشها هنا خلال الحرب. لاحظ كثيرون نضوجه وتطور وعيه وحديثه في الفترة الأخيرة. قلت لهناء: إذا الحرب لم تُنضجه فمن سينضجه. أسرع نار وأقواها في التاريخ تلك الحرب. حديث الدكتور زيارة يوم أمس كان واثقاً أننا ربما سنغادر سوية يوم غد، أي اليوم، لكنه ها هو يغادر ونحن باقيان. غادر الآلاف في الشهر الأخير، ولم أكن يوماً راغباً في المغادرة، لكن وجود ياسر معي وضرورة وجودي في عملي في الوزارة شكلا دافعاً لعدم ممانعة الأمر. قلت لياسر يوم آخر. أكيد؟ سأل. قلتُ: لا أعرف حقيقة، الأكيد أن هذا كله سينتهي. ... شعر ببعض الراحة، فقال لي: إنه لن يذهب معي اليوم إلى مقرّ الهلال في خربة العدس، بل سيمكث في المخيم لتزجية الوقت مع الشباب والأصدقاء الجدد. "بدّي أودعهم". شعرتُ بأنه بات مؤمناً أننا مغادرون يوم غد. لم أملك أن أحبط هذا الشعور والأمل في داخله، لعلّه يتحقق، فيفرح.

الصورة
يبكون شهيدا في خانيونس
يبكون قريبا لهم في خانيونس استشهد إثر قصف إسرائيلي (23/12/2023 الأناضول)

يسألني الموظف في الغرفة المقابلة في الممرّ عن مكان القصف قبل قليل. أردّ عليه: إنني لم أسمع القصف. يستغرب، كان القصف شديداً واهتزّت البناية من شدّته. أستغرب أنا من نفسي. نتوجه، أنا وهو، إلى غرفته. وقف قرب النافذة، ننظر إلى الغرب حيث موضع القصف. لا نرى شيئاً، فقط سيارات الإسعاف تهرول في الاتجاه الذي يعتقد أن القصف فيه، فلا اتصالات ولا أحد يستغيب عبر الهاتف. بات القصف أمراً طبيعياً، وبات الصوت المهول الذي يصدر عن الصواريخ أو القذائف أمراً مألوفاً. بالطبع، ليس أمراً محبّباً، لكنه أمر من تفاصيل الحياة بكل معانيها. 
ليلة أمس، كتبتُ رسالة إلى وافي، أطمئن عليه، بعد أن سمعتُ أن الأحزمة النارّية في الشمال وصلت إلى منطقة الزرقا التي نزح إليها هو وعائلته. ومنطقة الزرقا تقع جنوب بلدة جباليا بالقرب من حي التفاح في مدينة غزّة. بعد ثلاث ساعات، رد وافي إن الوضع صعب جداً، لكنه بخير. يوم أمس والليلة الماضية، كثّف الجيش من أحزمته النارية في جباليا ومحيطها. حاولتُ الحديث مع والدي، من خلال الاتصال بهيثم ولكن من دون فائدة. كلما سمعنا عن قصف أو عن أحزمة نارية، نمضي ساعات ونحن نحاول أن نتواصل مع أي شخصٍ يكون قريباً ممن نحبّ نسأل عنهم. تبدو الأخبار القاسية أكثر قسوة، حين لا نعرف نتائجها النهائية. قبل ساعتين، أرسلت إلي هناء رسالة تقول إن وفاء ابنة اختها أخبرتها أن هناك قصفا في دير البلح بالقرب من المنطقة التي نزحت إليها عيشة أختي، وقالت أن أحاول أن أتصل بها. لا يوجد اتصالات ولا إنترنت، فأنا أتواصل مع هناء باستخدام الشريحة الإلكترونية التي تعمل فقط في المنطقة الشرقية من رفح، ولا تعمل حيث أقيم في مخيّم النزوح. حاولتُ عبر "واتساب" لعل وعسى يكون لدى عيشة أو ماهر إنترنت، بطريقة أو بأخرى، ولكن من دون فائدة. يظل القلق يلازمنا، حتى نطمئن على من نحبّ، وما إن نطئمن قليلاً، حتى تأتي أخبار عن قصف جديد، فتوقعنا في حيرة السؤال مرّة أخرى.

الصورة
دمار في جباليا
آثار الدمار في تل الزعتر في جباليا بعد انسحاب القوات الإسرائيلية (22/12/2023 الأناضول)

قبل قليل، أحزمة نارية في رفح. سألت الموظف في الغرفة المقابلة في الممرّ: أين القصف؟ سألني ممازحاً: سمعتُه؟ قلت لا يمكن لأحد أن يخطئ حزاماً نارياً. صوتُه يُحدِث دوياً كبيراً. قال إنه لا يعرف أين الحزام الناري. صمت وقال: سنعرف حين تعود الإسعافات. تمشّيت في الطابق السفلي للهلال، كأنني أنتظر عودة الإسعافات، لأدرك متأخّراً، بعد ربع ساعة، أنها لا تعود إلى هنا، بل تأخذ المصابين إلى المستشفيات. الجو بارد قليلاً، والليل سيصل متأخراً، وأنا لا توجد لدي وسيلة اتصال بياسر، ولا بأي أحد في المخيم. أنتظر أبو رياض حتى يعود ويقلّني بسيارة الهلال إلى المخيم. 
استُشهد، أمس، صديقي محمد أبو سعدة (أبو شفيق)، وأبناؤه الثلاثة. كانوا قد أمضوا كل تلك الأيام العصيبة في جباليا في بيتهم شمال المخيّم، وحوصروا في المنزل، حتى نفد الماء ولم يعد لديهم ما يشربونه أياما. خرج أبو شفيق وأولاده وبأيديهم الدلاء والزجاجات الفارغة نحو محطّة ماء قريبة، حين أجهزت عليهم الزنّانة بصاروخ قاتل. هكذا يموت الإنسان، وهو يبحث عن النجاة، وهكذا لا يصل الموت في الطريق إلى الحياة. لم يشربوا شربتهم الأخيرة، ولم يرتووا قبل موتهم. ماتوا وقطرة الماء عالقة في السماء لم تسقط على شفاههم فترطبها. آخر مرّة تحدثت لأبو شفيق على الهاتف كان عاتباً أننا لم نتقابل منذ زمن. سألني: ما اشتقت للحلويات اللّي بعملها؟ وكان في المرّة الأخيرة التي جلسنا فيها في بيته قد أعد حلوياتٍ تناولناها ونحن نتحدّث لساعات. قلت له: "بعرف إن أم شفيق اللي عملتها ولكن راح أصدّق أنه أنت". وذهب أبو شفيق، وظل موعدنا معلقاً على ستائر الغيب التي أسدلت على حياته الحافلة بالحبّ والعطاء والتضحية.
حين تخمد الحرب، سنفجع أكثر في أحباء لم نعرف برحيلهم، ولم تترك لنا الحرب فرصة وداعهم، ولا الحزن اللائق عليهم، سنعرف المزيد من الألم الذي ألهانا البحث عن الخيمة وعن رغيف الخبز وعن شربة الماء عن الإحساس به.

قضايا وناس
التحديثات الحية

المساهمون