يوميّات الحرب في غزّة (19)

يوميّات الحرب في غزّة (19)

09 ديسمبر 2023
طفلان فلسطينيان مصابان في مستشفى في خانيونس جنوبي غزّة (3/12/2023/Getty)
+ الخط -

يدوّن الكاتب والقاصّ والروائي، وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف، أيامه وسط جحيم القتل والحصار في قطاع غزّة، وهو الذي فقد عديدين من أقاربه شهداء، في أثناء المذبحة الراهنة التي يرتكبها مجرمو الحرب في دولة الاحتلال الإسرائيلي. يكتب أبو سيف في يوميّاته توثيقاً إنسانياً وشخصياً ومجتمعياً، رهيفاً وبالغ السخونة والحرارة. يكتب الألم الفردي، متوازياً مع الألم الجماعي الفلسطيني الذي يُكابده أهل غزّة المتروكون لآلة الحرب العمياء. تنشر "العربي الجديد" بعضاً من هذه اليوميات التي يحرص الروائي، المعروف، على كتابتها، لتكون مقطعاً في مدوّنة الموت والحياة الفلسطينية المديدة.

(3 ديسمبر)

ذهَب بيت العائلة. أخذته الحرب كما أخذت الكثير منّا. قصفته الطائرات، ليلة أمس، وأحالته ركاماً. لم يبق منه إلا حجارة مهشّمة وغبار يتطاير يحمل ذكرياتنا العالقة في بوح السنين التي شهدتها. استشهد البيت الذي وُلدتُ فيه، ونطقت أول كلمة بين جدرانه، وخطوتُ أول خطوةٍ على عتباته، وانطلقتُ إلى الدنيا من بابه الحديدي، وعرفتُ العالم بأنه كلّ شيء خارجه. البيت الذي كان ملاذاً وحصناً يضمّ كلّ عمرنا الذي مضى مثل صندوق ذكرياتٍ مغلقٍ بإحكام، لم يُبثّ منه شيء. مدارج الطفولة ومرتع الصبا وحلم الحياة وأزهار العمر الذي حلمناه، وذلك الذي عشناه وذاك الذي ننتظر. أخذت الحرب بيتنا، وذهب البيت ولم تذهب الحرب.

ليلة أمس، استُشهد البيت، وتركَنا واقفين، ننظر في الركام كأننا نرجوه أن يفيق، وأن تعود إليه الحياة أو تدبّ فيه الروح. أغارت الطائرات على الحارة، وأردت ستة بيوت شهيدةً الليلة الماضية، وواصلت عملها بتدمير المخيّم، وهدم بيوته وتحطيم كلّ وجوه الحياة فيه. مخيّمنا الذي كان علامة بارزة في مسيرة الكفاح الوطني يتحوّل تدريجياً إلى حُطام وبقايا وحجارة مهدّمة. المخيّم الذي احتضن الثورة واحتضن الفدائيين، وكان مسرحاً لعملياتٍ بطوليةٍ كثيرةٍ ضد الاحتلال، يشهد نكبةً جديدةً تقتله وتغتاله بدمٍ بارد، وتشرّد سكّانه وتُهدّم بيوته.

من مذبحةٍ إلى أخرى، ومن كارثةٍ إلى كارثة، ومن محرقةٍ إلى ثانية، والحرب لا تتوقّف. المخيّم الذي أعرفه وأحفظه، وأحبّ كلّ شيء فيه، وأستطيع أن أسرد مئات الحكايات عن كلّ شارعٍ وزقاقٍ وحارةٍ ومنطقةٍ فيه، الآن يتم اغتياله وتصفية بيوته، لا لشيءٍ، بل لأنّ هناك من يتعطّش لدمائنا، هناك من يواصل شغفه بموتنا وبقتلنا. المخيّم الذي شكّل أيقونةً تغنّى بها الشعراء وقال فيها الزاجلون وترنّم بها الحالمون بالعودة، بات الآن مسرحاً لجريمة اغتيال يتم فيها استهداف الحجر كما يتم استهداف البشر. المخيّم الشوكة التي ظلت عالقةً في حلق إسرائيل، لأنها تذكّرها بأنها بنيت على أحلام الآخرين، ووُجدت على أنقاض بيوت من يعيشون في تلك الأزقة، ومن يفرشون أحلامهم سجّادة ينامون عليها. المخيّم الشاهد الأكبر والأهم على جريمة النكبة، وعلى تواطؤ العالم في العصابات عام 1948 في ذبحنا وتهجيرنا. المخيّم قصة الفلسطيني الذي يرفض النسيان، الفلسطيني الذي يريد أن يتذكّر حتى يعود له الحقّ، فالحقّ الذي لا يتذكّره أحد لا يعود. المخيّم هو صهريج الذاكرة الذي يواصل ضخّ الوقود في وعي الأجيال الجديدة حتى تحفظ الحكاية وتتمسّك بالرواية، وتظلّ تقاتل من أجل أن تعود عقارب الزمن إلى الوراء. المخيّم الذي هو اختصار لكلّ تطلّعات الشعب وقصة نضاله وكفاحه، فلا قضية من دونه ولا مسيرة لا تمرّ من دون ذكره. ولا هدف وطنياً لا تكون العودة مركباً أساسياً فيه. المخيّم الذي تريد إسرائيل أن تمحوه، أن تزيله من الوجود. حاوَلت بألف طريقةٍ قبل ذلك أن تقيم أحياء سكنية مجاورة، وتمنح سكّان المخيم قطعاً من الأراضي، وتساعدهم في البناء مقابل هدم البيت في المخيّم.

الصورة
رجل فلسطيني يتفقد منزله الذي أصيب بقصف إسرائيلي في خانيونس جنوبيّ قطاع غزة في 4/12/2203 (Getty)
فلسطيني يتفقّد منزله الذي أصيب بقصف إسرائيلي في خانيونس جنوبيّ قطاع غزة (4/12/2203/ Getty)

من هنا، ظهرت فكرة المشاريع الإسكانية، مثل مشروعي بيت لاهيا والشيخ رضوان وغيرهما، ولكن الناس سكنوا في تلك المشاريع، وبنوا بيوتهم في المخيّم ولم يهدموها. توسّع المخيّم، وظلّ شاهداً على الجريمة، وظلّ كأنه إشارة طريقٍ نحو يافا وحيفا وصفد والمجدل وأسدود وهربيا ودمرة ودير سنيد وهوج وبئر السبع ونعليا والجية وسمسم والمسمسية وحتّى الجورة وبيت دراس وبيت عفا وبربرة وبرير وجولس وحمامة ومئات القرى والبلدات التي ظلّت محفوظة في ذاكرة المخيم، لأنها النقيض الأساس لوجوده، ولأنّ العودة إليها فقط يمكن أن تحوّل المخيّم إلى ذاكرة تستحقّ الثناء، لأنها حافظت على الحقّ المسلوب.

فكرة توزيع خيام قاسية على الذاكرة، لأنها تعني أننا نساعد في إقامة مخيّمات، وبالتالي تنفيذ مخطط التهجير

ذهب البيت، وذهبت أجزاء كبيرة من الحارة، وذهبت مناطق كثيرة من المخيّم، وظلّت الحرب تأخُذ منا كل يوم، وتفقدنا جزءاً منا كل صباح. لحسن حظ والدي والعائلة وكثيرين ممن في الحارة أنّهم كانوا خارج بيوتهم، فمع اشتداد القصف وانهمار القذائف على الحارات في داخل المخيّم، صار على المرء أن يقوم بخياراتٍ مختلفةٍ، تعتمد على تقديره ما هو صواب وما هو أكثر أمناً. ولا تعدو القصّة أكثر من حظ في مرّات، مثل أن يقول جارك إنه يشعر بأنّ المنطقة خطرة فتعتقد أنّ ثمّة شيئاً لا تعرفه فتترك البيت حفاظاً على حياتك، أو أن يترك أحد الجيران بيته فتلحق به، لأنك تظنّ أنه يعرف ما لا تعرف. الإحساس بالحاجة للنجاة يجعل كلّ حركة تقوم بها أو يقوم بها الآخرون جزءاً من قدرٍ لا تعرفه. وقد يحدُث أن تنتقل من بيتك إلى بيت آخر، فتجد قدرك هناك. لا أحد يعرف ولا أحد يمكن له أن يكون متيقناً مما يحدُث، لكن المؤكّد أن الجميع يعمل جهده من أجل البحث عن الأمن، من دون أن يعرف ما هو آمن وما هو غير آمن.

والدي الآن، بعد 74 عاماً، بلا بيت، بلا جدران ينام تحتها. وُلد والدي في السنة الثانية للهجرة، ولم يكن المخيّم قد اكتمل، فعرف الحياة فيه وشهد تطوّره وتوسّعه، وعرف الحياة وتفاصيلها فيه. الآن، بعد هذا العمر، عليه أن يواصل حياة اللجوء، ولكن من دون بيت. بعد الحرب، سيكون عليه أن يفكّر في البيت الذي سيبنيه، من أجل أن تتواصل الحياة، وسيسأل نفسه: أفبعد كلّ هذا العمر سأبدأ من جديد؟ كنتُ أقول لمأمون إنّ الحرب الحقيقية بعد الحرب، حين يعود الناس إلى منازلهم، ويصير عليهم أن يواجهوا الواقع الجديد، وأن يعيشوا حياتهم من الصفر. هذه الحرب التي تعني أنّ على كل فردٍ أن يبحث عن حياته الجديدة، لا أن يتكيّف من أجل النجاة كما نفعل الآن، بل أن يبحث كيف يمكن له أن يبدأ ومن أين سيبدأ. فمن فقد بيته لا يجد فرصًا كثيرة متاحة، فكثيرون ممن يعرفهم فقدوا بيوتهم أيضاً، ولا أماكن كثيرة يمكن المكوث فيها. وعملية الإعمار وإعادة البناء تستغرق وقتاً. ثمّة تفاصيل مرهقة حين يوضع المستقبل على طاولة النقاش. كنت أفكّر في والدي وفي أخوي، إبراهيم وخليل، اللذيْن يسكنان مع زوجتيهما وأطفالهما في البيت، كيف يمكن لهما أيضاً أن يستأنفا حياتيهما. أفكّر في أنّ الحياة ستكون أكثر عسراً وأشدّ وطأة، وأنّنا الآن في غمرة بحثنا عن الغد لا نبحث عن ماهيته، نريده فقط أن يأتي.

الصورة
 أصيب في غارة إسرائيلية على رفح جنوبي قطاع غزّة في 3/ 12/ 2023 (فرانس برس)
أصيب في غارة إسرائيلية على رفح جنوبي قطاع غزّة (3/12/2023 فرانس برس)

أخذتُ أحدّق في النار، سارحاً في عمري الذي بلغ الخمسين عاماً قبل الحرب بأقلّ من شهرين، البيتُ جزءٌ من هذا العمر، بل لا يمكن تخيّل هذا العمر دونه، وأفكّر في تلك الذكريات الجميلة التي جمعتني بمن رحلوا ومضوا في طريقهم، وكيف كان مجرّد دخول عتبة البيت يعيد قذف كلّ تلك الذكريات المجبولة بالألم في وجهي. حين أقف في غرفة الضيوف، كما نسمّيها، أتذكّر وجه أمّي في تلك الجلسات الطويلة في الشتاء، يطل مثل قمر تحاول الغيوم حجبه، وضحكتها الرقيقة ولمسة يدها على وجوهنا تمسح عنها كلّ شر. وحين أخطو على الدّرج الخشبي، أسمع صوت أخي نعيم، وهو يجوس سطح البيت، ويذرعه يميناً وشمالاً في عادةٍ لم ينقطع عنها خلال مشيه في غرفة السجن الضيقة، أو في فترة "الفورة"، أو صوت جدّتي عيشة في غرفتها الصغيرة، تقصّ علينا حكاية الشاطر حسن والستّ فطيم. أعرف الآن أنني لن أخطو في البيت، ولن أقف أمام هوْل العمر الذي كان يتساقط على رأسي من فوق علّية البيت التي كنت أحرص على زراعتها بالنعنع، كأنها عطرٌ أو بخّور. أعرف أنني لن أطيل تأمّل الدرج الخشبي، لعلّ نعيم ينزل منه أو تصحو أصوات من رحلوا من ثنايا الجدران. أعرف وأعرف أنني، مع ذلك، سأظل أتذكّر هذا كلّه بلا ملل.

البلد كلها مخيّم كبير منذ النكبة. المخيّم الذي يريد العدو أن يبيده وينساه التاريخ من أجل أن يتبخّر التاريخ ذاته

سهرتُ في الليل مع خالتي نور، وهي أختُ جدّتي سلوى والدة أمي. من آخر من بقي من العائلة من الذين نعموا بأن صرخوا صرختهم الأولى في يافا. محظوظون هؤلاء. عاشت خالتي نور أكثر من نكبة، وشهدت أكثر من فقد. وها هي الآن وقد بلغت الثمانين تعيش نكبةً جديدة، وتضطرّ لترك بيتها لتعيش لجوءاً جديداً، فالأول لم ينته، وعليها أن تعيش لجوءاً آخر. تحدّثنا عن ذكريات الطفولة في يافا، وذكريات اللجوء وذكريات اللجوء الآخر. ذهبت، في بداية الحرب، للعيش في منطقة القرارة، لكنها مع اشتداد القصف على المنطقة يوم أمس اضطرّت للقدوم إلى رفح.

جلسنا حول النار، نتحدّث في مواضيع شتى، هيمنت عليها مسارب الذاكرة وممرّات الأمل المعقود على الغد. القلق الذي يصف كلّ شيء، ويهيمن على كلّ شيء. كان صوت الانفجارات يأتي من بعيد. يمكن التخمين، أو ربّما الجزم، أنه من جهة الشمال. والشمال هنا يشير إلى خانيونس، فلكل جنوبٍ شمال. كانت الطائرات والبوارج تقصف مدينة حمد غرب خانيونس. كلّ الأبراج السكنية تتعرّض للقصف المستمرّ. فقط كنّا نرى في مرّات تحت العتمة لمعان القذائف، ويأتي صوت الانفجارات خفيفة، لكنها مرعبة مع ذلك. في الصباح، سيأتي الكثير من سكّان مدينة حمد لرفح، بعدما خسروا بيوتهم هناك، وبعدما صار البقاء فيها بقاءً في قبر مغلّف بالموت.

قبل أسبوع، كنت هناك أزور أختي سماح في مدرسة عبد الله أبو ستة. حاولتُ الاتصال بسماح أكثر من مرّة ولكن من دون فائدة. لم أملك إلا أن أتمنّى من الله أن تكون بخير، وأن يكون الأمر مجرّد خلل في الشبكة. في تلك الزيارة التي مشيتُ فيها أكثر من ساعة وربع ذهاباً ومثلها إياباً، زرت صديقي محمد دياب، وشربنا الشاي الثقيل الذي أعده على الحطب. لا يملك المرء إلا أن يفكّر فيمن يحبّ، ولا يملك إلا أن يحوطهم بأدعية ورجاءات للسماء أن يكونوا سالمين. حرب لا متوقع فيها، وحرب تأخذ منا الأرواح والأجساد والبيوت والذكريات.

فيما كلّ الأخبار بدأت بالتركيز على الجنوب، تستمرّ المذبحة في الشمال، من دون رقيب ومن دون تغطية حقيقية

في الطريق إلى وسط المدينة، عرّجت على مكتب الشؤون الاجتماعية لمقابلة صديقي لؤي المدهون مشرف عام الوزارة في غزّة. هناك التقيت بصديقين عزيزين أيضاً الأخ محمد النحال (أبو جودة) والأخ إسكندر الحويحي. تحدّثنا مطوّلاً في هموم كثيرة. جميعنا من غزّة والشمال، وجميعنا لدينا قصص مؤلمة عن ذكريات الحرب، بجانب أنّ ذكريات سابقة لذلك تجمعنا في العمل الوطني، وفي السجن، وفي الحياة العامة. كان كلّ شيءٍ يقول بقوة كم يبدو الواقع مؤلماً وكئيباً. كان عشرات من النسوة والرجال يقفون في انتظار "كابونتهم" أمام مخازن الوزارة. يقول لؤي بمرارة إنه يصعب أن نغطّي الجميع، فحجم ما دخل إلى غزّة من مساعدات لا يصل إلى 10% من المطلوب، وعليه، على الطواقم المختلفة أن تعمل جهدها من أجل أن تعطي الجميع. في المحصلة، يجب إعطاء الجميع ولا يجب حرمان شخص. الكلّ محتاج، والكلّ بحاجة لأي مساعدة، لا يهمّ إذا كان مليونيراً أو فقيراً، ففي الحرب الكل فقير، لأنه لا يوجد شيء يمكن أن يشتريه المال، فكلّ شيء نفد من السوق، ما يدخل من مساعدات هو ما يسعى إليه الناس. أنظر من النافذة إلى الناس تنتظر دورها، وأشعر بكلّ هذا الألم الذي يُمسك بقلوبهم. كانت رؤية الأصدقاء مبعثاً للراحة، لأنها تعيد القليل من عادية الحياة المفقودة، ولأنها تعني أنّنا يمكن أن نواصل رغم كلّ شيء.

الصورة
 يبكين أقارب لهن استشهدوا بسبب قصف إسرائيلي في دير البلح وسط قطاع غزّة في 4/ 12/ 2023 (Getty)
يبكين أقارب لهن استُشهدوا في قصف إسرائيلي في دير البلح وسط قطاع غزّة (4/12/2023 Getty)

يقول لي صديقي محمود في مقرّ الهلال الأحمر في خربة العدس إنّ نزوح الناس وتدفّقهم قد يعنيان أنّنا قد نكون مضطرّين لتوزيع خيام من أجل أن يسكنوا فيها. المدارس مكتظّة بشكل كبير، ولا يوجد متّسع لمزيد من النازحين. لا توجد مدرسة واحدة فارغة. حتى رياض الأطفال امتلأت عن بكرة أبيها، ولا يمكن استيعاب مزيد من الناس في الأماكن التعليمية، فحتى الجامعات والكليات فيها نازحون. أين سيذهب النازحون الجدد؟ فكرة توزيع خيام قاسية على الذاكرة، لأنها تعني أننا نساعد في إقامة مخيّمات، وبالتالي تنفيذ مخطط التهجير. ولكن أين سيقيم الناس؟ سؤال وجيه، لا أحد يملك جواباً مقنعاً عليه. تقيم الناس خيامها وحدها، ففي كلّ زاوية فارغة غرب رفح تجد أشخاصاً منهمكين في نصب خيم جديدة. بعد أيام، ربما لن يوجد شيء إلا الشوارع لا تغطيها الخيام، حتى أرصفة الشوارع هناك من وضع فيها منامات له، وأحاطها بقطع قماش، مثل غرف صغيرة عشوائية. يرى محمود، وهو الذي يعمل في الإغاثة، أننا يجب أن نكون مرنين في التعاطي مع هموم الناس وقضاياها، لأن الأفكار الكبيرة لا تصلح وقت الأزمة. قلت: لا أحبّذ فكرة المخيّمات الجديدة. سكت وسكتُّ مدركاً أنّ كلامي قد لا يبدو مقنعاً. البلد كلها مخيّم كبير منذ النكبة. المخيّم الذي يريد العدو أن يبيده وينساه التاريخ من أجل أن يتبخّر التاريخ ذاته.

وفيما كلّ الأخبار بدأت بالتركيز على الجنوب، تستمرّ المذبحة في الشمال، من دون رقيب ومن دون تغطية حقيقية.

(4 ديسمبر)

من يقدِر على هذا الألم! من يستطيع أن يحصي أنفاس كلّ الراقدين تحت السماء، في انتظار قدرها؟ من يعرف كيف يدلّ طفلا فقد والديه عليهما من دون أن يخبره الحقيقة؟ ومن يعرف كيف يصف بيتاً دمّرته الطائرات لرجلٍ سبعيني، يزيّنه له بأبهى حلله، من دون أن يقول له إنه تحوّل إلى كومةٍ من ذكرياتٍ تعبث بها الريح؟ من يستطيع أن يسير في دروب الشوك، ولا تخطئ قدماه مواضع بتلات الورد المنثورة فوق أسنّة الشوك؟ ومن يقدر أن يظلّ يقظاً لأنّ النوم لم يعد في قاموس حياته ويغفو مع ذلك؟ ومن يعرف كلّ هذا الوجع، ويظلّ يبتسم، لأن ثمّة غيمة قد تحمل مطراً خفيفاً ناعماً يشبه الندى وأقل.

تواصلت الاعتداءاتُ في مناطق مختلفة من قطاع غزّة، خصوصا في شمال غزّة، حيث سيُحاول الجيش إكمال تهجير من تبقّوا من سكّانه. أبلغتني أختي أسماء هذا الصباح أنّها اضطرّت لترك منزلها في منطقة الفالوجا، بعدما قصفت الدبّابات كلّ محيط المنزل، وأصابت شظايا كثيرة طوابقه المختلفة، وحرقت الحديقة والأشجار. مساء أمس، لم تملك إلا أن تحمل بناتها الخمس، هي وزوجها، وينزحوا باتجاه بلدة النزلة، حيث ما زال بعض أقارب زوجها يقيمون. أخبرهم الجيران الذين خرجوا هذا الصباح أنّ قنّاصة الجيش اعتلوا البنايات العالية في المنطقة، وبدأت الدبّابات بالتقدّم باتجاه محور الفالوجا. "وين بدنا نروح؟" سألتني. لا يمكن الإجابة عن قلقٍ بهذا الحجم.

الحياة تضيق في كل مكان ومتطلباتها تزيد والمتاح قليل

ظلت أسماء في منزلها 58 يوماً، ولم تتحرّك إلا حين اقتحم الموت البناية، وبدأ يمدّ يده في الشقق، ليأخذ أرواح من فيها. على العائلة أن تتشتت مرّة أخرى. كلّ واحد من أبناء حماها أخذ عائلته وذهب يبحث عن فرصته في النجاة. في نهاية المطاف، ستأخذ قصة شتات العائلة الجديدة مناحي مختلفة، وتسير في مسارب متعدّدة، لكنها أيضاً ستكون جزءاً من البحث عن العودة التي يريدها الجميع. يقول المثل الشعبي: "جبل على جبل ما بتلاقي، بني آدم مع بني آدم بتلاقي". قالت أسماء إنها ستنتظرُ حتى النهاية في بلدة النزلة. ثمّة أناسٌ يمكن الاستئناس بوجودهم. هناك من يحبّ السير حتى النهاية، وهناك من يفضّل الانتظار حتى إغلاق كلّ النوافذ التي تطلّ على العالم الخارجي. كانت فكرتي خلال إقامتي في الشمال أن أظلّ حتى آخر دقيقة، ولكن آخر دقيقة بالنسبة لبعضهم تختلف عنها بالنسبة لآخرين. وهناك من لديه الثانية الأخيرة. اتّخاذ القرار المناسب أكثر الأشياء صعوبة، لأن بعض الخيارات مبنيّة على الإيمان، وبعضها على الشك، وبعضها الآخر على مفهوم الصواب والخطأ. ولكن لا يوجد خيار يمكن أن يكون صحيحاً وصالحاً دائماً أو للجميع حتى. فكرة أسماء أنها ستخرج إذا خرج الناس. سألتها أنا هذه المرّة: إلى أين؟ حين يخرج الناس نعرف، اكتفت بالإجابة التي لم تُعطِ جواباً.

يصل مزيدٌ من النازحين من خانيونس والقرارة، والمكانُ يضيق أكثر، حيث يبني الوافدون الجُدد خياما وغرفا في كل زاوية فارغة في المنطقة. حين وصلت قبل عشرة أيام، كانت هناك مساحات كثيرة حول البركسات (مخازن وكالة الغوث)، حيث كان العدد لا يزيد عن 20 ألف نازح وقتها، وفي الأيام الثلاثة الأخيرة وصل أكثر من ضعفهم، ولم يجدوا أماكن ينصُبون عليها أي قطعة قماش حتى يناموا تحتها، فتوسّع المكان، وصاروا يقيمون ما يقيهم البرد ويحمي بعضاً من خصوصيتهم في أي زاويةٍ فارغة، حتى على أرصفة الطرقات. كلّ مكان صالح للسكن في ظلّ عدم وجود سكن. لذلك، تحوّل المخيّم الجديد الذي نقيم فيه إلى ما يشبه عشوائية العشوائيات.

الصورة
خيمة في دير البلح
طفلان فلسطينيان في خيمةٍ نُصبت على عجل هرباً من القصف الإسرائيلي في دير البلح وسط قطاع غزّة (19/11/2023/الأناضول)

يطالب الخطاب العالمي إسرائيل بالتخفيف من عمليات القتل، ومحاولة تجنّب ارتكاب مجازر بحقّ المدنيين. ومن المفضّل، وفق هذا الخطاب، تقليل عدد البيوت التي يتم قصفها حتى لا تثير المشاهد الخارجة من غزّة مشاعر بعضهم وغضبهم. ويعني هذا الخطاب، ضمناً، أنه ليس ضد استمرار القتل والتدمير، ولكن الفكرة التخفيف من ذلك، حتى لا يتسبّب بإيقاظ الضمير العالمي، وبالتالي الضغط من ناخبي أصحاب هذا الخطاب، حتى يتحلّوا ببعض الحياء ويلتزموا بتخفيف دعمهم لدولة الاحتلال، وهم لا يريدون أن يخفّفوا من هذا الحب الذي يحيطونها به. خطاب يعكس حقيقة العالم الذي قدّم فلسطين على طبقٍ من ذهب للغرباء. الفلسطيني أكثر من عانى من النظام العالمي، وكان دوماً ضحية مؤسّساته التي لم يكن لها هم من تأسيسها إلا إصدار القرارات التي تساعد الغزاة في سرقة البلاد، ولم تفلح في تنفيذ قرار واحد من قراراتها العرجاء التي حاولت فيها التغطية على الجريمة، من دون أن تكون هذه القرارات في أي حال منصفة لشعبنا. وعليه، لا يعني هذا الخطاب شيئاً أكثر من أنه تكرار للسيمفونية نفسها التي باتت تشكّل المارشال العسكري لتشجيع الاحتلال في ارتكاب جرائمه. لا أحد يرى الحقيقة، أو أن الكلّ لا يريد أن يراها، الكلّ يريد أن يواصل دعمه اللامشروط لقتلنا ولتدميرنا. الكلّ يفقد أخلاقه، وحين يفقد الجميع أخلاقه، لا يعود هناك أخلاق. وحين يُقتلُ الأطفال ويُذبحون أمام كاميرات العالم، ما نفع الأخلاق؟

الكلّ يفقد أخلاقه، وحين يفقد الجميع أخلاقه، لا يعود هناك أخلاق. وحين يُقتل الأطفال ويُذبحون أمام كاميرات العالم ما نفع الأخلاق؟

شاركتُ في جلسة مجلس الوزراء عبر "زووم". وكان الحديث عن الأوضاع في غزّة والسياقات المحيطة بتطور المواقف. المذبحة مستمرّة وشعبنا يتم التنكيل به وقتلُه وتهجيره وتدمير ممتلكات الناس. الوضع الفلسطيني العام صعبٌ جدّاً في كل مكان، ولكن غزّة هي المكان الذي تتركّز فيه حرب الإبادة هذه. استمرار ماكينة القتل والتشريد. يبدو أن الحرب ستستمرّ وقتا أطول، وعلينا أن نكون متيقّظين وجاهزين لأوضاعٍ أصعب وأكثر تعقيداً. ثمّة تشاؤم كبير على أكثر من مستوى، فاستمرار الحرب يعني استمرار مخطّط دولة الاحتلال وصمت العالم مؤامرة في تحقيق ذلك.

في مقرّ الهلال الأحمر في خربة العدس، يتجمّع عشرات من المواطنين يريدون المساعدة، معظمهم ممن وصلوا إلى رفح في الأيام الأخيرة من خانيونس، ووجدوا لهم مكاناً في المدارس بالقرب في نهاية الشارع. لا يوجد ما يمكن تقديمه لهم، خصوصا أنّ أكثر ما يحتاجونه هو فرشات وبطانيات حتى يناموا، وهذه من الأشياء التي لا تصل كثيراً عبر المساعدات الخارجية، فمن ينزح من مكانه بالكاد يستطيع حمل أيّ شيء، خصوصًا حين النزوح تحت القصف وسقوط القذائف والصواريخ. يسجّل الموظف في كشك جانبي أسماءهم ويأخذ أرقام هوياتهم من أجل توزيع مساعدات عادية عليهم من علب التونا والجبنة والحلاوة والعدس وغيره. النسوة يطلبن الفرشات حتى يتمكنّ من النوم وحتى يحضنّ أبناءهن من البرد في الليل. كانت سيارات الإسعاف التي تبرعت بها السعودية تقف أمام مبنى الهلال، والرجال والنساء والأطفال ينتظرون أن يتسلموا كوبوناتهم وهم يفدون إلى واقعهم الجديد، بعدما تشردوا في أكثر من مكان خلال الشهرين الماضيين. المبنى الموجود في مكان بعيد عن قلب المدينة في تلك الخربة شرق الشارع الرابط بين خانيونس ورفح بات يكتظّ بالناس الباحثين عن لقمة العيش، وما يستُرون به أنفسهم. الألم يتمدّد والوجع يتوسّع والحياة تضيق. كان الباب مغلقاً ولم يكن أحد في الداخل. فقط الموظف في الكشك الخشبي مشغول في تسجيل النازحين. هبطت من الطريق الخلفي حتى أدخل من بوابة سيارات الإسعاف.

الصورة
فلسطيني يجلس مع أمتعته في مخيم في رفح جنوبي قطاع غزة في 4/12/2023 (فرانس برس)
فلسطيني يجلس مع أمتعته في مخيم في رفح جنوبي قطاع غزّة (4/12/2023 فرانس برس)

وصل المزيد من أفراد العائلة من مناطق مختلفة في القطاع، وتوسّع المكان وزاد عدد الخيام المنصوبة في المساحة التي كانت فارغة قبل شهر، حين نصب فيها جمعة قريبي أول خيمة له فيها. توجد فيها الآن تسع خيام منتشرة تغطّي الرمال الصفراء الناعمة التي كنت أتمشّى عليها كل مساء قبل أن أنام، حتى أحس طعم الحياة الطبيعية وفي الطبيعة. الزحمة والاكتظاظ وصلا إلينا، وضاق المكان، وزاد عدد الموجودين في تلك المساحة. أحضر أخي إبراهيم زوجته وطفليه، ونصب خيمة وأقام فيها. كما أحضر أخي محمد زوجته مع أطفاله الثلاثة وأقام خيمة وأقام فيها. سيشكّل هذا ضغطاً شديداً على أكثر من جانب في الحياة، حيث يتطلب المزيد من الماء، فبرميل واحد لن يعود يكفي كل هذا العدد من البشر، كما أنّ حمّاماً واحداً لن يكون كافياً للجميع وموقداً واحداً لن يكفي الجميع، حتى يُجهّز عليها ما يحتاجونه من طعام أو من تسخين ماء أو غير ذلك. الحياة تضيق في كل مكان ومتطلباتها تزيد والمتاح قليل. نزل أخي محمد إلى وسط البلد حتى يشتري بعض ما يحتاجه من متطلبات الحياة الجديدة. لا شيء يجعل كلّ هذا العبث أمراً طبيعياً وروتينياً عادياً، لكن ثمّة حاجة لأن يمرّ الوقت، حتى يأتي الوقت الملائم. تقول لعبة الوقت إن حياتنا أكثر من مجرّد دقائق وثوانٍ.

لا شيء يجعل كلّ هذا العبث أمرا طبيعياً وروتينياً عادياً، لكن ثمّة حاجة لأن يمرّ الوقت، حتى يأتي الوقت الملائم. تقول لعبة الوقت إن حياتنا أكثر من مجرّد دقائق وثوانٍ

يروي الشاب في السيارة من تل السلطان إلى وسط البلد أنّ هذه منطقة ترحاله الخامسة منذ بداية الحرب. في البداية، ترك بيته غرب بيت لاهيا، حيث مزرعته وأغنامه، وتوجّه إلى مدرسة في منطقة في وسط بيت لاهيا، وبعد قصف المدرسة توجّه إلى مدرسة الفاخورة في جباليا التي تعرّضت هي الأخرى لمذبحة شهيرة، فاضطر لتركها والتوجه إلى المكوث بجوار مستشفى الشفاء، وهو الأمر الذي لم يدم بعد الهجوم على هذا المستشفى، فنزح مرّة رابعة، وهذه المرّة إلى مدينة حمد في خانيونس، وها هو الآن ينزح إلى رفح بحثاً عن حياة آمنة. لكنه كما قال لا يجد مكاناً ينام فيه، ما اضطره هو وعائلته للنوم في الشارع الليلة الماضية. لم يناموا، وإنما تمدّدوا على طرف الشارع، وناموا حيث استطاعوا وبالقدر الذي تمكّنوا فيه. قال رجل آخر إن أسبوعاً مضى على وجوده في رفح، ولا يوجد مكان ينام فيه، فهو يتنقل مع طفليه وزوجته من مكان إلى آخر. يبيت كلّ ليلة في خيمة لأحد الأصدقاء. لا يستطيع دفع تكاليف إنشاء خيمة، وليست لديه المهارة اللازمة لفعل ذلك. ... وماذا ستفعل بعد ذلك؟ سأل أحدهم. لم يملك إجابة، بل اكتفى بالقول "الله كبير". وهذا يعني أنه لا يعرف أين سينام الليلة.

صوتُ القصف من بعيد. لم يتوقف لمعان القذائف. أخبار عن استمرار الهجوم على منطقة القرارة وقصف شارع صلاح الدين في المنطقة الواصلة بين دير البلح وخانيونس، وقد يكون هذا مقدّمة لفصل خانيونس بشكل كامل من أجل استمرار العمليات العسكرية فيها. سحابة من الدخان الأسود تغطّي السماء في الجهة الشمالية تبدو من فوق مدينة حمد. يتواصل صوتُ الطائرة الزنّانة بصخب، ويكاد يكون الصوت الأكثر وضوحاً حولنا. حال الناس يتشابه، وتكاد أوضاعها تكون واحدة. لا يهم من أنت وماذا تعمل، فالجميع سواسية، وهموم الجميع واحدة، ومشكلاتهم مشتركة. لا يوجد لأي شخص أي امتياز لا يتمتّع به الآخرون. الكلّ يعاني ويتألم، والكلّ يبحث عن "بطّانية" زيادة، حتى يتدفأ أو عن كيس طحين حتى يجد خبزاً يأكله. وإذا فكر الإنسان بغيره كما يقترح محمود درويش، فإنه سيقضي نهاره وليله يتوجّع، لأنه سيجد نفسه أيضاً لا يستطيع إطعام الحمام.

دخل عليّ شاب، قال إننا التقينا قبل ذلك في "الغاليري"، وهو مقهى خاص كان الفنان جمال أبو القصمان قد أنشأه للقاء الفنانين والكتّاب قبل عشرين عاماً. كان يسأل عمّن يساعده في إخراج زوجته من منطقة وجود الدبّابات قرب مفرق القرارة، حيث إنها والأطفال يبكون، خائفين من أن تستهدفهم الدبّابات. اقترحت عليه أن يسأل موظف العلاقات العامّة في الهلال الأحمر، فهو على تواصل مع المنظّمات الدولية.

قضايا وناس
التحديثات الحية

المساهمون