نصف علاج... مليون دولار لرعاية أسنان فقراء تونس

17 اغسطس 2022
ميزانية حكومية ضئيلة لكل اختصاصات صحة التونسيين (فتحي بلعيد/ فرانس برس)
+ الخط -

تحلم التونسية الستينية خميسة السعيدي بقضم تفاحة أو الاستمتاع بطبق مشاوي لحم الضأن، لكن ذلك أصبح صعب المنال بالنسبة إليها بعدما فقدت أسنانها الأمامية والجزء الأكبر من أضراسها القاطعة نتيجة مرض أصيبت به في اللثة.
تروي لـ"العربي الجديد" رحلتها الطويلة والشاقة مع أمراض الأسنان واللثة، وتحمّلها الآلام أسابيع طويلة خلال انتظارها موعد طبيب في مستشفى حكومي تابع حالتها أكثر من سنة ونصف السنة، قبل أن تتوقف خدمات الوحدة أشهراً طويلة خلال جائحة كورونا.
خلال حديثها تضع خميسة يدها على فمها خجلاً من أن يراها الناس بلا أسنان، لكنها مجبرة على تحمّل وضعها والاكتفاء  بنصف علاج يؤمنه المستشفى الحكومي في ظل عدم قدرتها على توفير كلفة تركيب بدائل غير ثابتة ثمنها ألف دينار (639 دولاراً).
في مكان إقامتها بمدينة باجة لا يقدّم المستشفى الحكومي خدمة تركيب الأسنان، ويكتفي بتوفير العلاجات الأساسية مثل مداواة التسوّس وخلع الجذور أو حشوها، بينما يؤمّن أطباء القطاع الخاص العلاجات المتطورة، مثل الزراعة والتقويم والتجميل وتركيب البدائل غير الثابتة. وسيحتاج من يعانون من أمراض الأسنان والفم في باجة إلى الانتظار حتى عام 2024 كي يشملهم تعميم خدمة المختبرات التي أطلقتها وزارة الصحة في القطاع الحكومي، ما يسمح بحصول المواطنين في المستقبل على علاج كامل في مستشفيات القطاع العام.
ولا تكشف تفاصيل البرامج الأربعة لميزانية وزارة الصحة للعام الحالي وجود استثمارات مبرمجة في اختصاص طب الأسنان والفم، باستثناء نفقات للحصول على خدمات 165 طبيباً، فطب الأسنان والفم لا يحظى ببرنامج خاص في ميزانية الصحة، وغير مدرج في شكل مباشر ضمن البرامج الفرعية، إذ تتوزّع نفقاته بين برنامج الرعاية الصحة الأساسية والقيادة المساندة، وكأن لا أهمية له، فهو ركن ضعيف في السياسات العامة للصحة. 
تقول المديرة المركزية المكلفة وحدة النهوض بالفم والأسنان في وزارة الصحة ليلى العربي لـ"العربي الجديد": "لم تكتمل خريطة رعاية صحة الأسنان، إذ تكتفي غالبية الوحدات الصحية بتقديم نصف علاج". ولم يتجاوز الاعتماد المخصص لطب الفم والأسنان في ميزانية العام الحالي مبلغ 4 ملايين دينار (1.2 مليون دولار)، مع التعهد برصد مليون دينار (310 آلاف دولار) في ميزانية عام 2023 مخصصة لبرامج الوقاية، ما يمثل نسبة 0.9 في المائة من مجموع الاستثمارات في القطاع الصحي المقدرة بـ420 مليون دينار (134 مليون دولار).  

خسر طب الأسنان مثل غيره اختصاصيين في الأعوام الأخيرة (فتحي بلعيد/ فرانس برس)
خسر طب الأسنان مثل غيره اختصاصيين في الأعوام الأخيرة (فتحي بلعيد/ فرانس برس)

وتقرّ العربي بضعف اهتمام السياسات العامة للصحة باختصاص طب الأسنان والفم، ما يحرم ملايين التونسيين من حق العلاج الكامل. وتشير إلى أن القطاع الحكومي لا يؤمن إلا 15 في المائة فقط من علاجات الاختصاص. وتوضح أنه "جرى تجهيز 15 مستشفى حكومياً فقط بمختبرات تسمح بحصول المرضى على خدمات كاملة لتركيب بدائل متحركة، لكن ذلك غير كافٍ مقارنة بإمكانات القطاع الخاص التي تتقدم أشواطاً في استعمال أحدث تكنولوجيات العلاج". 
وتشدد على أن صحة الأسنان والفم جزء لا يتجزأ من الصحة العامة والعافية في كل مراحل الحياة، لكنها ظلت مهملة في جدول أعمال الصحة العامة حتى عام 2014، حين أنجز أول إحصاء شامل لتجهيزات وأقسام طب الأسنان في القطاع الحكومي.
عموماً، تؤكد منظمة الصحة العالمية ضعف الرعاية الخاصة بصحة الأسنان والفم في بلدان عدة لا يحظى فيها هذا الاختصاص الطبي إلا بقدر محدود من الاهتمام، وتتواجد بعضها في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا. وتطالب المنظمة بأن تتاح الحزمة الأساسية للعناية بالفم، ويجري توفير موارد مالية وبشرية إضافية لتقديم خدمات العناية في شكل صحيح وسليم، لتلبية احتياجات السكان.

واللافت أن أرقام وزارة الصحة التونسية تحدد نصيب كل مواطن من مخصصات رعاية وصحة الأسنان بـ33 ديناراً (10.5 دولارات) سنوياً، بينما تبلغ مخصصات المواطن الفرنسي على رعاية الأسنان 177 دولاراً سنوياً، بحسب أرقام نشرتها وحدة صحة الأسنان والفم الفرنسية عام 2019.
وعموماً يؤثر ضعف نفقات الصحة في تونس على نوعية العلاج الذي يتلقّاه المرضى في المستشفيات الحكومية التي تعاني من ارتفاع الديون والنقص في الكوادر الطبية وشبه الطبية، بسبب قرار الحكومة تقليص التوظيف. ولا تقتصر تبعات سياسات الحكومة التقشفيّة في القطاع الصحي العام على البنى التحتية والتجهيزات، بل تمتد إلى العنصر البشري، خصوصاً على مستوى الأطباء، وبينهم في اختصاص طب الأسنان. 

يذكر البرلماني السابق عياشي الزمال، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن لجنة الصحة في البرلمان التي ترأسها لمدة عامين "لم تناقش أي مشروع خاص بطب الأسنان والفم، في حين دار نقاش مستفيض حوله لدى عرض مشروع قانون المسؤولية الطبية، باعتباره ذات تأثير على باقي أعضاء الجسم". يتابع أن "نقص الاعتمادات المرصودة لطب الأسنان يحرم المواطنين ذوي الدخل الضعيف وسكان المناطق الداخلية من الخدمات الجيدة، ما يجبرهم على قصد المستشفيات الجامعية أو تحديداً مصحة كلية الطب في مدينة المنستير من أجل الحصول على علاج شامل، أو التوجه إلى القطاع الخاص.

لكن الحلول التي تمنحها المستشفيات الجامعية ومصحة كلية طب الأسنان في المنستير تظل صعبة المنال لأن الحصول على موعد لاستكمال العلاج قد يستغرق أشهراً، كما يتحمل المرضى مصاريف كبيرة للانتقال من مدنهم إلى المستشفيات الجامعية بالعاصمة أو المدن الكبيرة.

إلى ذلك، تستنتج دراسة لمنتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بعنوان "الحق في الصحة في زمن جائحة كوفيد-  19" أن "توسع القطاع الصحي الخاص في سرعة رهيبة طوّع النظام الصحي العام في خدمته، فانقسمت المنظومة الصحية إلى نظامين يسيران بسرعتين مختلفتين".

وتشير الدراسة إلى "انحدار مستوى الخدمات في المستشفيات الحكومية واستشراء الفساد فيها، ما يحوّلها إلى ملجأ أخير بخدمات دنيا للفقراء والمهمشين والشرائح العاجزة عن تحمّل تكاليف الخدمات الصحية في القطاع الخاص، ما يجسد نموذج مستشفى الهامش الذي يقدم خدمات صحية دنيا". 

يعاني طب الأسنان من انحدار مستوى الخدمات الصحية العامة في تونس (ياسين محجوب/ Getty)
يعاني طب الأسنان من انحدار مستوى الخدمات الصحية العامة (ياسين محجوب/ Getty)

وتعالج مستشفيات تونس الحكومية أكثر من 700 ألف شخص يتمتعون بعلاج مجاني أو بتعريفة منخفضة، والمستفيدين من صندوق التأمين على المرض المسجلين ضمن منظومة الصحة العمومية، وأولئك المشمولين بالتغطية الصحية للصندوق ممن يختارون العلاج على نفقتهم فيها.

ويرى محللون أن تونس لم تستخلص الدرس من جائحة كورونا، حيث يتواصل للعام الخامس على التوالي خيار شد الدولة حزام مصاريفها في مجال الصحة، ما أحدث نزيفاً حقيقياً في منظومة الصحة العامة، وتسبب في هجرة نحو 500 طبيب سنوياً إلى مستشفيات أوروبية بحثاً عن ظروف عمل أفضل.
أما طب الأسنان فخسر بين عامي 2016 و2018 نحو 6 بالمائة من عدد الاختصاصيين في القطاع العام الذين تراجع عددهم من 656 إلى 617، أي بمعدل 0.53 طبيب لكل 10آلاف مواطن، في مقابل 2.88 طبيب لعدد السكان نفسه في القطاع الخاص، بحسب ما تفيد بيانات دارسة رسمية أجرتها وزارة الصحة.

وفي موازاة تطوّر عدد الأطباء التونسيين الذين بلغ عددهم بحسب بيانات المعهد الوطني للإحصاء 14.892 عام 2017، بنسبة نموّ تُقدّر بـ22.5 في المائة خلال العشريّة الأخيرة، لم تتجاوز حصيلة تطوّر عدد الأطباء في المرافق الصحيّة العامة 14 في المائة خلال الحقبة نفسها.  

المساهمون