ناجون سوريون... ذكريات العمر تحت أنقاض المنازل

ناجون سوريون... ذكريات العمر تحت أنقاض المنازل

22 فبراير 2023
يبحث الناجون عن متعلقاتهم بين الركام (قاسم رماح/ الأناضول)
+ الخط -

أمست مئات المنازل ركاماً لا يعرف منها أي تفاصيل للبناء، لكن الركام يضم في ثناياه آلاف الحكايات. هنا مات الجميع، وهناك حدثت معجزة، وخرج طفل من بين الأنقاض بعد مضي ساعات أو أيام على الزلزال، لكن كل الأنقاض تشترك في اختزان ذكريات أصحابها، تلك الذكريات التي ترفض أن تغادرها.
قرب جبل من الركام، يتجوّل السبعيني أبو عبدو العمر حول أطلال منزله المدمر في بلدة سلقين، يطوف بالمكان كمن يطوف حول ضالته، تشعر بأنه يبحث عن شيء ما، لكنك لا تعرف ما الذي يبحث عنه، تتلاطم خطاه كأنها أمواج؛ يقترب بحذر من البناء متجاهلاً إشارة الخطر التي وضعتها اللجنة الفنية للتحذير من احتمال سقوط البيت في أي لحظة نتيجة الهزات الارتدادية التي ما تزال تضرب المنطقة.
يقلب الرجل إحدى اللبنات الأسمنتية المتهدمة ليرفع شيئاً من تحتها، يمسكه بعناية، وينظفه بهدوء كأنما عثر على لقية أثرية، إنها لعبة أطفال، يشمها ويضمها إلى صدره. هذه اللعبة هي الذكرى الوحيدة المتبقية من حفيدته التي ماتت تحت هذه الأنقاض. يقول لـ"العربي الجديد": "أحمد الله أن البناء تماسك حتى تمكن بعض أفراد العائلة من الخروج، وإلا كانت الخسارة أكبر بكثير. حفيدتي نور ذات السبع سنوات لم تكتب لها النجاة، فقد انهار الحائط الذي كانت نائمة بجواره فوقها، وتوفيت قبل أن تصل إلى المستشفى". 
يتأمل أبو عبدو أركان بيته، ويتحدث إلى نفسه بكلمات مسموعة أحياناً، وكأنه يستذكر جلساته وسهراته مع العائلة، ينفض يديه من بقايا الأتربة العالقة، ويحمل بعض الأغراض، ومنها لعبة حفيدته، ثم يدير ظهره للبناء، ويمضي تاركاً خلفه ذكريات يستحيل نقلها.
على مسافة ليست ببعيدة، كان سامي الرشيد يرتب الأشياء التي يُخرجها من منزله برفق في سيارة نقل صغيرة. يأخذ قسطاً من الراحة، ويحدثنا عن لحظات الرعب التي عاشها أثناء وقوع الزلزال الأول، يقول لـ"العربي الجديد" إنه كان مستيقظاً حين بدأت الهزة، وهو ما مكنه من مغادرة المنزل فوراً مع عائلته قبل تهدمه: "الحمد لله. لو تأخرنا لحظات فقط لسقطت تلك الأحجار فوق أحدنا".
بقدر ما يشعر الرشيد بالغبطة على نجاته وأهله من الكارثة، لكنه يشعر ببعض الأسى على بيته ومقتنياته. يقول: "كان هذا جنى العمر بالنسبة لي، والآن عليّ أن أبدأ من جديد، ولا أعرف ماذا يخبئ لي المستقبل، ولا كيف ستكون حياتي بعد الآن".
كان سامي يعيش في بيت عربي من طابق واحد، وهو ما ساعده على مغادرة المكان. يحصي خسائره بحسرة بينما يحدثنا عن ذكرياته مع بعض المتعلقات، وكيف جمعها من أماكن متفرقة أثناء عمله في لبنان. يقول: "لا أريد أن تتعرض أغراضي لاهتزازات جديدة بعد الاهتزاز الذي تعرضت خلال الزلزال، فجميعها ذات قيمة معنوية لدي، وبعضها رافقني منذ يوم زفافي".

على الجهة المقابلة من المنزل، كانت زوجته سعاد تجمع ما تبقى من أواني المطبخ، وتضعها في ركن بانتظار أن يحملها زوجها إلى السيارة. ترمي المحطم منها بعد أن تمعن النظر لتتأكد من كونها لم تعد قابلة للاستعمال. تقول لـ"العربي الجديد": "خسارتنا لا تقارن أبداً بخسارة غيرنا، لكن ما خسرناه لن نتمكن من تعويضه، فما يتقاضاه زوجي من عمله في البناء لا يكفي لأدنى احتياجات العائلة. أخجل من جمع تلك الأشياء أمام ما أشاهده من خسائر جيراني وأقاربي. لكننا عدنا إلى مرحلة الصفر، حتى المنزل الذي كنا نملكه لم يعد صالحاً للسكن بوضعه الحالي".
حالة أبو سامر العزو، ابن مدينة جنديرس، كانت أصعب من سابقيه، فمنزله لم يتهدم بالكامل، لكن تهاوى الدرج، ولا يمكن الوصول إلى الداخل، كما بات الاقتراب من المنزل خطراً، إذ يمكن أن ينهار في أي لحظة.
يقول أبو سامر: "أرغب فقط في إلقاء نظرة أخيرة على تفاصيل البيت، وأجمع بعض المقتنيات. لا يمكنني أن أمضي بهذه السهولة تاركاً سنوات طويلة من الذكريات، لكن دخول المنزل محفوف بالخطر. أوراقنا الثبوتية كلها في الداخل، وهي عقبة جديدة لا نعرف كيف سنتجاوزها، فنحن الآن بدون أي ورقة ثبوتية أو شهادة ملكية، وإخراج هذه الأوراق لن يكون أمراً يسيراً".

بعض العائلات ترفض مغادرة أنقاض منازلها (علاء فاترفي/الأناضول)
بعض العائلات ترفض مغادرة أنقاض منازلها (علاء فاترفي/ الأناضول)

يقيم أفراد عائلة أبو سامر في خيمة قريبة من منزلها المتهالك، وهم يرغبون بالبقاء لأطول مدة ممكنة رغم وجود أماكن أخرى أفضل، فالبقاء قرب المنزل يمنحهم إحساساً بالاستقرار قبل أن يبدأوا رحلة النزوح التي لا يعرفون نهايتها.
يقول: "لا أعرف إذا كنت أمتلك الجرأة للبقاء هنا، ومشاهدة المنزل في آخر لحظاته قبل تدميره. لا أملك القدرة على تخيل الأمر، وأشعر كأن صور حياتي كلها ستتلاشى في لحظة تدميره، كنت أتمنى أن تخبرني لجنة الكشف التي اطلعت على المكان أن البناء قابل للإصلاح والترميم، حتى لو كانت التكاليف كبيرة، لكنها بكل تأكيد لن تعادل الخسارة المادية والمعنوية التي سأتكبّدها".
في جنديرس أيضاً، يرفض أبو حسام وزوجته مغادرة محيط منزلهم المتهدم. يقومان بين الفينة والأخرى بجولة للبحث عن أغراضهم. يقول أبو حسام إن أمله ضعيف في الوصول إلى بعض المال والمصوغات التي كانت في البيت لتعينهم على محنتهم. يقول لـ"العربي الجديد": "ابني أصيب بكسور خلال انهيار المنزل، وهو الآن في المستشفى، كما تعرض بقية أفراد العائلة لرضوض وإصابات مختلفة، لكنها الحمد لله لم تكن خطيرة. لا أصدق ما حدث حتى الآن. ضاع كل شيء في لحظة، وأحمد الله على أننا نجونا من الموت، لكن حياتنا المقبلة ستكون صعبة".

كثيرون لم يتمكنوا من تجاوز الصدمة (عبد العزيز قيطاس/فرانس برس)
كثيرون لم يتمكنوا من تجاوز الصدمة (عبد العزيز قيطاس/ فرانس برس)

زينب ابنة أبو حسام البالغة 15 سنة تقول إنها خرجت على عجل، ولم تتمكن من إحضار هاتفها الجوال، وتعتقد أنه تهشم نتيجة هذا الردم، لكنها تنتهز كل فرصة لتطلب من أي أحد أن يرن عليه، علها تسمع صوت رنين الهاتف، لكن ما من صوت يسمع".
على بعد 200 متر، كان الشاب فادي ينبش بين الركام، مستخدماً يديه تارة، ومعولاً ورفشاً تارة أخرى. حين يصيبه التعب يأخذ قسط من الراحة، أو يتناول كأساً من الشاي يقدمها أحد الجيران أو المعارف ممن يرابطون في المكان. 
يقول فادي إن والده المقيم مع عائلته عند أحد الأقارب يرسله كل يوم ليقوم بجولة البحث هذه، وأحياناً يأتي معه علهم يعثرون على شيء مفيد من مقتنيات المنزل الذي كان في الطابق الثاني من البناء. تمكن من الوصول إلى بعض موجودات المطبخ، لكن معظمها كان تعرض للتهتك، ولا فائدة منها. يضيف أنه تمكن مع والده خلال الأيام الماضية من العثور على بعض الموجودات القيمة، من بينها بعض المال، وشخصياً كان يريد الوصول إلى غرفته لاستعادة أغراضه الخاصة، لكن كتلة بيتونية كبيرة تطبق على الغرفة، ولم تفلح مناشداته لسائق الرافعة لإزاحة هذه الكتلة، والذي قال له إن لديه أعمالاً أهم، فهو مشغول بالبحث عن ناجين محتملين، وليس عن أغراض شخصية. 

لا يطيق أبو فارس الجابي البقاء قرب منزله المهدم بعد أن خسر هناك أعز ما لديه، ابنه الصغير البالغ من العمر عامين. يقول إنه لم يكن في البيت ساعة الزلزال. كان في ضيعة مجاورة عند أحد الأصدقاء، فألح عليه صاحبه أن يبيت عنده بعد أن تأخر الوقت، وكان في البيت زوجته وأولاده الثلاثة، ولحظة الزلزال تدحرج الجميع على درج البناء، فتعثرت زوجته مع الصغير الذي كانت تحمله، ووقع عليهما أحد الأعمدة، وتعرضت زوجته لإصابات شديدة، بينما توفي الولد الصغير، ونجا بقية الأولاد.
يقول لـ"العربي الجديد": "بعد أن فقدت البيت خلال الأيام الأولى، شعرت بأنني لم أعد أطيق الذهاب إلى هناك، وخاصة حين شاهدت بعض آثار الغرفة التي كان ينام فيها ابني المتوفى شادي. كل لحظة أقضيها هناك تذكرني بالصغير، وبضحكاته، وصراخه الذي كان يملأ المكان. لكن ما باليد حيلة. قدّر الله وما شاء فعل". 
دفن الناجون من الزلزال قتلاهم، ودُفنت معهم آلاف القصص والحكايات والذكريات، لكن بعض أصحاب المنازل المدمرة ما زال متمسكاً بأمل استخراجها عبر البحث عن طريقة لترميم المنزل، بينما يسعى آخرون للتعايش معها أكبر فترة ممكنة قبل أن تغيب للأبد، وفضل آخرون الابتعاد عن المكان بشكل كامل إلى غير رجعة على أمل أن يسهم الابتعاد في نسيان تلك اللحظات المؤلمة التي خسروا أحبابهم فيها، وعاشوا لحظات من الرعب لا يمكن أن تتلاشى.

المساهمون