رائحة الموت في صفاقس.. تونس تواجه أكبر موجة هجرة نحو إيطاليا

رائحة الموت في صفاقس.. تونس تواجه أكبر موجة هجرة نحو إيطاليا

04 مايو 2023
لم تكتمل رحلة هؤلاء إلى "الجنة الأوروبية" فانتهت بهم الحال بتونس (جهاد عبد اللاوي/ رويترز)
+ الخط -

تقذف الأمواج جثث المهاجرين الغارقين في البحر الأبيض المتوسط في كلّ يوم تقريباً على شواطئ صفاقس وسط تونس، وتكتظّ المشرحة وردهات مستشفى المدينة بعشرات الجثث الأخرى، في دليل واضح شديد القسوة على الزيادة غير المسبوقة في أعداد المهاجرين الذين يركبون قوارب الموت ووجهتهم إيطاليا.

وفي مشاهد مثيرة للشفقة، تعود دوريات خفر السواحل إلى ميناء مدينة صفاقس بأعداد هائلة من المهاجرين غير النظاميين بعد اعتراضهم في البحر، وذلك في نهاية غير تلك التي كانوا يتمنّونها لأحلامهم بحياة أفضل في أوروبا.

يقول العميد في الحرس الوطني التونسي حسام الدين الجبابلي إنّ أعداد المهاجرين الذين يعبرون البحر الأبيض المتوسط ارتفعت عموماً، فيما زاد عدد المغادرين من تونس بصورة كبيرة وبلغ مستويات غير مسبوقة.

وقد أوقف خفر السواحل ما يزيد عن 17 ألف شخص في البحر، في الأشهر الأربعة الأولى من عام 2023، مقارنة بنحو ثلاثة آلاف فقط في الفترة نفسها من عام 2022، أي بزيادة قدرها نحو ستّة أمثال.

وقفزت الأرقام بعد حملة استهدفت المهاجرين من دول أفريقيا جنوب الصحراء في فبراير/ شباط الماضي، أطلقها الرئيس التونسي قيس سعيّد مستخدماً لهجة ندّد بها الاتحاد الأفريقي ووصفها بالعنصرية. وعقب ذلك، تحدّث مهاجرون كثيرون عن تعرّضهم لهجمات عنصرية.

الصورة
جثة مهاجر من أفريقيا جنوب الصحراء وحرس سواحل تونسي (جهاد عبد اللاوي/ رويترز)
نقل جثّة مهاجر ابتلعه البحر قبل أن يقذفه على شاطئ تونس (جهاد عبد اللاوي/ رويترز)

كان إبراهيم بوباي من ساحل العاج يصرخ بعد نقله على متن سفينة خفر السواحل مع زوجته وطفلَيه الرضيعَين على إثر توقيفهم، قائلاً: "دعونا نذهب! رئيسكم طردنا والآن تمنعوننا من المغادرة.. اتركونا".

أضاف إبراهيم وهو يغالب دموعه: "لقد طُردنا من منزلنا، وثمّة من رشق منزلنا بالحجارة"، مؤكداً أنّه غادر تونس مضطراً.

وكرّر مهاجرون عديدون من أفريقيا جنوب الصحراء التقت بهم وكالة رويترز كلاماً مماثلاً، بعد اعتراض قواربهم المتهالكة المكتظة في رحلات محفوفة بالمخاطر.

وبعد دقائق من صعود فريق وكالة رويترز على متن سفينة خفر السواحل رقم 3505 قبالة سواحل صفاقس، لمح القبطان قارباً يُحتمل أن يكون لمهاجرين، على شاشة الرادار، في طريقه إلى جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، الوجهة الرئيسية للمهاجرين. بسرعة، طلب من زورقَين سريعَين التوجّه صوب الهدف ليتبيّن بالفعل أنّ القارب المتهالك مكتظّ بمهاجرين.

على الرغم من الظروف السيئة، وبعد أن صار القارب المكتظ بالمهاجرين في مجال الرؤية وسط الظلام، توسّل عدد منهم ومن بينهم أطفال خفر السواحل أن يدعوهم يتابعون طريقهم. أمّا آخرون، فحاولوا المقاومة أو الهرب.

وفي الساعات التالية من ذلك الصباح، راقبت وكالة رويترز خفر السواحل وهو يوقف خمسة قوارب هجرة غير نظامية ويتعقّب أربعة أخرى على الأقلّ، من دون أن يكون لديه متّسع من الوقت أو إمكانيات للحاق بها كلها.

الصورة
مهاجرون من أفريقيا جنوب الصحراء وحرس سواحل تونسي (جهاد عبد اللاوي/ رويترز)
مواجهة ما بين خفر السواحل ومهاجرين قبالة الساحل تونسي (جهاد عبد اللاوي/ رويترز)

ووثّق فريق وكالة رويترز في أحد القوارب مشاهد لمهاجرين يشتبكون مع خفر السواحل بالعصي وآخرين يلقون بقضبان معدنية على أفراد الدوريات، في حين أنّ ثمّة أشخاصاً هدّدوا بإلقاء أنفسهم في البحر.

لم يتوقّف القارب المكتظّ بمهاجرين سودانيين، وظلّ زورقان سريعان لخفر السواحل يلاحقانه لما يزيد عن 30 دقيقة. وراح هؤلاء المهاجرون يصرخون من قاربهم "اتركونا نمرّ.. في السودان حرب.. السودان مدمّر".

لكنّ هذا القارب لم يكن يحمل سودانيين فقط، بل كان على متنه مهاجرون سوريون كذلك.

وقرّر خفر السواحل عدم البقاء مكتوف الأيدي في هذه المطادرة. وبمجرّد اقتراب زورقه السريع من قارب المهاجرين، تناول عنصر من خفر السواحل عصا طويلة وحطّم محرّك القارب لإيقافه كلياً. ويقول العناصر إنّهم يضطرون إلى تحطيم المحرّكات عندما لا يتوقّف المهاجرون أو يرفضون الانصياع للأوامر.

لجوء واغتراب
التحديثات الحية

وبينما كان مهاجرون من هؤلاء يهمّون بالانتقال من قارب الهجرة إلى سفينة صغيرة تابعة لخفر السواحل، أتى نداء من السفينة الكبيرة التي تجمع المهاجرين في عرض البحر، طلباً للمساعدة من أجل إخماد احتجاجات مهاجرين على متنها.

فربط خفر السواحل القارب بالسفينة بواسطة حبل سميك وبدأ في جرّه. لكنّ إصرار المهاجرين السودانيين على إتمام رحلتهم كان أكبر، فأخذ أحدهم سكّيناً وقطع الحبل قبل أن يعود القارب إلى الهروب من جديد.

عندما عادت زوارق خفر السواحل الصغيرة إلى السفينة الرئيسية، كان قبطانها يطلق النار في الهواء في محاولة لإخماد احتجاج نحو 200 مهاجر من أفريقيا جنوب الصحراء على متن السفينة يطالبون بالسماح لهم بالذهاب إلى إيطاليا.

وتنتقد مجموعات الدفاع عن حقوق المهاجرين أسلوب تحطيم محرّكات القوارب، موضحة أنّ ثمّة قوارب تُركت من دون دفّة وسط الأمواج وتعرّضت لخطر الغرق. لكنّ الجبابلي ينفي تعرّض المهاجرين للخطر ويشير إلى أنّ خفر السواحل يتعرّض لتهديدات متزايدة في البحر عند إيقاف قوارب المهاجرين.

وفي المواجهات الأخيرة، أُصيب أحد عناصر خفر السواحل في يده بعد تعرّضه لضرب بآلة حديدية استخدمها مهاجر في مقاومته.

الصورة
مهاجرون من أفريقيا جنوب الصحراء في صفاقس في تونس (جهاد عبد اللاوي/ رويترز)
هؤلاء أُنقذوا من البحر غير أنّهم "علقوا" في صفاقس (جهاد عبد اللاوي/ رويترز)

وصارت تكاليف الرحلات تنخفض، إذ صار المهاجرون يعتمدون بدرجة أقلّ على قوارب الصيد التونسية، ويشترون قواربهم المعدنية المصنوعة بتكلفة بسيطة والمخصّصة لرحلة واحدة فقط.

ويفيد مسؤولون في الحرس الوطني تحدّثت إليهم وكالة رويترز في قرى شاطئية بصفاقس إنّ تكلفة العبور إلى إيطاليا كانت في السابق 5000 دينار تونسي (نحو 1600 دولار أميركي) لكنّها تراجعت الآن إلى ما بين 1000 و2000 دينار (نحو 330 - 660 دولاراً) فقط، مع تقاسم المهاجرين تكلفة القارب والمحرّك بالتساوي بينهم.

في هذا الإطار، يخبر أحد سكان منطقة جبنيانة في صفاقس وكالة رويترز أنّ "القارب المعدني الذي تبلغ تكلفة صنعه 2000 دينار يمكن أن يُباع في مقابل 20 ألفاً (نحو 6600 دولار). يضيف أنّ ثمّة زيادة مستمرّة في أعداد الذين يصنعونها بالقرب من الشواطئ، مشيراً إلى استخدام منازل لهذا الغرض أخيراً. يُذكر أنّ صنع قوارب الموت الحديدية صارت نشاطاً مربحاً لكثيرين في مناطق العامرة والمساترية، إذ يستخدمون منازلهم لذلك قبل نقلها إلى الشاطئ.

ولم يخفِ مهاجرون كثيرون، تحدّثت إليهم وكالة رويترز وهم على متن زوارق خفر السواحل، أنّهم سوف يحاولون العبور مرّة أخرى قريباً.

من جهة أخرى، لم تكدّس جثث المهاجرين فقط في المستشفى، فشواطئ صفاقس تلفظ يومياً أعداداً كبيرة منها. وبحسب بيانات خفر السواحل، فإنّ أكثر من 230 جثة انتُشلت قبالة السواحل التونسية في الأيام العشرة الأخيرة من شهر إبريل/ نيسان المنصرم، وهو رقم غير مسبوق في مثل هذه الفترة القصيرة.

أمّا أرقام المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية فتشير إلى أنّ 500 مهاجر تقريباً لاقوا حتفهم أو ما زالو في عداد المفقودين في حوادث غرق قبالة السواحل التونسية هذا العام، وهو أمر لم يسبق حدوثه ويُظهر بوضوح هول الكارثة.

وقد شاهد فريق وكالة رويترز، في جولة قصيرة على شواطئ صفاقس، خمس جثث جرفتها الأمواج، من بينها جثّة متآكلة لصبي يرتدي قميصاً أبيض.

وفي مستشفى الحبيب بورقيبة بصفاقس، أُحصيت 200 جثّة تقريباً، معظمها في خارج المشرحة الصغيرة، وقد كُدّست على أرضية الممرّ في أكياس. وتنبعث روائح كريهة من جرّاء ذلك، ويشكو منها مرضى المستشفى. ويؤكد أحد الممرّضين أنّه "لم نشاهد أمراً مماثلاً من قبل.. لم نعد قادرين على التحمّل".

وفي سياق متصل، قال مدير الصحة الجهوي حاتم الشريف لوكالة رويترز إنّ السلطات تعتزم بناء مقبرة جديدة للمهاجرين، موضحاً "نحن ندفن العشرات كلّ يوم".

(رويترز)

المساهمون