ربّما يساهم قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة إنشاء مؤسسة مستقلة من أجل جلاء مصير آلاف المفقودين في سورية على مدى 12 عاماً في بعث الأمل لدى ذوي المعتقلين الذين أنهكهم ألم الترقب والانتظار. وعلى مدى هذه السنين، كانت عمليات الاعتقال العشوائية بدوافع انتقامية لا تفرّق بين شاب أو رجل أو طفل أو امرأة أو حتى كبار السن، بل طاولت كل سوري قد يكون في صف المعارضة أو مجرد مؤيد مع بداية الثورة.
رأى كثيرون صور قيصر (صور المعتقلين السوريين التي سربها العسكري المنشق عن نظام بشار الأسد والذي لقب باسم قيصر)، وعددها 55 ألف صورة وتوثق مقتل 11 ألف معتقل في سجون النظام السوري، وتبدو على جثثهم آثار التعذيب بالكهرباء والضرب المبرح، وتكسير العظام والخنق، والأمراض المختلفة من بينها الجرب والغرغرينا. ومن بين القتلى فتيان تتراوح أعمارهم ما بين 12 و14 عاماً، ونساء وشيوخ يتجاوز عمر بعضهم 70 عاماً.
يعيش عبد الله حاج سليمان حتى اليوم حالة ترقب لمعرفة مصير شقيقه. ويقول لـ "العربي الجديد": "اعتقل شقيقي مصطفى عام 2013 خلال وجوده بريف دمشق من قبل حاجز لجيش النظام السوري. بدأنا البحث عن مكانه لنعرف أين تم إخفاؤه، لكن لم يكن هذا يجدي أي نفع. بعدها، بدأنا البحث عنه لمعرفة مصيره من خلال محامين ودفعنا الكثير من المال لهم ولغيرهم. وكل عمليات البحث كانت عبارة عن عمليات نصب واحتيال من قبل الأشخاص الذين كانوا يعدون بالكشف عن مصيره".
وبعد تسريب صور قيصر، تشابهت إحدى الصور مع صورة مصطفى. يضيف عبد الله: "في التسريبات، رأينا صورة شبيهة لأخي، وفقدنا الأمل في أن يكون على قيد الحياة. عند التواصل مع رابطة عائلات قيصر، اتفقنا على تحديد موعد لرؤية الصورة وتلك المشابهة لها، واستغرق الموعد قرابة العام لنرى الصور. كنت أنا وإخوتي وابنه علي. رأينا أكثر من 300 صورة مشابهة لصورة أخي. ومن خلال الذكاء الاصطناعي والصورة القديمة التي لدينا، تأكدنا أنه ليس هو، فعاد إلينا الأمل أن يكون على قيد الحياة".
ويرى أن ملف المعتقلين يجب أن يكون في أولوية أي مفاوضات، مضيفاً: "في الحقيقة، ولشدة الألم الذي نعيشه في العائلة، كنت أتمنى أن يكون من بين الشهداء بعد اعتقاله، لأن هذا قد يكون خفف عنه عذاب 10 سنوات على أقل تقدير في سجون النظام المجرم. لكن لدينا أنا وإخوتي وزوجته وأطفاله أمل حتّى الوقت الحالي أنّه حي حتى بعد كل هذه السنين في المعتقلات تحت التغييب القسري. بالنسبة لي كحقوقي وشقيق لمعتقل، النظام مجرم وليس له أي عهد أو ميثاق، ولا يمكن لأيّ منظّمة أن تؤثّر في قضية المعتقلين أو مصيرهم، ولن يتعاون النظام أبداً في هذا الملف". ويلفت إلى أنه "ملف صعب للغاية وشائك وفائق الأهميّة، ويفترض ألا تتم أي عملية تفاوض مع النظام السوري من دون أن يكون هذا الملف في الأولوية. ويفترض ألا تقوم جهات المعارضة بالتفاوض مع النظام حتى إنهاء ملف المعتقلين، لكنه آخر الملفات التي يهتم لها السياسيون. وحتى الآن، ندعو الله بالفرج لجميع المعتقلين في سورية".
تتشابه المعاناة لدى ذوي المعتقلين ممن لا يعرف مصيرهم بعد أكثر من عقد على الاعتقال والتغييب في سجون النظام، وهو ما يؤكده ماجد المحمد قريب المعتقل محمد خراطة. ويتحدث لـ "العربي الجديد" عن تفاصيل اعتقال محمد وتغييبه قائلاً: "منذ عام 2012، غيّب محمد المتحدر من منطقة القلمون في ريف دمشق في سجون النظام السوري. وحتى اليوم، لا نعرف شيئاً عن مصيره، ولا يعرف ذووه إن كان قد قتل تحت التعذيب أو أنه لا يزال حياً في سجون النظام. عندما اعتقل، كان بعمر 52 عاماً، وهو أب لعائلة من خمسة أفراد، أحد أولاده من الأشخاص ذوي الإعاقة. كان لديه بيت في دمشق ويزور أهله في القملون. وخلال عودته إلى البيت في دمشق في منطقة كفرسوسة ضمن الحارة المعروفة باسم حارة الدحاديل، اعتقل من قبل دوريّة كانت موجودة هناك. ولا أخبار عنه حتى الآن على الرغم من أنه كان موظّفاً حكومياً في إحدى دوائر الدولة خلال عام 2012".
يتابع ماجد: "بعد اعتقاله، حاول أهله من خلال الضباط وجهاز الاستخبارات معرفة مصيره وذلك بدفع المال. وكلّ ما كانوا يحصلون عليه هو مجرد أخبار عن أنه موجود في فرع المنطقة وتارة في فرع أمن الدولة أو فرع الاستخبارات بدمشق. كلّ هذه المعلومات لم تكن تحدّد مصيره تماما، وهي مجرد عمليات ابتزاز واحتيال لا أكثر. وحتى اليوم، لا يزال قيد الإخفاء القسري. أصيبت والدته بأمراض عدة بعد اعتقاله ولا تزال حتى اليوم تنتظر الإفراج عنه. ودائماً ما تترقب عائلته أية أخبار. وقد تابعت كلّ صور قيصر على أمل معرفة مصيره، لكن حتى اليوم وبعد مرور كلّ هذه السنين على اعتقاله، وعلى الرغم من أنه لم يكن له أي نشاط ثوري، لا يزال مغيباً قسراً. كان من البعيدين عن إثارة أي شبهة، وأخفي قسراً حينها بدوافع طائفية خلال تلك الفترة التي شهدت حدة في الاحتجاجات ضدّ النظام في عموم مناطق سورية، كغيره من الكثيرين الذين غيبوا قسراً من دون أي مبرر أو سبب، فقط بإجرام من أجهزة الأمن وجيش النظام".
ويقول: "اليوم وبعد كلّ السنوات التي مضت على اعتقاله، لا تزال عائلته تعيش المعاناة والترقب. تنتظر أمّه وزوجته وأبناؤه أيّ خبر عنه. المعاناة لا توصف والأوجاع كبيرة بالنسبة إليهم". ومن بين المعتقلين أيضاً علي رشيد، وهو خريج كلية الحقوق بمعدل ممتاز، ويتحدر من بلدة بدّا في ريف دمشق، كما يوضح صديقه أمين الحسين لـ "العربي الجديد". يضيف: "التحق علي بالخدمة الإجبارية في الجيش بمطار حلب وأصيب عام 2012، فعاد بإجازة مرضية إلى البيت ولم يلتحق بالخدمة العسكرية. وبعد عامين خلال وجوده في بدا بريف القلمون، اعتقل خلال اقتحام الجيش للبلدة، وما من أخبار عنه منذ عام 2014. حاول أهله دفع أموال باهظة من دون أن يتمكنوا من الوصول إلى أي نتيجة. الحرقة كبيرة. هل هو ميت أم على قيد الحياة؟ هم يريدون ما يريح بالهم ويخلصهم من هذا العذاب".
يضيف أمين: "موضوع كشف مصير المعتقلين مهم جداً ويعطي بعض الراحة لأهلهم. على الأقل يقرأون الفاتحة على أرواحهم في حال كانوا أمواتاً. وهناك ما يتعلق بالأمور القانونية لناحية الزوجة والأولاد، وما إذا كان يحق لهم الحصول على الميراث. يجب الكشف عن مصير هؤلاء المعتقلين لإنهاء المعاناة التي طالت لسنوات".
أحمد (43 عاماً) الذي يتحدر من ريف حمص الشرقي، وتحفظ على ذكر اسمه الكامل لدواع أمنية، يوضح لـ "العربي الجديد" أنّ والدته اليوم بالكاد تقوى على السير، بعدما عانت من أزمة نفسية عقب اعتقال شقيقه عند حاجز لقوات النظام السوري في دمشق. وحال والده الذي تجاوز الخامسة والسبعين من العمر ليس أفضل. يضيف: "خلال العام الماضي، ومع الإفراج عن عدد قليل من المعتقلين وتجمع الناس عند جسر الرئيس في دمشق، عاد إلينا الأمل بأن نسمع خبراً عن شقيقي قتيبة. كنا نراقب ونسأل لكن لم يصل إلينا أي خبر. وخلال السنوات التي مضت على اعتقال شقيقي، بذلنا كلّ ما بوسعنا للحصول ولو على معلومة واحدة نحدد من خلالها مصيره. دفعنا المال لضباط في النظام وسألنا كثيراً من دون نتيجة. اليوم وبعد كلّ هذه السنوات، لم يفقد أمي وأبي الأمل. نخاف أن نذكر اسم شقيقي أمام أمي إذ تبكي على الفور. بالنسبة لي، لا يمكن لأحد أن يضغط على هذا النظام المجرم للإفصاح عن المعتقلين في سجونه وتحديد مصيرهم. هذا النظام وصل لأقصى مراتب الإجرام ولن يستجيب أبداً. كلّ ما نرجوه أن نحصل على خبر ينهي عذابنا، وخصوصاً أمي وأبي".
وفي قضية اعتقال الطبيبة رانيا العباسي، دهم فرع الأمن العسكري التابع للنظام منزلها في منطقة دمر على أطراف دمشق في التاسع من مارس/ آذار 2013، واعتقلها مع زوجها وأطفالهما الستة. ومنذ ذلك اليوم، انقطعت أخبار العائلة كاملة. والطبيبة من مواليد 1970، وكانت قد حققت مكانة علمية عالية، وحصلت على بطولة سورية والعرب في لعبة الشطرنج. لكنّ نظام الأسد لم يشفع لها عنده شيء ولا حتّى لأطفالها وزوجها، ولا يزال مصيرها مجهولاً بعد عقد على تغييبها وعائلتها قسراً في سجونه، ليبقى جرح المعتقلين السوريين في سجون النظام نازفاً.وتضاعفت أعداد المعتقلين والمفقودين منذ اندلاع الاحتجاجات ضد نظام بشار الأسد عام 2011، لتصل إلى نحو 156 ألف شخص، كما يقول مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني لـ "العربي الجديد". ويوضح أن البيانات الموجودة لدى الشبكة تمثل "الحد الأدنى ممن تمكنّا من توثيقهم. ومن بين الـ 156 ألف معتقل لدينا 112 ألف مختفٍ قسرياً كمعتقلين لدى أطراف الصراع المختلفة، ومعظمهم لدى النظام السوري، أي 96 ألف مختفٍ قسرياً، بنسبة تصل إلى 86 في المائة من مجموع السوريين المختفين قسرياً".