حكايات النجاة... فلسطينيون يروون تفاصيل الخروج من تحت الركام في غزة

حكايات النجاة... فلسطينيون يروون تفاصيل الخروج من تحت الركام في غزة

27 يناير 2024
تضم قصص الناجين الكثير من العجائب (علي جاد الله/الأناضول)
+ الخط -

تحتفظ أنقاض المنازل والمباني التي دمرها قصف الاحتلال الإسرائيلي في محافظات قطاع غزة الخمس بالكثير من الحكايات، فضلاً عن العديد من مآسي شهداء لا تزال جثامينهم أسفلها، وقد تحلل الكثير منها.

يروي العديد ممن خرجوا أحياء من تحت ركام المباني المدمرة في قطاع غزة تفاصيل تواجدهم أسفل أنقاض المنازل، ويتذكرون العديد من التفاصيل التي كانت سبباً في إنقاذ حياتهم، لكن غالبيتهم لا ينكرون أنهم واجهوا موتاً محققاً لم ينج منه العديد من أفراد عائلاتهم، وكيف استطاعت طواقم الدفاع المدني إنقاذ بعضهم، بينما خرج آخرون بمفردهم.
نجا الآلاف من الموت تحت الأنقاض ليكتشفوا أن عليهم مواجهة نوع آخر من الموت خلال ما يشبه الحياة في ظل مأساة النزوح هرباً من القصف المستمر، وفي ظل عدم توفر الطعام والماء، وانعدام سبل العلاج.

نزح أحمد زين الدين (23 سنة) من حي الصبرة شرقي مدينة غزة، وهو يتواجد حالياً في مدينة رفح، حيث يقيم داخل خيمة في مركز إيواء للنازحين، بعد أن فقد عدداً من أفراد عائلته تحت ركام البنايات السكنية التي تعرضت للقصف أثناء رحلة النزوح بحثاً عن مكان آمن.
يقول زين الدين لـ"العربي الجديد": "فقدت 5 أفراد من عائلتي، هم والدتي حليمة (60 سنة)، واثنتان من شقيقاتي، واثنان من أبناء شقيقاتي، وقد نجوت بسبب أحد أعمدة المنزل الذي حماني من موت محقق، وخرجت حياً مع إصابات متوسطة في الرأس واليدين، ثم بقيت في محيط المنزل أنتظر خروج أي أحد من العائلة، وكان أملي أن تنجو والدتي وشقيقاتي، لكن خرج والدي عبد اللطيف (63 سنة) وشقيقتي الكبرى علياء (37 سنة)، ثم أخرجت طواقم الدفاع المدني جثامين والدتي وشقيقتيّ، بينما لم يعثروا على الأطفال بسبب حجم الركام والأنقاض الكبير".

تقلّص عمل الدفاع المدني في غزة بعد استهداف جيش الاحتلال الطواقم

يضيف أحمد: "عندما نجوت بأعجوبة، اعتقدت أن أمي ستنجو مثلي، لكن إرادة الله أن أبقى حيّاً لأحزن على الشهيدات والأطفال الذين كانت أحلامهم كبيرة، فأحدهما كان يحب رونالدو، والآخر يحب ميسي، وكان لديهم آمال كثيرة يرغبون في تحقيقها، ربما أكبر كثيراً مما حلمت يوماً بتحقيقه في غزة. أنا خريج جامعي من كلية تكنولوجيا المعلومات قسم وسائط متعددة، وكنت قبل العدوان متحمساً، ولدي شغف كبير، لكني اليوم أنظر إلى الحياة بشكل مختلف، ولو جاء الموت فأهلاً وسهلاً به، فلم أعد أتامل في أي شيء. لست ضعيفاً أو محبطاً، وإنما أعيش الواقع الذي يعيشه الجميع في غزة، حيث لا مستقبل ولا أمل، وأحتاج الكثير لإعادة بناء ما دمرته هذه الحرب داخلي".
وتُعتبر مهام إنقاذ الغزيين من تحت ركام القصف شبه مستحيلة، وفي حال توفر الإمكانية، فإن الوصول في الوقت المناسب غير مضمون، كما تصبح عملية إنقاذ المدنيين أصعب مع مرور الأيام، في ظل تراجع الإمكانات المتاحة، والحصار الإسرائيلي المشدد، خصوصاً في مدينة غزة وشمالي القطاع ومناطق خانيونس.
في 28 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، شاهد بعض سكان مدينة خانيونس مشهد خروج السيد محمد العطار (60 سنة) من تحت الأنقاض ماشياً على قدميه بينما وجهه مغطى بالرماد، وعلى وجهه بعض الدماء. كان الرجل يكرر: "الحمد لله ما فيا اشي"، وقد تابع السير تحت الصدمة إلى منزل أقاربه، ليقوم بغسل وجهه ويستلقي على الأرض. بعدها وصلت سيارة الإسعاف، وأخرج الأهالي بعض الناجين وعددا من جثامين الشهداء من المبنى القريب من شارع البلد.

الصورة
خرج من تحت الركام ماشياً على قدميه (علي جاد الله/ الأناضول)
خرج من تحت الركام ماشياً على قدميه (علي جاد الله/الأناضول)

لاحقاً، قرر جيش الاحتلال إفراغ معظم مناطق مدينة خانيونس من السكان، لينزح العطار مع الآلاف إلى مدينة رفح، وهو يعيش حالياً داخل إحدى الخيام. ويقول لـ"العربي الجديد": "أتذكر أن الكثير من الركام والرماد كان فوقي حين قصف الاحتلال المبنى، لكني استطعت إزاحتها والخروج، وأتذكر عندما وصلت طواقم الإسعاف والدفاع المدني، وكانوا يريدون حملي لاعتقادهم أنني مصاب، لكني أخبرتهم أنني بخير، وأن عليهم أن ينقذوا من كانوا في المنزل، والذي فقدت فيه 8 أفراد هم اثنان من شقيقاتي وأبنائهم، والذين كنت أجلس معهم حينها".
يضيف العطار: "الحياة لا تساوي شيئاً. ليس هذا مثلاً أو حكمة، وإنما حقيقة عشتها، وجعلتني حريصا على مواصلة التقرب من أحفادي، وتقديم النصح لهم حول مواصلة مسيرتهم التعليمية، وأعتقد أن ما حصل معي جعلني أكثر صبراً رغم الصدمة التي حلت بي، ورغم أني كنت على شفا الموت، إذ خرجت وكان على بنطالي بعض دماء شقيقتي الكبرى الشهيدة سعاد (65 سنة). لا أتذكر كيف قاومت الموت، فكأنه كان بداخلي روح تريد البقاء على قيد الحياة، وقد نهضت كما لو أنني أزيح غطاء السرير عني، لكنه كان رماداً وأخشاباً".

خصصت وزارة الصحة في غزة رابطاً إلكترونياً لتسجيل الشهداء والمفقودين

يتابع: "عشت صدمة كبيرة، ومازلت لا أصدق ما حدث، وبعد جنازة شقيقتيّ وأبنائهما عدت إلى المنزل، وحينها بدأت أشعر بالفقد والاشتياق، ثم بدأت استيعاب أن ما حصل هو إرادة الله. أتمتع بصحة جيدة، وزاد اهتمامي بالعائلة، لكن لدي شعور كبير بالفقدان، وكل يوم نتلقى أنباء عن شهداء نعرفهم في مدينة خانيونس وفي مدينة غزة، والكثير منهم أقارب وجيران وأصدقاء. لقد قدمت عائلتي الكثير من الشهداء، وهذا يجعلني حريصا على زرع الصبر والإيمان والتضحية في نفوس أحفادي، ودفعهم للعمل من أجل مستقبلهم وقضيتهم".
وتقلّص عمل طواقم الدفاع المدني التي كانت تقوم بالعديد من مهام الإنقاذ في مدينة غزة وشمالي القطاع إلى 30 في المائة بعد استهداف الاحتلال العديد من الطواقم، وأوقع أكثر من 50 شهيداً من عناصر الدفاع المدني خلال محاولاتهم إنقاذ المدنيين، فضلاً عن فقدان أكثر من نصف مركبات ومعدات الإنقاذ بسبب القصف.
ولا يزال أكثر من 7 آلاف غزي مسجل ضمن المفقودين، ولا معلومات حولهم، والكثير من الغزيين اضطروا إلى التدوين أو وضع علامات على الجدران وعلى الركام حتى يتذكروا أماكن تواجد ذويهم، أملاً في القدرة على استخراج جثامينهم في وقت لاحق، ليتم دفنهم عند انتهاء العدوان.

الصورة
لازال كثير من الناجين تحت الصدمة (أشرف أبو عمرة)
لا يزال كثير من الناجين تحت الصدمة (أشرف أبو عمرة/الأناضول)

وخصصت وزارة الصحة في غزة، رابطاً إلكترونياً لتسجيل أسماء الشهداء وأسماء المفقودين في ظل صعوبة الوصول إلى كثير من المناطق بسبب سيطرة الاحتلال على أجزاء عدة من القطاع، ويطلب التسجيل معلومات من الأسرة حول مكان وتاريخ دفن الشهداء، وتفاصيل الأماكن التي كان فيها المفقودون.
خرجت الطفلة حلا (7 سنوات) ترتجف من تحت الأنقاض، وكانت تنادي طواقم الدفاع المدني قبيل إخراجها: "أنا هنا. الحقوني. مش شايفة اشي". هذه الجملة لا تزال تتكرر في ذاكرتها، ورغم أنها نجت من الموت بأعجوبة، لكنها حزينة لأن والدتها لم تتمكن من النجاة، وقضت شهيدة مع اثنين من أشقائها، بينما نجت هي ووالدها وشقيقها، وثلاثتهم نازحون حالياً في مجمع الشفاء الطبي.
يقول والدها إسماعيل الرملاوي (40 سنة)، وهو من سكان حي الكرامة في شمالي مدينة غزة: "نجوت مع ابنتي من قصف منزلنا في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، وقد تسببت شدة القصف في قذفي إلى خارج المنزل، ووجدت نفسي في الشارع مصاباً ببعض الشظايا في جسدي، بينما أصيبت حلا بحروق في الساق نتيجة انفجار القذيفة، وكسر في يدها اليمنى. أعيش مع حلا وشقيقها الأكبر حسام (17 سنة) حالياً، ونعاني من حزن شديد بعد استشهاد زوجتي واثنين من أبنائي، وحلا تعاني من حالة قلق شديدة منذ أن خرجت من تحت الركام بأعجوبة بمساعدة طواقم الدفاع المدني وبعض الناس الذين كانوا متواجدين في المكان، وقد تمكنوا من إنقاذها لأن أحد المنقذين انتبه إلى صوتها بينما كانت تطلب المساعدة، وربما كان من حسن حظها أنه كان قريباً من مكانه، وأخبروني أن أحد الأطفال هو من نبه المنقذين إلى أنها على قيد الحياة".

يضيف الرملاوي لـ"العربي الجديد": "كان هناك أحياء تحت الأنقاض، وبعضهم كانوا يتحدثون معنا، وكانوا يقولون إنهم مصابون، لكنهم لا يستطيعون الحراك، وأخبرت طواقم الدفاع المدني حينها، لكنهم لم يكونوا يملكون المعدات الكافية، كما أن حجم الدمار كان هائلاً، وبالتالي لم يتمكنوا من الوصول إلى من كانوا أسفل سقف الطابق الأول المنهار".
يتابع: "تستيقظ طفلتي يومياً على كوابيس، وفي الأيام الأولى بعد نجاتنا لم تكن تستطيع النوم، وكانت الأصوات التي سمعتها تحت الركام تطاردها، ومن بينها صوت والدتها تستغيث، وكانت تعتقد أن والدتها ستلحقها مع بقية الناجين، لكن لم يستطع أحد الوصول إليهم، وماتوا تحت الأنقاض. لا تزال حلا تعاني من صدمة شديدة، ولا تستطيع النوم إلا بين ذراعيّ".

المساهمون