حدائق غزة... الاحتلال يتعمد تدمير الساحات والذكريات

24 فبراير 2024
تحولت حديقة الجندي المجهول إلى أطلال (محمد الحجار)
+ الخط -

كانت الحدائق بالنسبة إلى الغزيين متنفساً صغيراً وسط الاكتظاظ الشديد للبشر والبنايات، خصوصاً في المخيمات ومناطق السكن العشوائي، فضلاً عن صعوبة مغادرة القطاع بسبب الحصار الإسرائيلي المفروض منذ نحو عقدين متواصلين، وفي ظل محدودية الأماكن الترفيهية، وعدم قدرة الجميع على الوصول إلى شاطئ البحر، لكن الاحتلال دمر هذا المتنفس ضمن محاولاته لإظهار أكبر قدر ممكن من الانتقام.
ورغم الاكتظاظ الكبير، كانت سلطات قطاع غزة تخصص مساحات للحدائق، وبالرغم من الإمكانات القليلة ومكونات الحدائق البسيطة، إلا أنها كانت تلبي حاجة الغزيين في التنزه والترويح عن أنفسهم. لكن الاحتلال عاث فساداً في أبرز تلك الحدائق. في مدينة غزة، دمر الاحتلال حديقة الجندي المجهول، وحديقة الكتيبة، وحديقة برشلونة، وكذلك حديقة الشجاعية، وحديقة الشيخ عجلين، وحديقة بلدية غزة. وفي محافظة الشمال، دمر الاحتلال حديقة مدينة الشيخ زايد، وحديقة بيت لاهيا، وحديقة نماء.
كانت حديقة وساحة الجندي المجهول قلب مدينة غزة، وكانت تشهد التجمعات في جميع المناسبات، الدينية والوطنية، إضافة إلى التظاهرات المطالبة بحقوق الغزيين والأسرى في سجون الاحتلال وغيرها، وبالقرب من أشجارها وزهورها، كانت توجد مقاعد إسمنتية وبلاستيكية، وكذلك طاولات لخدمة العائلات، إلى جانب أكشاك بيع الأطعمة والمشروبات والألعاب، وعشرات الباعة المتجولين.

كانت حديقة وساحة الجندي المجهول قلب مدينة غزة النابض بالحياة

ويعود تاريخ الحديقة إلى عام 1957، حين أقيم نصب تذكاري فوق قبر جندي فلسطيني مجهول في وسط مدينة غزة، وفي الحديقة المقابلة لمبنى المجلس التشريعي الفلسطيني، الذي دمره جيش الاحتلال في عام 1967 عندما احتل قطاع غزة على إثر الهزيمة العربية "النكسة"، وأعادت السلطة الفلسطينية بناءه من جديد، وافتتحه الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في عام 2000.
وكشفت هدنة الأيام السبعة في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي، عن تجريف الحديقة بالكامل، وتدمير النصب التذكاري لتمثال الجندي المجهول الذي كان يقع أمام البوابة الشرقية للمجلس التشريعي الفلسطيني، الذي دمر هو الآخر، وفي بداية الاجتياح، تعمد جيش الاحتلال إحداث حفر كبيرة في أرضية الحديقة، ثم اقتلع الأشجار والأرضيات.

هذا ما تبقى من حديقة الكتيبة (محمد الحجار)
هذا ما تبقى من حديقة الكتيبة (محمد الحجار)

لم ينزح فيصل سكيك ولا أسرته من حيّ الرمال بمدينة غزة، رغم الدمار الكبير الذي خلفه الاحتلال في الحيّ، وقرروا البقاء في كراج سيارات المبنى الذي كانوا يعيشون فيه، ويقول: "عاصرت كل مراحل إنشاء الحديقة، التي استقبلت شخصيات فلسطينية اعتبارية، على رأسها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وكانت تقام فيها الاحتفالات الوطنية والدينية، وكانت تعتبر أهم مقاصد قطاع غزة، إذ كانت تتزين في الأعياد، ويحضر إليها الناس من مختلف أنحاء القطاع، من أقصى الشمال حتى أقصى الجنوب".
يضيف سكيك لـ"العربي الجديد": "في كل مدينة في العالم توجد ساحة أو شارع أو حديقة تعتبر القلب، وأهم شارع في قطاع غزة هو شارع عمر المختار، وقد دمره الاحتلال بالكامل، وكانت حديقة الجندي المجهول من بين أهم المعالم فيه قبل تدميرها، وهي لم تكن مجرد حديقة، بل كانت قلب غزة، فلو كان الغزيون يشعرون بالحزن ستجد الناس يتجمعون فيها للتعبير عن حزنهم، ولو كانت هناك مظاهر فرح، لكنت تجد الناس متجمعين فيها للتعبير عن فرحهم، وتسمع الأغاني الوطنية تصدح فيها".

جرف الاحتلال كامل حديقة الجندي المجهول (محمد الحجار)
جرف الاحتلال كامل حديقة الجندي المجهول (محمد الحجار)

يتابع: "كانت غالبية أعراس الغزيين تمر من شارع عمر المختار، وتتوقف قليلاً أمام حديقة الجندي المجهول، وكان البعض يحضرون إلى الحديقة كجزء من زفة الأعراس. دمر الاحتلال العديد من البنايات في حيّ الرمال خلال الحروب السابقة، لكننا كنا نعيد بنائها وإعمارها، لكن في العدوان الحالي، دمر الاحتلال الحيّ بالكامل تقريباً، وفقدت مدينة غزة معلماً مهماً عشنا فيه الكثير من تفاصيل حياتنا، الحزينة والسعيدة، وأشعر أن جيش الاحتلال يحاول تدمير المعالم كي يدمر ذكرياتنا المرتبطة بالأماكن".
وأسهم عدد من الدول المانحة في تنمية مشاريع البنية التحتية في قطاع غزة على مدار السنوات التي تلت إنشاء السلطة الفلسطينية، بما فيها الحدائق العامة، ورغم تقلص الدعم لتلك المشاريع خلال سنوات الحصار الذي بدأ في عام 2007، إلا أنه جرى تطوير عدة مشاريع عامة، كان من ضمنها حديقة برشلونة في حيّ تل الهوا، والتي تعتبر من أهم حدائق قطاع غزة، وتبلغ مساحتها قرابة 15 دونماً، واسمها الرسمي "حديقة غزة - برشلونة للسلام"، وأقيمت بتمويل من بلدية مدينة برشلونة الإسبانية في إطار اتفاقية للتعاون والتوأمة بين المدينتين.
كانت حديقة برشلونة أول مكان في القطاع يوفر أدوات اللعب الآمن للأطفال، وهي ملاصقة لأبراج تل الهوا وأبراج السعادة، وقد ألحق جيش الاحتلال أضراراً بالغة بالحديقة خلال اجتياحه لمنطقة تل الهوا في العدوان الأول على غزة في يناير/ كانون الثاني 2009، لكن حجم الدمار مضاعف في العدوان الحالي، إذ دمرت الحديقة بالكامل، ودمر الاحتلال العديد من الأبراج السكنية، وجرف أجزاءً كبيرة من المنطقة. 

طاول الدمار حديقة بلدية غزة (محمد الحجار)
طاول الدمار حديقة بلدية غزة (محمد الحجار)

نزح أحمد السوسي (32 سنة) من تل الهوا بعد أن دمر قصف الاحتلال منزله الذي كان يطل على حديقة برشلونة، وكانت أسرته من بين العائلات التي غادرت المنطقة بعد حصار مطول للسكان عقب انسحاب آليات الاحتلال العسكرية من المنطقة في شهر يناير الماضي، وهو يشعر بحزن كبير على فقدان منزله، كما يشعر بالحزن على ما حلّ بالحديقة التي كانت متنفساً لعائلته، ولجميع الغزيين.
يتذكر السوسي إقامة عيد ميلاد طفله أيهم (3 سنوات) في الحديقة قبل العدوان، ويقول لـ"العربي الجديد": "كانت حديقة برشلونة أفضل مكان للعب الأطفال، وكانت تضم الألعاب الآمنة، والأرضية المهيأة لمنع إصابتهم في حال سقوطهم. فقدنا أغلب حدائق غزة، فحديقة الكتيبة كان الغزيون يمارسون فيها التمارين الرياضية الصباحية، وتقام فيها التظاهرات والمناسبات الوطنية، والمعارض، وحديقة الجندي المجهول كانت تجتمع فيها كل الفئات للسمر والتنزه وشرب الشاي والقهوة، وحديقة بلدية غزة كانت تضم أجمل الأشجار، وكانت مكاناً مميزاً لجلسات التصوير".
ويوضح: "تحولت الحدائق التي دمرها الاحتلال إلى خرائب تظهر فيها جذوع الأشجار التي اقتُلعَت، وتكونت فيها برك المياه بفعل الأمطار ومياه الصرف الصحي، وتكتظ بالقمامة. في السابق، كانت لكل منطقة ساحة خضراء جميلة وسط الزحام، لكن الاحتلال دمر كل شيء لونه أخضر، وهو يواصل تدمير أي شيء يمثل مصدر سعادة لنا".
وكما كانت الحدائق تجمع المتنزهين والأطفال، فإنها كانت تشكل مصدر جذب للباعة المتجولين، وتعتبر مصدراً لرزقهم، وكان ينتشر فيها باعة الحلوى والمسليات والبالونات والمشروبات الساخنة والباردة، فضلاً عن أصحاب ألعاب الأطفال.

عندما شاهد عبد السلام الضبة (43 سنة) حديقة الجندي المجهولة مدمرة شعر بحزن كبير، وقال: "يعوّض الله علينا في مصدر رزقنا"، إذ كان يملك عربة في داخل الحديقة يبيع عليها المشروبات الساخنة وبعض المسليات على مدار نحو 8 سنوات.
يقول الضبة لـ"العربي الجديد": "عدد من الباعة المتجولين الذين كانوا يعملون على عربات في منطقة ميناء غزة، أو في حدائق مدينة غزة استشهدوا خلال العدوان الإسرائيلي، ومن بينهم صديقي أحمد عبد العال، الذي كان يعمل مع اثنين من أبنائه في حديقة حيّ الشجاعية، واستشهد مع عائلته المكونة من 9 أفراد في منطقة التركماني، وعدد أخر من أصدقائي من الباعة المتجولين مفقودون، وأخرون استشهدوا، ولا تزال جثامينهم تحت الأنقاض".
يضيف: "نزحنا إلى مدينة رفح عندما اختفت معالم مدينة غزة. كنا نبحث عن الأسر السعيدة لنبيع لها ونسترزق، وكنا نلاحق التظاهرات والمناسبات حتى نسترزق، واليوم دمر الاحتلال كل مصادر الرزق، ودمر الحدائق والساحات الجميلة التي كان يلعب فيها أطفالي وأطفال أخي. كل شيء عرفناه في حياتنا دمره الاحتلال".

المساهمون