أدوية مغشوشة... أطفال ضحية تجار في مصر

أدوية مغشوشة... أطفال ضحية تجار في مصر

15 ديسمبر 2022
داخل إحدى صيدليات مصر (خالد دسوقي/ فرانس برس)
+ الخط -

كشفت وفاة مجموعة أطفال أخيراً عن انتشار أدوية مضادات حيوية مغشوشة. وحذر متخصصون وصيادلة الأسر من استخدام دواء سيفترياكسون (مضاد حيوي ينتمي إلى الجيل الثالث من مجموعة السيفالوسبورين)، نظراً لانتشار عبوات مغشوشة تتضمن هذا الاسم التجاري.
وتدهورت حالة الطفل فراس، بعد استخدامه مضاداً حيوياً أعطاه إياه والده، وهو طبيب معروف في مدينة بلقاس شمالاً، وهي المدينة التي شهدت قبل ثلاثة أشهر وفاة الطفلة هاجر بحقنة مماثلة من الدواء. وسارع صيادلة إلى تأكيد براءتهم مما تسارع السلطات إلى اتهامهم به بعدم الكفاءة عقب حوادث وفاة الأطفال. وقبل نحو شهرين، سجنت صيدلانية حقنت طفلة بمضاد حيوي أدى إلى وفاتها.
وقبل أيام، ضبطت السلطات في مدينة كفرالزيات شمالاً مصنعاً غير مرخص ينتج مضادات حيوية بأسماء شهيرة لشركات معروفة. وخلال حملة لهيئة الدواء بمختلف أنحاء البلاد، بلغ إجمالي قيمة المضبوطات من الأدوية المخالفة بالصيدليات والمخازن والمصانع خلال الشهر الماضي نحو أربعة ملايين جنيه (نحو 160 مليون دولار). وبحسب بيان أصدرته الهيئة، جرى المرور على حوالى 9 آلاف صيدلية، ومخازن أدوية، وشركات توزيع، ومصانع للأدوية، مع اتخاذ الإجراءات القانونية حيال المخالفين. 

نشرات تحذيرية
وعمّمت هيئة الدواء منشوراً تحذيرياً يتضمن 17 منتجاً مغشوشاً معروضاً في الأسواق المصرية منذ بداية العام الحالي، أبرزها أدوية الحمل، وتقوية المناعة عند الأطفال، ومرضى الكلى للتقليل، والأمراض الجلدية، والأنف والأذن والحنجرة، وضعف الذاكرة. وقبل أيام، كشف المركز المصري للحق في الدواء، في بيان، عن تلقيه بلاغات من صيادلة وأطباء بوجود عبوات مغشوشة من دواء فولتارين (مضاد للالتهاب غير ستيرويدي، له مفعول مسكن للألم، وخافض للحرارة، ومضاد للالتهاب).
ونبّه رئيس المركز المصري للحق في الدواء محمد فؤاد إلى خطورة متغير جديد يهدد سوق الدواء والمرضى، وهو الأدوية منتهية الصلاحية، وعددها بالملايين، يشتريها سماسرة بعدما تتجاوز التاريخ الموضوع عليها، فيعاد بيعها بعد شرائها بثمن بخس بعد تغيير التاريخ.
ويصف فؤاد الأمر بأنه أوفر لعصابات الأدوية و"أخطر على المرضى"، مرجحاً في منشور له على "فيسبوك" أن يكون ذلك سبب تزايد الوفيات الناتجة من الحصول على أدوية أخيراً. ويقول إنه من بين ثمانين ألف صيدلية بمصر، يوجد نحو عشرة آلاف صيدلية يديرها أشخاص غير حاصلين على شهادة الصيدلة، ولا يتورع بعض أصحابها عن بيع الأدوية منتهية الصلاحية. وبلغ الأمر، بحسب فؤاد، حدّ "مقايضة تلك الأدوية بمنشطات جنسية" يرحب بها أصحاب تلك الصيدليات، الذين يشترون مجدداً الأدوية منتهية الصلاحية التي باعوها، مطالباً الجهات المختصة بتشديد الرقابة. ويؤكد أمين لجنة الصيادلة الحكوميين بنقابة صيادلة مصر، كريم كرم، تداول عبوات مغشوشة من حقن عقار فولتارين المسكن. ويحدّد في تصريحات متلفزة الفارق بين النوعين المقلد والأصلي، موضحاً أن الأصلي مثبت عليه علامة ملونة على الأمبولة الزجاجية. أما المقلد، فلا علامات ملونة عليه، كذلك يختلف شكل الوعاء البلاستيكي للأصلي مقارنة بالمقلد، علاوة على أن الوجه الجانبي للأصلي مدون عليه عبارة "يحفظ في درجة حرارة أقل من 30 درجة". أما في المقلد، فغير مدون عليه.

في السياق، يؤكد رئيس لجنة تصنيع الدواء في نقابة الصيادلة، محفوظ رمزي، صحة ما جرى تداوله بشأن دواء ميجاموكس للأطفال، الذي يستخدم لعلاج التهابات الأذن والحلق، والتهاب الجهاز التنفسي السفلي والمسالك البولية لدى الكبار، لافتاً إلى أنه مغشوش كما أعلنت الشركة المنتجة للدواء.
 
الصيادلة يمتنعون
ويقول الصيدلي روبير عماد، وهو من أسيوط جنوباً، إن "الأدوية المغشوشة لا تودي بحياة المريض"، لافتاً إلى أن خبرته مع الأدوية المغشوشة، التي اكتشفها، أنها منخفضة أو منعدمة الفعالية، لكن مصنعيها لا يتعمدون تسميمها لقتل المرضى. ويرى في حديثه لـ"العربي الجديد" أن "تعدد الوفيات بالحقن أخيراً ينذر بوجود خلل ما غير معروف عالمياً، أحدثته لقاحات كورونا في الأجساد أخيراً، وهو ما تشير إليه أبحاث عالمية على حد قوله، الأمر الذي سبّب عدم قدرة الجسم، وخصوصاً أجساد الأطفال، على تحمّل المضادات الحيوية المعروفة". ويقول إنه ينصح مرضاه بعدم الحصول على الحقن في مراكز طبية، تجنباً للمتاعب التي يمكن أن تلحق به.
وتتهم السلطات الصيدلي لكونه الحلقة النهائية والمباشرة في التعامل مع المريض، وقُدِّم عشرات الصيادلة خلال السنوات القليلة الماضية لمحاكمات بتهم إعطاء مرضى أدوية مغشوشة، أو حقنهم بمضادات حيوية من دون إجراء اختبار الحساسية المعروف. ويُدافع محمد فودة، وهو صيدلي من القاهرة، عن الصيادلة بالقول إن "الصيدلي يحصل على كراتين أدوية كاملة من مخازن معروفة، بينما وزارة الصحة والسكان المصرية لا تركز إلا على تفتيش الصيدليات، تاركة شركات التوزيع والمخازن غير المرخصة وغير المتوافقة مع الاشتراطات".


ويتّهم محمد في حديثه لـ"العربي الجديد"، موظفين معدومي الضمير بشركات التوزيع الكبرى، بتمرير كراتين أدوية يعلمون أنها ليست من شركات أدوية معتمدة، بل مصنعة في معامل ومصانع غير مرخصة، يجري لاحقاً تسليمها للصيدليات. ويسأل محمد: "هل تريدني وزارة الصحة التدقيق في رقم كل عبوة في كل كرتونة للتيقن من أنها فعلاً من الشركة المنتجة؟". يضيف: "يستحيل طبعاً. هذا أمر غير منطقي، والوزارة تعلم ذلك. لكن الصيدلي هو الحائط المائل (الطرف الأضعف في المعادلة) الذي يسهل الإمساك به ككبش فداء لضعف المنظومة". وليس الحل في الباركود المطلوب إثباته على كل العبوات، كما تقول الصيدلانية من محافظة الجيزة أمنية معتمد. وتوضح: "من يغش في العبوات، لن يعدم وسيلة لتزوير باركود"، مؤكدة في حديثها لـ"العربي الجديد" أن "الوزارة يجب عليها تشديد الرقابة على المخازن أيضاً".
وتشير أمنية إلى أن "بعض الفترات تشهد ازدهاراً للأدوية المغشوشة. اليوم سيفترياكسون، وبالأمس كان البيومين بشري (يستخدم لإمداد الجسم ببروتينات الدم الأساسية في بعض الحالات المرضية التي تؤدي إلى انخفاض مستوى بروتينات الدم)، مطالبة بخضوع مخازن الأدوية لإشراف صيادلة وملكيتهم، لا عمال سابقين بمخازن أدوية كما هو الحال حالياً، مع إلغاء تطبيقات بيع الأدوية أونلاين، إذ ترى أنها أحد أسباب فساد سوق الأدوية.

الصورة
أدوية مغشوشة في مصر (فيسبوك)
أدوية مغشوشة في مصر (فيسبوك)

الأطباء ينصحون
ويكتب طبيب الأطفال عمر عزت على صفحته على "فيسبوك": "لاحظت في إحدى الصيدليات أن حقنة سيفاكسون 500 تصير بيضاء اللون بعد حلها، علماً أن لونها يميل إلى الإصفرار. وكان الصيدلي على وشك حقن طفلة صغيرة بها، فنبهته للونها، فاتفق معي، وسألته عن مصدرها، فراجع إدخال الفواتير لديه، وعرفنا أنها من مخزن معين". يضيف: "بعد ساعات، اتصلت بالمخزن المذكور وأبلغته أن حقن السيفاكسون 500 لديكم غير سليمة، فقيل لي إن شغلنا سليم، فطلبت منه مراجعة الكميات التي لديه فرفض".


ويذكر أنه اتصل بمديرية الصحة للإبلاغ عن وجود حقن سيفاكسون مغشوشة، وأخبرهم أنه كان شاهداً على الموضوع بنفسه، مطالباً بمراجعة المخازن، ولكن "لا حياة لمن تنادي". وذكر أن الصيدلي، إبراءً لذمته، أرجع الدواء إلى المخزن الذي جلبها منه. ويعزو انتشار الأدوية المغشوشة إلى سلبية بعض الأطباء والصيادلة إزاء مثل هذه الحالات، مشيراً إلى أنه اتصل بمن يعرفه من أصحاب صيدليات وأبلغهم بضرورة مراجعة لون حقن السيفاكسون، فقط لإبراء الذمة، وبحدود إمكاناته.

العلبة على الشمال مغشوشة (فيسبوك)
العلبة على الشمال مغشوشة (فيسبوك)

واختتم شهادته بالقول: "الكلام لا يمسّ شركة فاركو (المنتجة للدواء) أو أي شركة محترمة، بل المسألة تتلخص في أن بعض مخازن الأدوية تتعامل مع أماكن مشبوهة لشراء أدوية بنسبة حسم أعلى من دون اهتمام بالمصدر".
إلى ذلك، ينصح أستاذ الأمراض الباطنة والكبد والجهاز الهضمي عمرو قابيل الأطباء والصيادلة بالتصرف الأمثل في هذه الحالة، وإبلاغ الشركة الأصلية المصنعة برقم التشغيل المثبت على علبة الدواء، مع إرسال عينة من الدواء المغشوش، وإبلاغ النيابة العامة عن المخزن الذي يحتوي على بقية الكميات ليتخذ الأمر مساره الطبيعي بإرسال العينات إلى وزارة الصحة.

وإلى جانب سيفاتركسيون، حذرت إدارات في مستشفيات بالقاهرة من إعطاء أسماء أخرى من المضادات الحيوية، مثل يونيكتام، زوراكسون، أو بنسلين طويل المفعول، فيما يقول أطباء إن تلك الأسماء مجازة من وزارة الصحة والسكان المصرية. إلا أن عبوات أدوية تحمل الاسم نفسه انتشرت وسببت متاعب صحية لمرضى، وتبين أنها غير أصلية، وبعضها اشتراها المرضى عبر الإنترنت وليست من صيدليات، مطالبين بالرجوع إلى ثوابت كل مهنة للقضاء على كل الشرور، مع عدم الانجرار وراء الحسومات التي تقدمها شركات التوزيع للصيادلة لرفع أرباحهم.
من جهته، يرى طبيب الأمراض الصدرية صابر محمد، أن الوضع الاقتصادي يدفع "ضعاف النفوس من أصحاب مخازن الأدوية ومديري المشتريات في شركات التوزيع بالتواطؤ مع بعض الصيدليات إلى تمرير أدوية غير أصلية"، لافتاً في حديثه لـ"العربي الجديد" إلى أن انخفاض قيمة الجنيه خفض بدوره نسبة المكاسب مع ارتفاع أسعار كل شيء، وبات على الصيدلية أن تبيع بالسعر الرسمي المحدد، والأدوية هي الشيء الوحيد الذي لم يرتفع سعره في مصر بعد، فكان الحل في تقليل مصانع غير مرخصة للمادة الفعالة توفيراً، وشراء الصيادلة من شركات غير ملتزمة".
وتوقف صابر عن وصف حقن مضادات حيوية لمرضاه، لأنها الأكثر تعرضاً للغش حالياً، مستبدلاً إياها بدواء سائل وأقراص. ويقول إن مصنعي الدواء المغشوش يعرفون جيداً ماذا يفعلون، فهم يختارون أسماء شركات كبرى تنتج أدوية شهيرة وعليها الطلب، ويصممون عبوات مطابقة لعبواتها وبداخلها دواء ذو مادة فعالة منخفضة.

الصورة
حملة هيئة الدواء تنجح في ضبط آلاف الأدوية المغشوشة (فيسبوك)
حملة هيئة الدواء تنجح في ضبط آلاف الأدوية المغشوشة (فيسبوك)

بدوره، يقول مسؤول في شركة المهن الطبية للأدوية، رفض ذكر اسمه، إن مسألة الوفيات المذكورة بسبب حقنة أو دواء معين فيها مبالغة كبيرة تسعى لضرب أسماء شركات أدوية معروفة ولها سمعتها وتاريخها، مؤكداً أن حالات الغش الدوائي لا تخلو منها دولة، ولا يمكن الإجهاز عليها تماماً. ويطالب الأطباء والصيادلة بتحري الدقة عن التحذير من أسماء أدوية، وسلوك الطرق الرسمية للإبلاغ بعيداً عن إثارة البلبلة على وسائل التواصل الاجتماعي. يتابع: "تضطر الشركات، تجنباً للمنافسات غير الشريفة والضرب تحت الحزام في ما بينها، لطرح ذات المادة الفعالة باسم منتج آخر، بعد ضرب سمعة المنتج الأول".
ويذكر أنه حين علمت إدارة الشركة بغش أحد منتجاتها، وهو حقن يونيكتام (حقن تستخدم لعلاج حالات العدوى البكتيرية)، اتخذت سلسلة إجراءات متتالية كلفتها ملايين الجنيهات، احتراماً لاسمها ومنتجاتها على حساب أرباحها. وطرحت الشركة تطبيقاً تقنياً لمساعدة المرضى والصيادلة على التيقن من أن الدواء سليم، من خلال إدخال البيانات المثبتة على العبوات المشتراة. إلا أن مستخدمين للتطبيق ذكروا أنه غير فعال، ولا يعطي أية نتائج، لا بالسلب ولا بالإيجاب، فضلاً عن عدم وجود باركود على عبوات أدوية مثل ألفينترن وفلاجيل ونيوروتون.

المساهمون