"أنتيفا"... حركة مواجهة الفاشية التي يتربص بها ترامب

03 يونيو 2020
ينظر إلى "أنتيفا" بأنها حركة عنيفة (ماتيو لي/Getty)
+ الخط -
يكرّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في معرض تعليقه على الاحتجاجات الجارية في الولايات المتحدة منذ 25 مايو/أيار الماضي، تنديداً بمقتل المواطن من أصول أفريقية جورج فلويد على يد الشرطة في مينيابوليس بولاية مينيسوتا، توجيه الاتهام إلى "حركة معاداة الفاشية"، المعروفة اختصاراً بـ"أنتيفا"، بوقوفها وراء عمليات الشغب والعنف التي تترافق مع تلك الاحتجاجات، كما أنه لم يتوان عن وصفها بالإرهابية. إلا أن مواجهة ترامب لتلك الحركة، التي تنتشر لها فروعٌ كثيرة في أوروبا، والتي ينظر إليها بعض سياسيي اليمين واليمين المتطرف في القارة العجوز، بأنها "حركة عنيفة"، أو تلتمس العنف لتحقيق أهدافها، ليست جديدة. فمنذ عامٍ، يحاول الرئيس الأميركي وضع "أنتيفا" على لائحة "الإرهاب"، بدعمٍ جمهوري، ومن أقصى اليمين الأميركي.

وعلى الرغم من إعلان "أنتيفا"، بأنها حركة تُكافح ضد الفاشية، إلا أن اليمين المتطرف على ضفتي الأطلسي، بات اليوم يرى فيها عدواً. ولم يتردد الرئيس الأميركي في تغريدة له على "تويتر"، نشرها في أغسطس/آب الماضي، في وصف الحركة بأنها "راديكالية يسارية، يتجول عناصرها في الشوارع، ويضربون الناس بمضارب البيسبول". وكان ترامب قد غرّد في 28 يوليو/تموز الماضي أيضاً، بأنه يفكر بمنع أنشطة "أنتيفا"، ووضعها على لائحة الإرهاب الأميركية. وسجّل صيف العام 2019 هجمات واسعة له على الحركة عبر "تويتر"، حملت العديد من الأوصاف، أقلّها وصفه لها بأنها "يسارية، متطرفة، وإرهابية كبيرة".

وعلى الرغم من أن أوروبا تعرفت مبكراً على هذه الحركة المعادية للفاشية، إلا أن اسم "أنتيفا" ظلّ بعيداً عن الأضواء في الولايات المتحدة، حتى العام 2016، الذي أوصل ترامب إلى البيت الأبيض، وحمل معه صعوداً فاقعاً للتيار اليميني المتطرف في هذا البلد، ما جعل الساحة الأميركية تشهد فرزاً واضحاً في أقصى الأجنحة. منذ ذلك الحين، يسود حديث عن انتشار التطرف داخل قوى وجماعات أميركية، تحمل أفكاراً سياسية، كما ارتفاع منسوب العنف السياسي، وحدّة الصدامات. وصبّ ذلك خصوصاً داخل المعسكر المؤيد لترامب، الرئيس صاحب التصريحات المهينة لشعوب وأعراق، ولذوي الأصول اللاتينية والمسلمين والسود، وسكان دول في القارة الأفريقية.

وفيما ارتفعت التحذيرات والمخاوف داخل أوساط اليسار الأميركي، من تنامي خطاب جماعة "كو كلوكس كلان" المتطرفة، والنازيين الجدد، الذين عادوا إلى الشوارع، خرجت مخاوف لدى معسكر اليمين أيضاً من "بلطجية اليسار المتطرف"، في إشارة إلى الشارع المواجه للتحركات اليمينية المتطرفة في أكثر من ولاية.


أوروبا... نشاط يخيف الشعبويين

ومع تنامي قوة "أنتيفا" في أوروبا، من الشمال الإسكندينافي مروراً بألمانيا، وصولاً إلى دول شمال المتوسط، في مقابل تزايد الخطابات الشعبوية واليمينية القومية المتعصبة، وارتدادات ذلك أيضاً في الشارع الأميركي، اندفع بعض المشرعين في الكونغرس، وتحديداً من الحزب الجمهوري، العام الماضي، إلى طرح مشروع قرار يجرم الحركة، ويصنفها في خانة "الحركات الإرهابية الداخلية". وجاء ذلك تماشياً مع خطاب ترامب المعادي للحركة، وقاد السيناتوران تيد كروز وبيل كاسيدي الأصوات المطالبة بتجريمها.

في المقابل، لم تستدع دعوات ترامب منذ صيف 2019 لمحاربة حركة مناضلة ضد الفاشية أي رد فعل حقيقي معارض داخل الولايات المتحدة، لا من معسكر الحزب الديمقراطي، ولا من التيار السياسي العام. ويبدو أن شيطنة "أنتيفا" اليوم، ترتبط بشكل رئيسي باطلاع محيط ترامب، وبعض مستشاريه، ومنهم من يرتبط بعلاقات متينة مع معسكر اليمين المتطرف الأوروبي، على قدرة الحركة في أوروبا على التحشيد، ومواجهاتها المعروفة ضد النازيين الجدد في شوارع ألمانية ودنماركية وإيطالية ونمساوية.

فما تشكله هذه الحركة من أرقٍ لمعسكر النازيين، هو ربما ما يخشاه معسكر ترامب، ويفسر اندفاعته المستجدة لوضعها على لائحة الإرهاب. ويأتي ذلك على الرغم من كشف "رابطة مكافحة التشهير"، العام الماضي، أن "المتطرفين اليمينيين هم المسؤولون عن الأغلبية الساحقة من تصاعد العنف السياسي" في الولايات المتحدة. وقدّرت الرابطة أن العام 2018 وحده، شهد 50 جريمة قتل بدوافع سياسية، يتحمل مسؤوليتها جميعها اليمين المتطرف، فيما لم ينل اليسار المتطرف أي نصيب من ذلك. يذكر أنه خلال العامين الماضيين، ظلّت الجهود حثيثة داخل الصفّين السياسي والإعلامي المؤيد لترامب، وفي صفوف كتلته الناخبة من المتعصبين البيض، للإيحاء بأن "اليسار المتطرف" و"أنتيفا" يتحملان مسؤولية تفشي العنف في الشارع، أو على الأقل محاولة توزيع المسؤولية بين الطرفين، معاندين كلّ الأرقام والوقائع.

في هذا الإطار، يصعب إنكار أن "أنتيفا"، وخصوصاً حينما يتعلق الأمر بمواجهة حركات فاشية ونازية في أوروبا تدأب على مهاجمة أو محاولة احتلال شوارع، تضطر للجوء إلى العنف، وهي لا تخفي اعتبارها أنه أمر مشروع لها في مواجهة الفاشيين. ويلعب ترامب على هذه الحقيقة، التي قد يسانده فيها سياسيون أوروبيون، ومستشاروه بالطبع الذين نسجوا علاقات جيدة مع الحركات والأحزاب الشعبوية والمتطرفة في القارة العجوز، والتي من ضمن أهدافها شيطنة الحركة ووضعها على لوائح الإرهاب.

ولا تغيب ملصقات حركة معاداة الفاشية عن العديد من شوارع المدن الأوروبية. ومن الممكن رؤيتها معلقة في مواقف الباصات، وعلى أعمدة الإنارة، وفي مناطق يطغى المهاجرون على سكانها. بعض هذه الملصقات، تحمل كلمة "تحذير" بالخط العريض، وأخرى تقول صراحة "في هذه المنطقة سيتم الهجوم على الفاشيين". ومن المناطق التي تنشط فيها "أنتيفا"، نوربرو، إحدى تقسيمات مدينة كوبنهاغن، عاصمة الدنمارك، وفي وسط غرب البلاد، في مدينة آرهوس، التي تشكل قاعدة أساسية للحركة.

وليس من السهل اختراق "أنتيفا"، أو الحصول على ثقتها. وفي كثير من الأحيان، يرفض بعض أعضائها الكشف عن وجوههم، أو التصريح بأسمائهم الحقيقية أمام الصحافة أو خلال التظاهرات. ويقول المؤرخ البريطاني، مارك براي، إنه يصعب تعريف الحركة أو إطلاق صفة تنظيم عليها، بحسب ما جاء في كتاب له عنها. وبرأيه، فإن لا أحد يمكنه إنكار انتشار الحركة، بتنظيماتها المحلية، لا في الدنمارك ولا في السويد، ولا حتى في تشيلي، كما حصل خلال حراك الخريف 2019. ووفقاً لما ذكره، فإن "أنتيفا لا تثق بالحكومات أو بالأنظمة السياسية، ولا بقدرة الأخيرة على حماية الشعوب والأقليات من قوى اليمين المتطرف"، مستعيداً ما يطرحه أعضاء الحركة، من أنهم يثقون أكثر بـ"قدرة الناس على الدفاع عن أنفسهم، وليس بقدرة الشرطة ورجال الاستخبارات". هذا الطرح، تعيد تينا، المنضوية في "أنتيفا" منذ سنوات، والتي تشارك في التحركات المنسقة لمواجهة النازية الجديدة، بعدد من الدول الأوروبية، تأكيده لـ"العربي الجديد".

مواجهون لا عنفيون

تهمة ممارسة العنف الملصقة بالحركة، أمر لا تخفيه "أنتيفا"، مستندة إلى "التوثيق" كمنهجية عمل ترعب قوى اليمين المتطرف. فعلى سبيل المثال، هي تجري من خلال تلك العملية، التي تسمى بـ"دوكسينغ"، إحصاء المنتمين لليمين المتطرف ونشاطاته في إسكندينافيا. ولدى "أنتيفا" نشاط إعلامي يركز على كشف وفضح توجهات ساسة في معسكر اليمين المتشدد، وعلاقاتهم بالحركات النازية، ويعمل على تسريب ذلك إلى وسائل الإعلام. هذا النشاط تكرر حدوثه على سبيل المثال في كل من السويد وألمانيا، ما أدى إلى استقالة وإقالة بعض السياسيين.

ويقيم ناشطو الحركة في دول إسكندينافية علاقات بأحزاب اليسار، كما أنهم يتلقون دعماً مالياً، خصوصاً حين يتعلق الأمر بحملاتهم الإعلامية، أو تنظيم مسيرات لمنع النازيين الجدد من إقامة فعاليات وتظاهرات. وفي كوبنهاغن، تمكنوا أحياناً من فرض إلغاء فعاليات واستئجار قاعات لمصلحة "حركة مقاومة الشمال" النازية، التي تستغل مرونة القانون الدنماركي للتجمع في كوبنهاغن، بدل السويد والنرويج.

وحين طرح ترامب العام الماضي قضية منع "أنتيفا" من ممارسة نشاطها، ووضعها على لائحة الإرهاب، وجدت الحركة دعماً لها في ألمانيا، وخصوصاً من قبل برلمانيين من حزب اليسار "دي لينكه". وانطلقت حملة على "تويتر"، دعماً للحركة، وكذلك في الشارع وبين السياسيين.

لدى "أنتيفا" إيمانٌ بأن "هجومها" هو "وقائي"، لمنع تمدد الفاشيين في المجتمعات الغربية. ولذلك يرفض أعضاؤها توصيفهم بالعنفيين، مفضلين تسمية "المواجهون". ويؤكد أعضاء في "أنتيفا" – الدنمارك، لـ"العربي الجديد"، أن نظريتهم تقوم على "العمل ثم العمل لنشر مواقف تقدمية بوجه التطرف القومي، وبما فيها المشاركة بنشاطات ثقافية مجتمعية، لأن اليمين المتعصب أصلاً لا يريد سوى ثقافة أحادية تستثني الأقليات واليسار وكل من لا يؤيد فاشيتهم". ويؤكد "الأنتيفيون" أنه "في كلّ مرة يحاول فيها اليمين المتطرف أن يظهر وكأنه يحتل الشارع، سنكون متواجدين كمواجهين لهم، وليس للبدء بالعنف".​