اليمين الأوروبي الفاشي (4/2): دور الأيديولوجيا و"الحرب المقدسة"

اليمين الأوروبي الفاشي (4/2): دور الأيديولوجيا و"الحرب المقدسة"

18 يوليو 2019
تتسع أطر النازية والتعصب القومي في ألمانيا (Getty)
+ الخط -
لأسباب عديدة تخص ماضي ألمانيا النازي وإيطاليا الفاشي، يبدو البلدان مصدراً ومثلاً أعلى للأفكار الفاشية-النازية العنفية، ولو كان الثمن ما يشبه "هجرة المجتمعات"، أو العيش على هامشها، وتحت أرضها أحياناً، في ظلمات تمنع الاقتراب مما يدور في كواليسها. وتتخذ فكرة الهامش معنى أيديولوجياً يُعبر عنه بعنوان "التجهز"، كما في الحالة الألمانية، لليوم الموعود المسمى "تاغ أكس"، (اليوم أكس)، انتظاراً لإطلاق مواجهة كبرى في القارة الأوروبية. وفي هذا السياق، برز الكشف عن عملية للشرطة الإيطالية، يوم الإثنين الماضي، أسفرت عن مصادرة كمية كبيرة من الأسلحة، منها صاروخ جو-جو، في مداهمات لمنازل متعاطفين مع النازيين الجدد. وذكر بيان الشرطة أن قوات خاصة فتشت منازل في شمال إيطاليا بعد تحقيق بشأن إيطاليين قاتلوا في صفوف القوات الانفصالية المدعومة من روسيا في شرق أوكرانيا. وألقت الشرطة القبض على ثلاثة أشخاص، منهم مسؤول جمارك كان مرشحاً للبرلمان عن حزب "فورزا نوفا" اليميني المتطرف. وقالت الشرطة إن المشتبه فيهم حاولوا بيع الصاروخ عبر محادثات على تطبيق "واتساب". ومن بين الأسلحة المضبوطة 26 بندقية، و20 حربة، وما يزيد على 800 عيار ناري.

المنطلقات النظرية

الفهم الذاتي لدى هذه المجموعات، وقراءتها للعالم، مدخل مهم لمعرفة المنطلقات النظرية لها وأهدافها لدولها وقارتها. فاليوم تنتشر في بيئة الفاشية والنازية الجديدة، بمختلف مسمياتها وتياراتها، مشتركات تُميزها عن الحركات التقليدية القائمة في معسكر اليمين التقليدي، منها أيديولوجية وسمات سياسية وتنظيمية محددة. ومن السمات المتفق عليها: التعصب القومي، وكراهية الأجانب والإسلام (بعدما كان العداء لليهود أكبر من كره أي دين أو فئة أخرى)، ونظرة فوقية وعنصرية للأعراق الأخرى، مع مواقف واضحة العداء لما يسمى "الإدارات (السياسية) التقليدية القائمة".

وبالنسبة لهؤلاء فإن مفهوم العداء العرقي لكل ما هو غير أوروبي، وضرورة محاربته، أو دعم محاربته، إن بالسياسة أو الاستعداد لاستخدام العنف، بما فيها تصفية أوروبيين آخرين، هو مفهوم يقوم، وفقاً لما يذكر لـ"العربي الجديد" الباحث السياسي الدنماركي جون أوسترغورد على "تنظيرات كتاب ومثقفي التطرف القومي. فعلى سبيل المثال يرى هؤلاء ما يحذر منه الكاتب الفرنسي رونو كامي حول خطر انتهاء العرق الأبيض أمراً مسلماً به". ويشير في السياق إلى أنه "قبل عام من انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية احتضنت العاصمة السويدية استوكهولم في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 مؤتمراً للمتشددين في متحف استوكهولم العسكري، حضره الكاتب الفرنسي غيوم فاي (توفي في 2019) مردداً أمام جمهور حضر للاستماع إليه أن الحرب بدأت. الحرب العالمية الثالثة، إنها حرب عرقية".

وبالنسبة للباحثة والناشطة في مكافحة الحركة الفاشية (أنتيفا) آنا سفينسون فإنه "عدا عن أن الطبقة السياسية في دول الشمال الأوروبي تتحمل مسؤولية انتشار الفكر القومي المتطرف، من خلال طرحها مشاريع تقترب من خطاب العنصرية، فهي تسمح أيضاً لمنظرين أمثال غيوم فاي وغيره حضور مؤتمرات شباب الحركة الفاشية في الشمال". وترى سفينسون، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن السنوات الأخيرة بدأت تشهد اتساعاً في التنسيق بين فاشيي القارة "من خلال مؤتمرات يحضرها شباب من أوروبا وروسيا، وتقوم على نشر فكرة الهوية باعتبار أن الهوية الأوروبية البيضاء مهددة من أعراق غير بيضاء تهاجر إليها، ويجري إبادة البيض، والحرب هي الحل الوحيد"، كما جاء في "محاضرة" الرجل في خريف 2015.


ويقول أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة "آرهوس" في الدنمارك نيكولاي بيترسن إن ما يجمع منظري الهوية العرقية "سعيهم الدائم لاستحضار جذور فكرية لتبرير فاشية الحركات وتمركز عرقيتها". ويضيف، لـ"العربي الجديد"، أن المشترك بين تلك الحركات اليمينية الراديكالية استنادها إلى "ثقافة وفكر ينتهج خدعة دمج الاشتراكية الوطنية لتبرير وجودها. ولعل أهم ما يجمعها أيضاً استنادها إلى أفكار مفكرين من القرن التاسع عشر، مثل يوليوس إيفولا وأوسفالد شبينغلر وأرنست يونغر، وشخصيات حديثة مثل غيوم فاي و(الروسي) ألكسندر دوغين الذي يلعب دور التنسيق، والآن دي بينوا، وغيرهم ممن ينظرون لليمين المتطرف الجديد ولقصة التفوق والهيمنة الثقافية وأهمية تجانس ثقافة البيض فقط في أوروبا".

ومركزية الفكر الإيطالي والألماني المتطرف، بالنسبة للنازيين والفاشيين الأوروبيين، تنبع من أنه "سلطوي" وشمولي يعادي الديمقراطية على أرضية عنصرية. ففكرة "الاشتراكية الوطنية" تُستلهم لدى هؤلاء جميعاً من فترة ألمانيا الهتلرية وإيطاليا الموسولينية وكتاب وصحافيين في العصر الحديث. ووفقاً لأدبيات وتنظير الطرفين، الفاشي والنازي، فإن الأهداف التي قامت في فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، والسعي لتحقيقها منذ ثلاثينيات القرن الماضي حتى انهيار النظامين في 1945، مستمرة.

ولتحقيقها لم يتخلَ هؤلاء عن النزعة العسكرية لإيجاد الديكتاتور الذي يقود الأمة على أساس التفوق العرقي، وعليه فتعزيز التعصب الوطني (القومي) واستخدام العنف يُنظر إليهما على أنهما "حق"، كذلك استخدام العنف السياسي لتحقيق الهدف السياسي النهائي. ورغم أن اختلافات تظهر أحياناً بين "المتعصبين الوطنيين" في دول مختلفة، وخصوصاً بالنسبة إلى سؤال ما يجب فعله في ظل الديمقراطية، ومعاداة السامية، إذ باتت بعض الأجنحة تنتهز فرصة الدفاع عن اليهود لتجريم المسلمين قبل أي شيء آخر. وبعض تلك الأجنحة انتهجت، في السنوات الأخيرة، منحى التوجه السياسي اليميني المُتطرف لتصبح لها قابلية في الشارع. بل إن بعضها، ورغم إيمانها المطلق بأفكار التفوق العرقي تذهب للمشاركة في انتخابات محلية ووطنية على أساس أنها من جناح اليمين المتشدد. ويهدف هؤلاء للحصول على تغطية إعلامية لتحركاتهم كوسيلة لبث أفكارهم وكسب المزيد من التعاطف. ويستند كثيرون إلى وسائل التواصل الاجتماعي وإنشاء شبكات، بعضها متاح وبعضها يقتصر على الأعضاء فقط.

والمشترك بين الطرفين، وأغلبية المجموعات النازية-الفاشية، أن في إسكندنافيا وتوسعها نحو شرق القارة الأوروبية ونسج تحالفات مع اليمين القومي المتطرف الروسي، فكرتها التي تتوافق عليها بضرورة: "اختراق المؤسسات". ويُركز هؤلاء بشكل أساسي، لأسباب تاريخية خاصة بألمانيا وإيطاليا، على المستويين السياسي والأمني، وانتهاج ما يسمونه "الحساب (الانتقام) الذاتي"، مؤمنين بأن من حقهم القومي استخدام العنف كحالة تعتبر "أعلى درجات الوطنية".

وفي ألمانيا وإيطاليا، وحتى قبل انهيار جدار برلين، مارس المتعصبون عنفاً، عبر اغتيالات سياسية وتفجيرات وتمويل ذاتي عبر السطو المسلح على البنوك. وبسقوط الجدار وتوحد ألمانيا تصاعدت في دول شرق القارة وروسيا بشكل كبير عملية "تبني" أساليب الفاشية والنازية للعنف وارتكاب جرائم القتل. وقدر المركز الوطني للوقاية من التطرف في الدنمارك، في فبراير/شباط الماضي، أنه قتل في الفترة بين 2004 و2010 نحو 450 شخصاً على يد التطرف القومي الروسي، ما يشير إلى مدى اتساع فكرة النازية والإيمان بالتعصب واستخدام العنف. ويشير المركز، في سياق رصده للحالة، إلى أن السويد شهدت أيضاً ضربات من اليمين المتطرف النازي "استهدفت رجال شرطة ونقابيين ونشطاء اليسار، وفي 2010 جرى الحكم على شخص إثر مقتل ناشط يساري ومحاولة قتل 5 أشخاص، بعضهم مهاجرون". وينظر المركز إلى جريمة أندرس بريفيك في أوسلو في 2011، والتي راح ضحيتها 77 شخصاً في تفجيرات وإطلاق نار، باعتبارها "عملاً إرهابياً منظماً بإحكام".

هذه البيئات، التي تتوسع تنظيماً وتواجداً في مختلف زوايا أوروبا، تتفق في العموم على "وحدة الحال" ومعارضة مؤسسات أوروبا القائمة أو التقليدية، و"لا تتورع أبداً عن دعمها لاستخدام العنف الذي تعتبره جزءًا من كفاحها السياسي في القارة"، بحسب المركز الدنماركي لمكافحة التطرف. ويصر نشطاء الحركة المعادية للفاشية، مثل سفينسون ورفاقها في تصريحاتهم لـ"العربي الجديد"، على التذكير بأن "مرتكب مذبحة أوسلو، في يوليو/تموز 2011، أندرس بريفيك، ومثله الإرهابي الأسترالي برنتون تارانت، وغيرهما من منفذي الهجمات في أميركا وأوروبا، يستندون إلى أفكار منظري إيديولوجيات التخويف من الأعراق الأخرى والخوف من انقراض البيض، ومواجهة غزو المهاجرين المسلمين غير الأوروبيين (البيض)". ويؤكد هؤلاء أن انسياق ساسة دول وقادة أحزاب غربية لذات الخطابات، وإن بطريقة أخرى، ودخول بعض منتمي النخب من المستويات الثقافية والفكرية لاستخدام نفس الخطاب الفكري "يؤدي إلى تغذية منبع التخويف والتحريض الذي تعيش عليه الحركات الفاشية الأوروبية".

فاشية متمددة ومبررة للعنف

ويعتبر زعيم الحركة الفاشية في جبهة مقاومة الشمال، التي تشمل أعضاء من فنلندا والسويد والنرويج والدنمارك، السويدي سيمون ليندبيرغ (35 سنة) أن مذبحة نيوزيلندا تُعتبر بمثابة "إعلان بدء الحرب المقدسة". ورفض ليندبيرغ التنديد بما قام به منفذ المذبحة الأسترالي برنتون تارانت بالقول "حركتنا لا يمكنها أن تندد بتصرفات البيض". وعلى الموقع الخاص بحركته ذهب ليندبيرغ لاعتبار أن المذبحة مبررة. ويقول "لقد قرأت مانفيستو هذا الوطني تارانت، وهو يتطابق مع رؤيتنا في جبهة الشمال". وأخطر ما انتبه إليه معارضو الفاشية ومواقع تراقب ما ينشره الفاشيون قول ليندبيرغ إن "الدافعين الرئيسيين كما وردا في مانفيستو تارانت لا يمكن لك إلا أن تتعاطف معهما". وبحسب ما ترجمت "العربي الجديد" من بيان هذه الحركة الفاشية في الشمال يتضح مدى التأثر البيني بين فاشيي الغرب العرقيين، فهو يقول مبرراً إن "العرق الأبيض يتجه نحو حتفه البيولوجي على شكل انخفاض معدلات الولادة، بالتوازي مع هجرة جماعية لغير البيض إلى كل بلدان البيض، وهؤلاء (غير البيض) لديهم معدلات ولادة أكبر بكثير من البيض، كما تثبت الإحصائيات، وهو ما يجب أن ينتبه له الناس ليقوموا بالتالي بالتصرف". ويضيف هؤلاء: "بقاؤنا يعتمد على إدراك الناس وتصرفهم على ذلك الأساس".

ومن أهم أدوات ووسائل الحركات اليمينية المتطرفة والفاشية، والأحزاب القومية المتعصبة التي تقاد بسياسيين "عصريين"، في مساعيها لاختراق مؤسسات المجتمعات لإحداث التغيير، سعيهم إلى "تسويق القيم الجديدة، لخلق وعي بالهوية، ولو عن طريق الاحتفالات المشتركة والمؤتمرات المنسقة". كما يذهب أحد أهم شخصيات حركة "الهوية" في السويد غوستاف كاسلتراند، ذا الميول النازية، والذي طرد بعد أن فضح أمره من حزبه "ديمقراطيو السويد"، ليتحرر أكثر مع زميله النازي فيليام هانه، لطرح أفكارهم بين الشباب في عموم اسكندينافيا و"بطريقة عصرية"، كما يردد هؤلاء وغيرهم من الفاشيين في أحزاب أقصى اليمين القومي المتعصب.

(غداً: تحريض وتدرب على القتل)