سدّ النهضة: تنازل مصري عن حتمية مسودة واشنطن

سدّ النهضة: تنازل مصري عن حتمية مسودة واشنطن

15 يونيو 2020
الفريق السوداني خلال اجتماع حول السد الخميس الماضي(فرانس برس)
+ الخط -

قبل ساعات من الاجتماع الحاسم المقرر عقده اليوم الاثنين عن بُعد، بين وزراء الموارد المائية والري في كل من مصر وإثيوبيا والسودان حول قواعد ملء وتشغيل سد النهضة، يسود تضارب في الرؤى بين عواصم الدول الثلاث حول النتائج المتوقع ترتبها على هذا الاجتماع، ورؤية كل فريق لما أسفرت عنه الاجتماعات السابقة، خصوصاً بعدما اكتست البيانات المصرية والإثيوبية بنبرة تصعيدية وحاسمة لتأكيد ثبات موقف كل منهما ورفض الأطروحات المقدمة من الطرف الإثيوبي وتحميله مسؤولية تعثر المفاوضات، وصولاً لتصريحات نائب رئيس الأركان الإثيوبي، الجنرال برهانو جولا، الجمعة، عن استعداد بلاده لأي حرب محتملة مع مصر. ثمّ بعد ذلك صدور بيان سوداني، مساء أول من أمس السبت، مفعم بتفاؤل ندر استشعاره منذ فبراير/شباط الماضي، إذ ذكر البيان أنه تمّ تكليف الخرطوم بإعداد وثيقة توافقية جديدة بشأن قواعد الملء والتشغيل للسد (تأكيداً لما نشره "العربي الجديد" الجمعة الماضي)، وأنّ الدول الثلاث توافقت على معظم القضايا الفنية، عدا بعض التفاصيل المحدودة.

ولا يقتصر التضارب على البيانات الرسمية الصادرة عن الدول، بل يمتد إلى المصادر المطلعة في العواصم المختلفة، مما يعكس حالة من الارتباك واختلاف التقديرات ما بين التفاؤل بإمكانية التوصل لاتفاق حقيقي وثابت يراعي المصلحة المصرية، أو الاكتفاء بمجرد إعلان الاتفاق بغضّ النظر عن تأثيراته السلبية أو الإيجابية على مصر تحديداً، وبين التشاؤم وترجيح أن تأخذ القضية منحى أكثر تأزماً في الأيام المقبلة.

وفي السياق، قال مصدر دبلوماسي مصري لـ"العربي الجديد"، إنّ هناك تقدماً بالفعل في مناقشة المسائل الفنية الواجب حسمها قبل الملء الأول للسدّ في يوليو/ تموز المقبل، لكن القاهرة تتعمّد إصدار بيانات تعكس روحاً غير إيجابية لمنع رفع سقف التوقعات، ومواجهة أسوأ الظروف بصورة أكثر واقعية، لا سيما أنّ حالة متبادلة من عدم الثقة تسيطر على العلاقات بين مصر وإثيوبيا.

وتوقّع المصدر أن يكون اجتماع اليوم حاسماً على أكثر من صعيد، أولها بحث إمكانية غلق جميع النقاط الفنية العالقة بين الدول الثلاث، وكذلك الانطلاق لمناقشة المسائل ذات الطبيعة التنسيقية والقانونية التي تشوبها خلافات بين مصر وإثيوبيا تحديداً، وأبرزها عدم قبول أديس أبابا الصيغة الإلزامية لاتفاق قواعد الملء والتشغيل باعتباره بروتوكول مترتباً على اتفاق المبادئ الموقع في مارس/ آذار 2015، وبالتالي فهو قابل للتغيير بحسب الظروف، وكذلك إلزامية آلية التنسيق الفني الدورية لتغيير كميات المياه المتدفقة من السدّ في حالات الجفاف وانخفاض منسوب الفيضان.

ورجح المصدر أن يكون اجتماع اليوم مفصلياً، بحيث يمكن أن يمثل نقطة انطلاق نحو توقيع اتفاق في أسرع وقت، تمهيداً للملء الأول، أو قد يمثل انتكاسة كبيرة للمفاوضات، مضيفاً: "مصر على عكس المعلن، تبدي مرونة كبيرة في التفاوض، لأنّ هذه المرونة من الأدوات الدبلوماسية الإيجابية لترويج صورة لها، مخالفة لما يشيعه الإثيوبيون في الأوساط الأوروبية والأميركية".

ويعكس سير المفاوضات بالفعل تنازلاً مصرياً واضحاً عن بعض المحددات التي كانت قد بدأت بها الجولة الحالية الأسبوع الماضي. فبعدما كانت مصر تتمسك بأن يكون منطلق أي اتفاق هو ما تم التوصل إليه من اتفاقات جزئية في مفاوضات واشنطن التي قاطعت إثيوبيا مرحلتها الأخيرة نهاية فبراير/ شباط الماضي، ووقعت مصر منفردة على الصيغة الختامية لها التي أعدتها وزارة الخزانة الأميركية والبنك الدولي، قبلت القاهرة حالياً بإعادة التفاوض على العديد من النقاط الفنية والقانونية التي ستصوغ السودان النصوص التوافقية الخاصة بها. ويعكس هذا الأمر نجاح إثيوبيا في فرض أجندتها، ولو بشكل جزئي، لأنّ النقاط التي اعترضت عليها في مسودة اتفاق واشنطن أصبحت محل تفاوض من جديد، بعيداً عن الجدل بين الطرفين حول أي مسودة تصلح للتفاوض؛ مسودة اجتماع 12 و13 فبراير/ شباط أم اجتماع 21 فبراير، واللذين أجريا في واشنطن، وترى أديس أبابا في الأول إنصافاً لها، وفي الثاني إجحافاً، بينما تتمسك مصر بنتائج الثاني وتعتبر الأول تمهيداً له.

ومن جانبه، رجح مصدر فني بوزارة الري المصرية مطلع على مجريات التفاوض، أن تكون الصياغات السودانية مقتصرة على تعديل بعض الأرقام لتتوسط المقترحات المقدمة من مصر وإثيوبيا. أما في ما يتعلق بمدى إلزامية الاتفاق، فأوضح المصدر أنّ هذه النقطة ستقبل بها إثيوبيا في النهاية، لكن مصر ترغب في حسمها بمزيد من القيود، وتحديد جهات تحكيم واضحة للجوء إليها حال الاختلاف أو عدم الوفاء بما تم التوافق عليه.

وقال المصدر نفسه إنّ النقاط الرئيسية التي اعترضت عليها إثيوبيا في مسودة واشنطن لم تحل بعد، معرباً عن توقعه بأن يتم تأجيل حسم بعض الخلافات لما بعد مرحلة الملء الأول، وهو ما سوف يكون له تأثير سلبي على مصر، ويتمسك بعض المسؤولين المصريين بعدم السماح به.

وبالنسبة لإثيوبيا، فإنه يمكن الاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد التشغيل السنوي لسد النهضة، بالتوازي مع الملء الأول للسدّ، خصوصاً أن اتفاق المبادئ يجيز لإثيوبيا إعادة ضبطها من وقت لآخر، وأن الإخطار المسبق الوحيد الذي تكلف به إثيوبيا ضمن الاتفاق هو إخطار دولتي المصب بأي ظروف غير منظورة أو طارئة تستدعي إعادة الضبط لعملية تشغيل السدّ. وعلى الرغم من أنّ المادة الخامسة من اتفاق المبادئ التي تفسرها إثيوبيا بهذه الصورة النصية والضيقة، قد نصت أيضاً على استمرارية التعاون والتنسيق حول تشغيل سدّ النهضة مع خزانات دولتي المصب، بإنشاء آلية تنسيقية مناسبة فيما بينها، فإنّ إثيوبيا تماطل أيضاً في استحداث تلك الآلية بحجة أنه يمكن وضعها بعد إتمام الملء الأول.

والواقع أنّ الصياغة غير المحكمة لاتفاق المبادئ تعدّ من الأسباب الرئيسية التي أوقعت مصر في هذا المأزق. فعلى الرغم من أحقيتها، وفق قواعد القانون الدولي وسوابق المحاكم الدولية، في الحصول على إخطار مسبق بأي تصرف على النيل سيؤثر على حصتها من المياه، فإنّ تمسكها قبل أديس أبابا باتفاق المبادئ وحده لا يكفي لإقناع العواصم العالمية بمنطقية مطالباتها بالاتفاق على جميع النقاط المستقبلية العالقة قبل الملء الأول.

ووفقاً لما قاله مصدر فني مصري في تصريحات سابقة لـ"العربي الجديد"، فإنّ أول بند تمسكت القاهرة بالنقاش حوله في المفاوضات هو طبيعة الظروف الهيدرولوجية (قياسات التدفق) الخاصة بالنيل الأزرق، إذ تتمسك مصر بأن يجرى قياسها دورياً واتباعها عند نقاط زمنية معينة في جدول اتُّفق عليه سلفاً، وذلك لتحديد كميات المياه التي تُختزَن في بحيرة السد خلال الفترة الأولى من عملية الملء التي من المقرر أن تستمر من يوليو/ تموز حتى فبراير/ شباط المقبلين، ثمّ ستتباطأ عملية الملء تدريجاً على ثلاث مراحل تالية، إحداها طويلة تمتد من يوليو/ تموز 2021 حتى فبراير/ شباط 2022، وقبلها مرحلة قصيرة وبعدها مرحلة قصيرة أخرى. وفي تلك الفترة، يُشغَّل السدّ تدريجاً لإنتاج الكهرباء، وتنتهي المراحل الأربع بتشغيل السدّ بأقصى طاقة استيعابية لتوليد الكهرباء في صيف 2022 مع الحفاظ على حدّ أدنى لإبقاء السدّ ممتلئاً وقيد التشغيل.

وبحسب المصدر المصري نفسه، الخلاف هنا ليس على تقسيم الفترات، لكن إثيوبيا بعدما كانت قد وافقت على تغيير كميات الملء في كل مرحلة وفقاً للظروف الهيدرولوجية، عادت ورفضت وطالبت باتباع خطة ملء ثابتة غير متغيرة، بحجة أنّ تغيير الكميات سيؤدي إلى إبطاء مساعيها لإنتاج الكهرباء، على الرغم من عدم صحة ذلك، وفقاً للمصفوفات المصرية والسودانية.

أمّا البند الثاني، فهو رغبة إثيوبيا في العودة عمّا اتُّفق عليه خلال جولات واشنطن بأنها ستنتهي من تشغيل كل توربينات الطاقة الكهرومائية اللازمة لتشغيل السدّ في الإنتاج بكامل طاقته خلال عامين. وبإضافة هذا الاتفاق إلى اتفاق آخر يتضمن السماح بتمرير 37 مليار متر مكعب في أوقات الجفاف، فإن هذا ينتج منه تمكّن إثيوبيا من إنتاج الكهرباء بقوةٍ تتجاوز 80 في المائة من القوة الإجمالية خلال عامين أو ثلاثة.

وبالنسبة إلى البند الثالث الذي تطرقت إليه المفاوضات الفنية، فهو الخاص بنقطة تحرير المياه، أو المنسوب الذي يجب التوصل إليه لضمان التشغيل الأمثل المستدام، وإطلاق الكميات الزائدة عن الحاجة في مجرى النيل لتصل إلى السودان ومصر. وهنا يوجد اتفاق مبدئي بين الدول الثلاث على أن يكون المنسوب 625 متراً، لكن إثيوبيا عادت وادعت أن الوصول إلى هذا المنسوب يتطلب منها عدم وقف الملء في أي مرحلة تبعاً للظروف الهيدرولوجية، وهو ما ترفضه مصر. وتقدّم القاهرة من جهتها مصفوفةً تثبت أن الوصول إلى هذا المعدل لن يتعارض مع التوقفات المطلوبة، بل يمكن تأمينه في حالة الفيضان وبمراعاة الظروف في أقل من خمس سنوات.

وسبق أن طالبت مصر بوضع جدول زمني محكم للمفاوضات الفنية الحالية، وقالت في بيان رسمي الثلاثاء الماضي صدر عن مجلس الأمن القومي برئاسة رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي، إنّ "مصر تؤكد على موقفها المبدئي بالاستعداد الدائم للتفاوض من أجل التوصل إلى اتفاق عادل ومتوازن يحقق مصالح مصر وإثيوبيا والسودان، وهو الأمر الذي يحتم تحديد إطار زمني محكم لإجراء المفاوضات والانتهاء منها، وذلك منعاً لأن تصبح أداة جديدة للمماطلة والتنصل من الالتزامات الواردة بإعلان المبادئ الذي وقعته الدول الثلاث سنة 2015".

وبحسب مصدر مصري مطلع، فقد رفضت إثيوبيا استمرار لعب الولايات المتحدة دور الرقابة أو الوساطة في المفاوضات، بينما كانت مصر متحفظة على أن تلعب الدور مفوضية الاتحاد الأوروبي. وأسفرت المفاوضات السياسية بين الدول الثلاث عن اختيار مراقب بواسطة كل طرف، على أن يقتصر دورهم على المراقبة ولا يمتد إلى الوساطة، كما تم استبعاد اشتراك البنك الدولي بناء على طلب إثيوبيا، واستبعاد مفوضية الاتحاد الأفريقي بناء على التحفظ المصري السابق عليها.

وصباح الاثنين الماضي، قال رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد، في رسالة تحدٍّ لمصر والسودان ومطالبتهما بالاتفاق على قواعد الملء والتشغيل قبل الملء الأول للسدّ: "سيتم ملء خزان السد بكمية 4.9 مليارات متر مكعب من الماء في موسم الأمطار المقبل" الذي يبدأ في يوليو/ تموز المقبل. وقارن أبي أحمد بين بلاده ومصر، فذكر أن "استكمال المشروع يضمن الحقوق الأساسية لإثيوبيا مثل مصر، فالكهرباء تصل هناك إلى 98 في المائة من السكان، بينما لدينا لا تصل الكهرباء ولا مياه نظيفة إلى 50 مليون إثيوبي، وبإنشاء السدّ ستزيد قدرة توليد الكهرباء بنسبة 50 في المائة، مما سيساهم في تطوير المناطق الريفية".