شائعة القاعدة العسكرية بجنوب السودان: انعكاسات سلبية على مصر

شائعة القاعدة العسكرية في جنوب السودان: انعكاسات سلبية على مصر

06 يونيو 2020
تزامنت الشائعة مع الأزمة المستعرة حول سد النهضة(فرانس برس)
+ الخط -
أصدرت وزارة الخارجية والتعاون الدولي في جنوب السودان بياناً مطولاً، مساء الأربعاء الماضي، لنفي الأنباء التي انتشرت على مواقع إخبارية وصفحات غير موثوقة بمواقع التواصل الاجتماعي، عن إنشاء مصر قاعدة عسكرية في منطقة باجاك، شرقي البلاد، في إطار التعاون الرسمي في مجالات عدة بين البلدين، كان آخرها إرسال مساعدات مصرية إلى جوبا للمساهمة في الحد من انتشار فيروس كورونا المستجد، فضلاً عن استضافة مصر عدداً من أرفع مسؤولي الدولة للعلاج من أمراض مزمنة خلال الشهور الماضية، بحسب مصادر دبلوماسية مصرية.

وقالت الوزارة الجنوب سودانية في بيانها، إنه "لا شيء في الواقع من هذا القبيل" وأنها لم تبرم أي اتفاق مع مصر "للاستحواذ على أي قطعة أرض من الدولة". ثمّ انتقل البيان إلى تخصيص الحديث عن خطورة هذه الشائعة على علاقة جوبا بكل من القاهرة وأديس أبابا، ارتباطاً بالقرب الجغرافي الواضح بين منطقة باجاك وولاية بني شنقول، التي تبني فيها إثيوبيا سدّ النهضة الذي يعتبر محور صراع سياسي ودبلوماسي واقتصادي بين مصر وإثيوبيا. وأكدت الوزارة على عمق علاقات جنوب السودان بكل من الدولتين المتنازعتين، وأنها تدعم تحقيق السلام بين جميع جيرانها والدول الأفريقية.

وأشاد البيان الجنوب سوداني بدور إثيوبيا في حفظ السلام بمنطقة أبيي (على الحدود بين السودان وجنوب السودان)، حيث تشارك قواتها تحت لواء الأمم المتحدة، كما حمّل من وصفهم بـ"أعداء السلام" مسؤولية الترويج لتلك الشائعة، لتضع جوبا بذلك حداً لانتشارها في أوساط مصرية وعربية مختلفة، خصوصاً أنها تتزامن مع الأزمة المستعرة بين مصر وإثيوبيا وقرب الملء الأول لخزان سد النهضة، والذي تحدده أديس أبابا في يوليو/ تموز المقبل.

وحملت مصادر دبلوماسية مصرية جهات معادية لمصر مسؤولية نشر هذه الأنباء غير الصحيحة، وأكّدت أنّ القاهرة ليست لديها أي خطط للوجود العسكري في جنوب السودان حالياً لأسباب عديدة، رافضةً اتهام دولة أو جهة معينة بالوقوف وراء الأمر، لكنها أكدت أنّ ذلك النبأ أضرّ كثيراً بمصر ودفع عدداً من العواصم العالمية للتساؤل عن صحته والتباحث بشأنه خلال الساعات الماضية، حتى بعد إصدار البيان الجنوب سوداني.

وأضافت المصادر أنّ هذه الشائعات تضع مزيداً من الأعباء على الدبلوماسية المصرية النشطة حالياً لإقناع العواصم الكبرى والدول الأعضاء الدائمين والحاليين بمجلس الأمن بصحة الموقف المصري في قضية سدّ النهضة، والتعنت الإثيوبي المضاد، مشيرةً إلى حصول وزير الخارجية سامح شكري على ردود مشجعة وإيجابية من نظرائه في روسيا وألمانيا وفرنسا وتونس وإستونيا أخيراً، وهو يحاول تغيير الصورة الذهنية المنتشرة عن الصراع في القارة الأفريقية.

وبتتبع الشائعة بواسطة أدوات البحث التي تلقفتها بعض وسائل الإعلام العالمية، يتبين أنّ أول موقع نشرها ليس تابعاً لحكومة جنوب السودان، بل لفصائل معارضة خارج البلاد، وأنّ الصفحات والمواقع الإثيوبية هي أول المتلقفين للشائعة وأعادت نشرها على نطاق واسع.

ويتناقض الادعاء بإنشاء قاعدة عسكرية مصرية في جنوب السودان مع عدد من المحددات المصرية والإقليمية لأزمة سدّ النهضة وعلاقات دول شمال وشرق القارة الأفريقية بصورة واضحة، وهو يزيد التوتر الذي يشوب العلاقات الثنائية بين جميع دول المنطقة من دون استثناء. فالجار المشترك بين البلدين، وهو السودان، الدولة الأكثر تضرراً من انفصال الجنوب بمباركة مصرية وتطوير العلاقات الاستخباراتية والأمنية والحكومية بين القاهرة وجوبا على مدار 12 عاماً، لن يرحب بالتأكيد بمثل هذه الخطوة التي يمكن اعتبارها من جانب مسؤولين سودانيين تهديداً لاستقرار بلادهم، خصوصاً أنّ التنسيق الحالي بين القاهرة والخرطوم في ملف سدّ النهضة لا يعدو كونه تفاهماً هشاً يخدم مصلحة القاهرة قبل الخرطوم، ويغطي قمة جبل من الخلافات المتوارثة منذ عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، وألاعيب مختلفة من عهد نظيره السوداني المخلوع عمر البشير. هذا إلى جانب أنّ العقدة الأصعب في العلاقات وهي النزاع على مثلث حلايب وشلاتين الحدودي، لم تحل حتى الآن. كما أنّ التفاهمات الحالية وتعميق التعاون الأمني والاقتصادي بين البلدين، مرتبط أساساً بالعلاقات العسكرية والاستخباراتية التي نشأت خلال فترة الثورة على البشير بين النظام المصري برئاسة عبد الفتاح السيسي، وعدد من قيادات المجلس العسكري السوداني وعلى رأسهم قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي).

ومن ناحية أخرى، فإنّ شائعة الحديث عن الحل العسكري لأزمة سدّ النهضة في وسائل الإعلام، كما حدث في شائعة جنوب السودان، من شأنها إضعاف الموقف المصري أمام الرأي العام الأفريقي والعالمي في قضية سدّ النهضة، وإخراجه عن المسار الذي اختاره النظام بعد فشل مفاوضات واشنطن، بالمضي قدماً في طلب الوساطة الدولية لحلّ الأزمة من مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، خصوصاً أنّ الإثيوبيين يروجون على نطاق واسع أنهم الطرف الأضعف والأكثر تعرضاً للغبن تاريخياً في منظومة مياه النيل جراء اتفاقيات العهود الاستعمارية، كما يروجون لرغبة مصر في الاستئثار بالمياه. وبالتالي، فإنّ المضي في اتجاه التصعيد العسكري لأكثر من مجرد التحذيرات التي سبق أن أطلقها السيسي ضمنياً، وردّ عليها رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد، لن يكون أبداً في مصلحة الموقف المصري.

وسبق أن وجهت مصر عدة رسائل تلويح بالحل العسكري، منها في منتصف يناير/ كانون الثاني الماضي، عند افتتاح أكبر قاعدة عسكرية مصرية، بحرية جوية، على ساحل البحر الأحمر، في منطقة برنيس، شمال مثلث حلايب وشلاتين، في إجراء فسره مراقبون بأنه رسالة شديدة اللهجة "ولو متأخرة" إلى رئيس الوزراء الإثيوبي، الذي سبق أن قد تحدث عن استعداده للتصعيد الحربي، وردّ عليه السيسي بأنّ مصر لا تفكر في الحرب وتصرّ على اتباع المفاوضات السياسية لحلّ القضية. ثمّ عقد السيسي اجتماعاً لافتاً، مطلع مارس/ آذار الماضي، في مقر الأمانة العامة لوزارة الدفاع، ضمّ القيادات العسكرية، وقد تطرق البيان الرئاسي الصادر عن الاجتماع إلى "ضرورة التحلي بأعلى درجات الحيطة والحذر والاستعداد القتالي، وصولاً إلى أعلى درجات الجاهزية لتنفيذ أي مهام توكل إلى القادة العسكريين لحماية أمن مصر القومي، وذلك في ظلّ التحديات التي تموج بها المنطقة". كما سبق لمصر استخدام عبارة "حماية حق الشعب المصري في الحياة بكل الوسائل المتاحة"، مرات عدة.

لكنّ المصادر الدبلوماسية المصرية أكّدت أنّ السيسي ما زال يرغب في تسويق صورته كـ"رجل سلام"، وأنّ هناك العديد من الاعتبارات المحلية والخارجية التي تمنع اللجوء لحلول غير دبلوماسية، منها تمتع إثيوبيا بمساندة الدول التي دفعت مستثمريها للتعاون في بناء السد، ومنها فرنسا وإيطاليا وألمانيا والصين، وكذلك روسيا التي منحت أديس أبابا منظومات للدفاع عنه، فضلاً عن المؤسسات الاستثمارية الدولية الكبرى التي تساهم مالياً في المشروع، ورفضها لأي تلويح مصري بتخريب السد استخباراتياً أو عسكرياً.

أمّا من الناحية العملية، فإنّ البدء في إنشاء قاعدة عسكرية مصرية في جنوب السودان أو أي مكان آخر حالياً من الصفر، يتطلب وقتاً طويلاً للتجهيز والإعداد والتأهيل، ما يحول دون إيقاع تأثير كبير في تطور مشروع سدّ النهضة، الذي اكتملت أعماله بنسبة 74 في المائة حالياً. وإذا بدأت بالفعل أديس أبابا في ملء الخزان للمرة الأولى، الشهر المقبل، فسوف يكون من الخطير على السودان ومصر القيام بأي عمل تخريبي للسدّ، ولا سيما أن فيضان النيل الأزرق قد بدأ مبكراً هذا العام وبالفعل بدأت المياه في التجمع خلف السد، خارج البحيرة، وهو ما سيسهل عملية التخزين فور بدئها وإتمام تبطين الخزان.

وفي 19 مايو/ أيار الماضي، كشف مصدر محلي إثيوبي لـ"العربي الجديد"، أنّ جيش بلاده نفذ مرحلة أساسية من مراحل نشر منظومات دفاع جوي متطورة حول سدّ النهضة، استعداداً لأي هجوم مصري محتمل، وأنه حصل على المنظومات الجديدة من دول عدة، أبرزها روسيا، على دفعات، آخرها في الخريف الماضي، وأنه تمّ تجريبها جميعاً في مناسبات عدة، مطلع العام الحالي، قبل نقلها إلى ولاية بني شنقول التي يقع فيها السد. كما أنه تمّ إدخال تعديلات على بعض المنظومات بواسطة الشركة العسكرية للمعادن والهندسة (ميتيك) التابعة للجيش.

وكان رئيس هيئة أركان الجيش الإثيوبي، الجنرال آدم محمد، ورئيس أركان القوات الجوية العميد يلما مرديسا، وعدد كبير من قيادات القوات المسلحة الإثيوبية، قد زاروا موقع سد النهضة في 22 مارس/ آذار الماضي. وجاء في بيان رسمي عقب الزيارة، أنهم كانوا يتابعون عمليات البناء الخاصة بالسدّ والتعرف على آخر التطورات في ما يخص سير العمل به والتحديات التي تواجهه. وأعلن رئيس الأركان في حينه، أنّ "الجيش الإثيوبي مُستعد لمواجهة أي عدوان على سدّ النهضة لحماية مصالح الشعوب الإثيوبية".

وأرسلت مصر، مطلع الشهر الماضي، خطاباً لمجلس الأمن بلهجة لا تخلو من الرجاء لاتخاذ ما يلزم لاستئناف مفاوضات ملء وتشغيل السدّ، وتضمن وصف الخطر الاستراتيجي الذي قد تشهده المنطقة جراء الممارسات الإثيوبية بأنه "تطور محتمل"، علماً أنّ أي توجه يستحيل أن يصاحبه، بحسب مراقبين، تحضير لتحرك عسكري مصري، إذ إنّ ذلك سيكون بالتأكيد غير مرغوب به من القوى العظمى ولا مرحب به من المنظومة الأممية.

وفي خطابها لمجلس الأمن، كشفت مصر أنّ إثيوبيا عرضت أن يتم الاتفاق فقط بين الدول الثلاث على قواعد الملء والتشغيل لأول عامين، وهو ما اعترضت عليه مصر والسودان، ليس فقط لأنه يتجاهل تنظيم فترة الملء كاملة، ويتناقض مع القواعد التي سبق الاتفاق عليها، ولكن أيضاً لأنه يتناقض مع اتفاق المبادئ الذي يؤكد عدم الملء قبل التوصل إلى اتفاق شامل.

وقدمت إثيوبيا رداً على الخطاب المصري لمجلس الأمن، تضمن التشديد على أنّ الملء الأول لن يضرّ بدولتي المصب، نظراً لأنه يتزامن مع الفيضان، وأنه لا ينتهك اتفاق المبادئ الموقع بين الدول الثلاث في مارس/ آذار 2015، وأنه يمكن فصل قواعد الملء والتشغيل في السنوات التالية عن فترة الملء الأول.