سجناء الأيديولوجيا

11 مايو 2020
منحت الثورة جميع التونسيين الحق في التعبير(فضل سنا/فرانس برس)
+ الخط -
تتفاجأ في تونس ببعض المواقف الحزبية الغريبة، وهي مواقف لا تحركها حسابات سياسية دقيقة، بمعنى أن تضيف شيئاً ملموساً، وهو عمق العمل الحزبي الذي يستند إلى التراكم شيئاً فشيئاً، ويبني تدريجاً صدقية للفاعل السياسي عند الناس والناخبين، بحيث يستعدون لموعد الانتخابات منذ بداية العهدة الجديدة. والأغرب أن كثيراً من هذه الأحزاب لم تتعلم من دروس قاسية جعلتها تتفرج على الحياة السياسية من بعيد ولا تشارك فيها بأي شكل، عدا إصدار بيانات يتيمة لا يقرأها الناس ولا يهتمون بها إطلاقاً، أو تدوينات وتغريدات على فيسبوك يروجها مناضلو الحزب، الذين لا يتعدون بضع مئات لدى بعض هذه الأحزاب.

لم يتعلم كثير من الساسة في تونس بعد، أن المواطن لا تهمه مطلقاً إلا القضايا التي تعني حياته وحياة أطفاله، وأن معيار قياسه للعلاقات الدولية لتونس هو ما يمكن أن تنتجه من خير، وأن حد ذلك الأحمر هو فلسطين فقط، وما عدا ذلك فقضايا لا تهمه أبداً… ولكن أحداً من هذه الأحزاب لا يسمع ولا يتعلم. ومنذ ولدت الثورة في تونس، وبعض اليسار والقوميين، وليس كلهم، لا همّ لهم سوى شتم تركيا وقطر، ولسنا في معرض الدفاع عن أيٍّ منهما، لأن أرقام التعاون مع هذين البلدين بالذات تدافع عن نفسها. والتونسيون أذكياء ومتعلمون ويعرفون من هو صديقهم ومن يدعي ذلك، ومن وقف معهم في محنهم الأمنية والاقتصادية، ومن وقف يتفرج شامتاً وآملاً سقوطهم، ومن دعم ثورتهم ومن يعمل على وأدها، وهم يميزون بين المعارك السياسية الصحيحة والمعارك الزائفة التي تحركها أيديولوجيا حمقاء تقوم على البيانات فقط.
وعلى الرغم من كل هذا الجهد الحزبي الضائع طوال هذه السنوات، الذي لم يغير شيئاً في العلاقات الرسمية ولا الشعبية التونسية، ولا أضاف إلى هذه الأحزاب شيئاً، ولا زاد في شعبيتها ولا هم يحزنون، إلا أنهم لا ينفكون عن ذات البيانات بذات المصطلحات والحماسة اللغوية والشعارات التي تجاوزتها الأزمنة السياسية والثقافية واللغوية، حتى تخال أنها مسكونة أو أنها أسطوانات قديمة نسيها مشغلها في غفلة من الزمن.

ولا ينزع هذا عن الأحزاب حقها في أن تنتقد من شاءت وتصطف خلف من شاءت، فتلك حرية الناس التي منحتها إياهم الثورة، ولكن ألمْ يئن الأوان أخيراً ليخرج هؤلاء من سجن الأيديولوجيا الذي دخلوه بأنفسهم، حتى لا ينساهم الناس والتاريخ؟