المنازلة الكبرى الأميركية - الإيرانية بدون أفق وتضعف الطرفين

05 نوفمبر 2018
تبدأ العقوبات الجديدة اليوم الاثنين (فاطمة بهرامي/ الأناضول)
+ الخط -
تبدأ المنازلة الكبرى، رسمياً اليوم الاثنين، بين واشنطن وطهران. منازلة ظاهرها عقوبات مالية أميركية على إيران أصبحت سارية المفعول بدءاً من فجر اليوم، غير أنه في باطن المنازلة صراع نفوذ في المشرق العربي عمره عقود. هذه المنازلة تبقى من دون أفق، في ظل عدم وجود رغبة في المواجهة العسكرية، لكنها منازلة تُضعف الطرفين وتؤجج الأزمات في مناطق النزاع وتُؤجل المسار المحتوم لعودتهما إلى طاولة المفاوضات.

الموجة الثانية من العقوبات الأميركية، والتي تأتي بعد الموجة الأولى في شهر أغسطس/ آب الماضي، تستهدف أسس الاقتصاد الإيراني، تحديداً النظام المصرفي والصادرات النفطية وشركات الشحن، كما تفرض عقوبات على البلدان التي لا تتوقف عن استيراد النفط الإيراني وعلى الشركات التي لا تتوقف عن التعامل مع الكيانات الإيرانية التي وضعتها واشنطن على لائحة العقوبات. هناك ثلاثة أبعاد لهذه المنازلة: الإمداد النفطي، والنظام المالي الدولي، والدينامية الاستراتيجية. كل هذه الأبعاد فيها من الثغرات ما يجعل المعركة الدبلوماسية استنزافاً مشتركاً لواشنطن وطهران، كما تفتح الطريق على توسع النفوذ الروسي في المنطقة.

على المستوى النفطي، تدرك واشنطن أن هدفها بتصفير التصدير النفطي الإيراني غير ممكن، في ظل عدم وجود إجماع دولي حول قرار البيت الأبيض الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني وفي ظل الضغوط الاقتصادية التي قد يتعرّض لها حلفاء واشنطن في حال تم وقف كل وارداتهم النفطية من إيران.

في هذا السياق، أقرّ مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض جون بولتون، بهذا الواقع، يوم الأربعاء الماضي، مبدياً مرونة، قائلاً: "نريد تحقيق أقصى قدر من الضغط، لكننا لا نريد أن نلحق الأذى بالأصدقاء والحلفاء". وبحسب القانون الأميركي، هناك عقوبات على البلدان التي لا تمتثل للعقوبات الأميركية، وبالتالي أعطت إدارة الرئيس دونالد ترامب ثمانية استثناءات مؤقتة لحلفائها وأصدقائها (أغلبهم من القارة الآسيوية)، بينما منعتها عن الاتحاد الأوروبي.

مقابل حدود هذا الحظر الأميركي، بدأ النظام الإيراني يتأقلم مع هذه المرحلة الاقتصادية الصعبة ويستعد لمحاولات تفادي أثر هذه العقوبات. حتى قبل دخولها حيّز التنفيذ، أدت هذه الإجراءات خلال الأسابيع الأخيرة إلى توقف شركات أوروبية وآسيوية وروسية عن التعامل مع إيران، فيما تراجع معدل تصدير إيران النفطي من 2.5 مليون إلى 1.5 مليون برميل يومياً. فرضت واشنطن معادلة "لا مبالغ نقدية تُدفع لطهران مقابل النفط"، من دون شمول هذه العقوبات تصدير الأدوية والغذاء إلى إيران.

أسعار النفط العالمية لا تزال منخفضة، رغم عدم اليقين حول العقوبات، لكن الأسواق تترقب تطورات هذا الأسبوع. وفي مذكرة رئاسية أصدرها في 31 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أكد ترامب أن "هناك إمدادات كافية من النفط والمنتجات النفطية لتوقف البلدان المعنية استيراد النفط الإيراني إلى حد كبير". المعركة النفطية بين واشنطن وطهران يدور فلكها في الأسواق الآسيوية، حيث يذهب الجزء الأكبر من الصادرات النفطية الإيرانية. وتستفيد هذه الأسواق من الأسعار المخفضة للنفط الايراني فيما الشركات الأميركية غير قادرة على عرض نفطها بالسعر نفسه.

بعد عدم يقين محتمل في الشهر الحالي حيال الإمدادات النفطية، قد تستقر الأسواق العالمية للنفط في شهر ديسمبر/ كانون الأول المقبل إذا لم تكن هناك مواجهات في المنطقة. السعودية التي كانت مترددة في اتخاذ هذه الخطوة، تتجه إلى زيادة ضخها للنفط قبل نهاية العام، كما يبدأ النفط الصخري الأميركي بإمداد الأسواق العالمية في الفترة ذاتها. الكرملين يبقى محايداً في الملف النفطي رغم رفضه العلني للعقوبات الأميركية على إيران. الشركات الروسية سحبت بعض استثماراتها من القطاع النفطي الإيراني تفادياً للعقوبات الأميركية، كما ضخّت موسكو الشهر الماضي 390 ألف برميل نفط إضافي يومياً، لتفادي انخفاض أسعار النفط، ما يجعل كلاً من روسيا وأميركا في طليعة الدول المصدرة للنفط.



أما بالنسبة إلى تداعيات هذه الأزمة على القيادة الأميركية للنظام المالي الدولي، فإنها قد تؤثر في المدى الطويل على هيمنة الدولار في الأسواق المالية العالمية، فهناك دول مثل الصين وروسيا وتركيا والهند لجأت إلى عملتها المحلية للتبادل التجاري مع إيران. كذلك طرحت البلدان الأوروبية إنشاء نظام مالي خاص بها لن يبدأ العمل به حتى العام المقبل، لكن أمامه تحديات تقنية كبيرة. هذه المحاولة الأوروبية دفعت إدارة ترامب على الأرجح إلى عدم إعطاء استثناءات للتعامل التجاري مع إيران للاتحاد الأوروبي. كما أنه ليس هناك إجماع في بروكسل حول هذا الملف، لا سيما بعد كشف السلطات الدنماركية عن تخطيط النظام الإيراني لاعتداءات ضد معارضين إيرانيين في أوروبا. هذا التحدي الدولي أدّى إلى مرونة في الموقف الأميركي، فتراجعت إدارة ترامب عن إقصاء إيران عن جمعية الاتصالات المالية العالمية بين المصارف (سويفت) أو نظام الدفع الدولي التي تمر كل التحويلات المالية عبره.

وعلى المستوى الاستراتيجي، وضعت إدارة ترامب لائحة مطالب علنية كي ترفع عقوباتها عن إيران، وهي وقف دعمها للإرهاب، وإنهاء انخراطها العسكري في سورية، ووقف برامجها لتطوير الأسلحة النووية والبالستية بشكل نهائي. وهذا يعني عملياً إخضاع إيران عبر إرجاعها تحت الضغط الاقتصادي إلى طاولة المفاوضات. لكن ما يُضعف جبهة العقوبات ضد إيران، هو خوض ترامب بشكل موازٍ معارك اقتصادية مع الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا، التي ترى في شدّ الحبال حول الاتفاق النووي الإيراني فرصة لردع الأحادية الأميركية. العقوبات الأميركية على الصين وروسيا تجعلها أقلّ تعاوناً في المساعدة على تشديد العقوبات على إيران.

أما الدول الأوروبية فتحاول التمايز عن واشنطن. وزير المالية الفرنسي برونو لو مير، قال إن "نتيجة هذه الأزمة مع إيران ستكون فرصة لأوروبا، ليكون لديها مؤسساتها المالية المستقلة حتى نتمكّن من التجارة مع من نريد".

الضعف الثاني في جبهة العقوبات على إيران، هو تداعيات مقتل الكاتب السعودي جمال خاشقجي على متانة التحالف الأميركي - السعودي. غير أن إدارة ترامب مصرّة على استكمال رؤيتها لتحالف عربي - إسرائيلي ضد إيران، في ظل الانفتاح الخليجي على إسرائيل عشية دخول العقوبات الأميركية على طهران حيز التنفيذ. هذه المنازلة مع طهران يوازيها انحسار أميركي في مناطق النزاع في الشرق الأوسط، لا سيما في الساحة السورية، ما يطرح تساؤلات حول طبيعة الاستراتيجية الأميركية في ظل إدارة ترامب.

العقوبات بدأت تُعطي مفعولها على الاقتصاد الإيراني، لكن ليس هناك حالياً في الأسواق العالمية بديل عن صادرات إيران النفطية الذي تعمّد النظام الإيراني تخفيض أسعارها للمنافسة تحت ضغط العقوبات. والكونغرس الذي يزداد تشدداً حيال إيران بعد الانتخابات النصفية يوم الثلاثاء المقبل، وسيحاول التيار المحافظ في الحزب الجمهوري دفع البيت الأبيض إلى عدم التراخي في قضية الاستثناءات للدول الحليفة، أو في عدم إقصاء إيران عن نظام "سويفت". وذكرت إدارة ترامب أنها "سمحت لإيران أن تستخدم هذا النظام المالي فقط للمعاملات الإنسانية"، لكن الصقور في الإدارة والكونغرس اعتبروا أن هذا الأمر يخلق ثغرات في العقوبات يمكن أن يستفيد منها النظام الإيراني.

أما التيار اليساري في الكونغرس، الذي قد يزداد قوة أيضاً بعد الانتخابات النصفية، فسيضغط على إدارة ترامب لتفادي أي مواجهة عسكرية أو حرب مع إيران. وهذه القيود التشريعية تجعل خيارات البيت الأبيض محدودة في التعامل مع التحدي الإيراني. والأهم من ذلك، هو السقف العالي للمطالب الأميركية الذي لن يقبل به النظام الإيراني، وبالتالي تحتاج واشنطن إلى ترك الباب مفتوحاً لإيجاد تسوية مع إيران لتفادي تأجيج الاشتباك الإقليمي، الذي قد يؤثر سلباً على المصالح الأميركية في المنطقة وقد يزيد من احتمالات المواجهة العسكرية بين الطرفين.