نال مقتل زعيم "فاغنر" في سقوط طائرة مدنية من الاهتمام والأضواء في واشنطن بقدر ما ناله يوم أعلن تمرده على الكرملين قبل نحو شهرين. وفي الحالتين ما كان الحدث ليقفز فورًا إلى صدارة المداولات الإعلامية والرسمية الأميركية لولا علاقة الرئيس فلاديمير بوتين به، "كفاقد لهيبته" في المرة الأولى و"كمدبّر" لعملية تدفيع يفغيني بريغوجين ثمن التمرد، وفق ما تقاطعت عنده كافة الردود تقريبا، ولو أنه في بعض التقديرات لم يستبعد أن تكون أوكرانيا وراء العملية بضربة جوية أسقطت الطائرة من على علو 28 ألف قدم، على أساس أنه من المستبعد عادة أن يحصل عطل ميكانيكي على هذا الارتفاع.
لكن هذا الاحتمال تراجع لصالح توجيه إصبع الاتهام إلى الرئيس بوتين من زاوية أنه "لا ينام على ضيم"، فهو "سيّد تصفية الحسابات" مع الخصوم، حسب تعبير وليام بيرنز، مدير وكالة الاستخبارات الأميركية المسموعة كلمته في واشنطن على أساس خبرته الطويلة بالشأن الروسي واطلاعه الواسع بحكم موقعه على الكمائن والمقالب المخابراتية التي ترجح واشنطن أن حادثة الطائرة تندرج في خانتها. وقد ردد البيت الأبيض التهمة المبطنة نفسها بقوله إنه "لم يفاجأ"، رغم اعترافه بأنه لا يعرف وقائع الحادثة حتى الآن، وكذلك رددتها المتحدثة باسم مجلس الأمن القومي أدريان واتسن.
وإذ يجري توظيف اتهام بوتين بـ"تصفية" بريغوجين كما سبق وجرى توظيف التمرد ضده، إلا أن غياب أو تغييب هذا الأخير ترك أسئلة عالقة. هل جرى التخلص منه – إذا صحت التهمة – انتقاما منه أو لإزاحة خطره على سيد الكرملين؟ ففي بعض التقديرات العسكرية أن زعيم "فاغنر" أثار خشية الكرملين بصورة جدّية يوم قرر التوجه إلى موسكو بنية انقلابية بعد اصطدامه مع الرئيس بوتين، خصوصا أن بعض الجنرالات الروس كانوا في حينه حسب ما تردد "متعاطفون" معه.
وثمة من يعتقد أنه برجوعه آنذاك من منتصف الطريق "كتب" قرار التخلص منه. وفي التوسع بالتفسير، يقال إن "تصفيته" تنطوي أيضا على درس لغيره بأن لا يجرؤ أحد على تحدي سيد الكرملين بعد الآن، خاصة في موضوع الحرب في أوكرانيا.
وفي هذا الإطار، هناك سؤال آخر حول مصير قوات "فاغنر" المعروفة بولائها العميق لزعيمها الراحل. فهل يأمن بوتين لدمج هذه القوات بالجيش الروسي حتى لو جرى توزيعها على قطعات عسكرية مختلفة؟ وأيضا هل أعد بريغوجين قيادة بديلة تقوم بالمهمة – أو بالثأر – إذا غاب هو عن المسرح؟
أخيراً، هل يترك "تغييبه" تداعيات على القوات العسكرية الروسية أو بعضها، قيادة وجنودًا؟ فالرجل كانت قواته جزءًا "فعالًا" ومكملًا للقوات الروسية المقاتلة على الجبهة الأوكرانية. وثمة تقارير تحدثت عن تمايزها القتالي هناك. وهذه احتمالات قد تخرج عن الحسابات، تماما كما خرج قائد "فاغنر" وارتد على سيده ومموله بوتين في لحظة دقيقة من حرب أوكرانيا.
قد لا تكون "فاغنر" بعد زعيمها كما كانت في ما مضى، لكن التداعيات مفتوحة. وواشنطن تضع الحادثة في إطار رسم علامات استفهام حول دور القيادة الروسية فيها. ولحين ثبوت العكس، فالتمرد معطوفا على "التصفية" – إذا لم يجر دحضها – ثنائي تعمل واشنطن على تظهيره بصورة مكبرة وتحويله إلى جزء من خطابها الدبلوماسي المضاد للكرملين. وقد استخدم بعض المرشحين الجمهوريين هذه الورقة ضد بوتين في مناظرتهم الأولى الليلة الماضية.