عدنان مندريس: قبل أن يكون شهيد الأذان

عدنان مندريس: قبل أن يكون شهيد الأذان

24 فبراير 2024
مندريس كان أول رئيس وزراء من خارج حزب الشعب الجمهوري (Getty)
+ الخط -

أصدر الرئيس التركي مصطفى كمال أتاتورك عام 1932 قانوناً بمنع الأذان بغير اللغة التركية، واستمر هذا القانون الذي أزعج شريحة كبيرة من المتدينين الأتراك حتى عام 1950، عندما قام رئيس الوزراء حينها عدنان مندريس برفع الحظر عن الأذان باللغة العربية. كان دافع مندريس الرئيسي هو جذب الناخبين إليه، لأن تركيا في تلك الفترة كانت قد خرجت من مرحلة الحزب الواحد (1923-1945) ودخلت مرحلة التعددية الحزبية. مما لا شك فيه أن إلغاء قرار أصدره أتاتورك كان بداية لسلسلة قرارات أزعجت المنظومة التي حكمت وحدها لأكثر من 25 عاماً، وتحدت الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم مؤسسي الجمهورية، مما دفعهم إلى الانقلاب على مندريس وإعدامه بمحاكمة صورية عام 1961. طبعت مسألة الأذان شخصية مندريس ببعد واحد، وجعلت عموم الناس تختزل حياته وتفاصيل صعوده السياسي بعبارة "شهيد الأذان".

اعدام رئيس الوزراء التركي عدنان مندرس في 2 كانون الاول/ يناير عام 1961 (Getty).
إعدام رئيس الوزراء التركي عدنان مندريس في 2 كانون الأول/ يناير عام 1961 (Getty)

من هو عدنان مندريس؟

ولد عدنان مندريس في ولاية أيدن العثمانية عام 1899، كان والده من ملاك الأراضي، وأورث ولده هذه الملكية. أنهى مندريس تعليمه متخرجاً من المدرسة الأميركية في إزمير، والتي كانت من أوائل المدارس الخاصة في تركيا، وتعتبر مدرسة علمانية ومخصصة لأبناء الأقليات مع بعض الاستثناءات. شارك مندريس في حرب الاستقلال، وحصل على ميدالية الاستقلال، لم يلتحق بالجامعة إلا في عام 1931 أي بعد انتقاله إلى أنقرة نائباً عن مدينة "أيدن"، وتخرج عام 1935 من كلية الحقوق في جامعة أنقرة. شارك في تأسيس حزب الجمهورية الحر وحزب الشعب الجمهوري والحزب الديمقراطي. وانتخب نائباً لثماني دورات متتالية، كما تولى رئاسة الوزراء عام 1950 واستمر في منصبه لمدة عشر سنوات وخمسة أيام، إلى أن قام الجنرال جمال غورسيل ورفاقه بانقلاب عسكري عليه في 27 أيار/مايو 1960، وأعدم بعد محاكمة صورية في 17 أيلول/سبتمبر عام 1961.

" أتاتورك هو من اكتشفني"

بالرغم من وعده لزوجته فاطمة بيرين التي تزوجها في عام 1929 بأنه لن يدخل السياسة، أخلف وعده ودخل السياسة بعد قدوم علي فتحي أوكيار رئيس الحزب الجمهوري الحر إلى أيدن عام 1930، إذ أشار السكان على أوكيار بضم مندريس إلى حزبه لأنه ورقة رابحة، فهو يتقن لغة أجنبية (الإنكليزية)، ويجيد إدارة عمل الأراضي الزراعية، وقريب من المواطنين ويعرف همومهم جيداً. أقنع أوكيار عدنان مندريس بأن يكون رئيس منطقة "أيدن" في الحزب الذي لم يعش طويلاً بسبب صدور قرار حلّه بعد ستة أشهر من تأسيسه. هذا القرار سبّب نكسة في محاولة الانتقال إلى مرحلة التعددية الحزبية، لكن حزب الشعب الجمهوري بعد هذا القرار فتح الباب لمن يريد أن يعود إلى البيت القديم، ومندريس كان جزءاً من العائدين إلى حزب الشعب الجمهوري. 
خلال زيارته إلى أيدن عام 1931 رفض أتاتورك الذهاب لمبنى حزبه حزب الشعب الجمهوري بسبب وجود أفراد من الحزب الجمهوري الحر المنحل هناك، لكن بعد إصرار كبير، قبل زيارة المبنى بشرط أن يبقى فقط لمدة خمس دقائق. قال بهاء إكشيت رئيس الكتلة النيابية  للحزب الديمقراطي التركي (حزب مندريس) نقلاً عن عدنان مندريس:
"لم يقبل أتاتورك أن يأخذ مني في البداية القهوة والسيجارة اللتين قدمتهما له، ولكنني كنت أعرف رغبته في الحصول على معلومات عن وضع الفلاحين في منطقتنا وفي تركيا. فبدأت بالكلام عن وضع الفلاحين ووضع الاقتصاد التركي، وهذا لفت انتباه أتاتورك لي، واستمر حديثنا لمدة أربع ساعات، فقد دار نقاش بيني وبينه، تفاعل أتاتورك معه وعلق واستفسر".
امتدت الخمس دقائق إلى أربع ساعات شرب خلالها أتاتورك علبة سجائر كاملة من ماركة "الغازي" وأربعة فناجين قهوة. هذه الساعات الأربع غيّرت حياة عدنان مندريس، إذ إن أتاتورك قبل مغادرته مدينة "أيدن" طلب تقريراً من مندريس حول الأمور التي تحدّثا بها، وقال أمام أحد المقربين منه:
"الشاب الذي تحدثت معه اليوم، مميز".

أتاتورك خلال زيارته لمدينة ايدن عام 1931 والتي اكتشف فيها عدنان مندرس.
أتاتورك خلال زيارته إلى مدينة أيدن عام 1931 التي اكتشف فيها عدنان مندريس.

هذا المديح من أتاتورك لم يكن مجرد حدث عابر، بل إنه غيّر مجرى حياة مندريس تماماً، إذ قال ابنه:
"بعد أسابيع قليلة من الزيارة، جاء أبناء منطقتنا يهنئون والدي، استغرب والدي وقال لهم ماذا يحدث؟ فقالوا له ألم تسمع اسمك في الراديو مع قائمة المرشحين إلى الانتخابات النيابية القادمة؟".
في ذلك الوقت كان وجود اسم الشخص في قوائم المرشحين يعني أنه أصبح نائباً في البرلمان تلقائياً. وفي ربيع عام 1931 استقل عدنان مندريس القطار المتجه نحو أنقرة لتبدأ مغامرته السياسية التي امتدت إلى ثلاثين عاماً، وافتتح مغامرته هذه بقوله للمحيطين به: "أتاتورك هو من اكتشفني".

معركة السياسة

ترافقت مرحلة التحول إلى التعددية الحزبية التي حدثت بفعل الضغوط الأميركية والشروط التي وضعت لمنح تركيا معونات اقتصادية، مع صعود أصوات داخل حزب الشعب الجمهوري عام  1945 تطالب بخطوات إصلاحية. تصدّر هذه الأصوات مندريس بخطاباته الحماسية حول الإصلاح الزراعي والميزانية في البرلمان، كما شارك برفقة فؤاد كوبرولو في حركة تدعو إلى إصلاحات من داخل حزب الشعب الجمهوري، فقد كتبا مقالات في الصحف التركية تنتقد توجهات الحزب، مما سبّب طرد مندريس من الحزب بعد أن انتخب نائباً عن الحزب لأربع دورات (1931، 1935، 1939، 1943). لحق جلال بايار برفاقه، واستقال من حزب الشعب الجمهوري، وشارك في تأسيس حزب جديد في السابع من يناير/كانون الثاني عام 1946 تحت اسم الحزب الديمقراطي. بعد 27 عاماً من تفرد حزب الشعب الجمهوري بالسلطة استطاع الحزب الديمقراطي أن يحوز الأغلبية البرلمانية عام 1950، الأغلبية التي سمحت له بتشكيل حكومة برئاسة مندريس وانتخاب جلال بايار رئيساً للجمهورية.
اعتبرت الفترة الممتدة بين عامي 1950 و 1954 الفترة الذهبية في تاريخ الحزب، إذ صدر فيها العديد من القرارات، مثل إزالة منع الأذان بغير التركية، وقانون حرية الإعلام، واستقلالية الجامعات، كما ساهمت قدرة مندريس الخطابية وفلسفته الداعية إلى الديمقراطية والعدالة والشفافية والإصلاح الزراعي في تصدره المشهد السياسي التركي. 
أثارت حادثة "التسعة ضباط" الذين قبض عليهم في عام 1957، وحوكموا بتهمة التآمر ضد الحكومة، والسياسات المعاكسة لتوجه النخبة التي حكمت البلاد منذ الاستقلال، حفيظة الجيش المقرّب من سياسيين مناوئين لمندريس، ودفعته إلى التخطيط للانقلاب، كما أن التضخم الذي ضرب البلاد ابتداء من عام 1955 بسبب زيادة حجم فائدة الدين الخارجي، وخسارة الليرة لقيمتها، والفشل في بعض المشاريع الصناعية الكبيرة، فتح الطريق أمام الانقلابيين للقيام بانقلابهم على السلطة.

الحدث الأكثر دموية

خلال حكم مندريس وتحديداً في ليلة السادس من أيلول/ سبتمبر عام 1955 نشرت صحيفة إكسبرس التركية خبراً تحت عنوان "تضرر منزل جدنا بإلقاء قنبلة عليه". زعم الخبر أن منزل أتاتورك الموجود في مدينة سيلانيك اليونانية تعرض لهجوم، مما فجّر موجة غضب وأعمال عنف ضد الأقليات في إسطنبول، فهوجمت منازل ودور عبادة ومحالّ تجارية ومعامل لغير المسلمين في إسطنبول، خصوصاً المسيحيين الروم منهم، وسبّبت هذه الليلة الدموية مقتل 15 شخصاً وحركة نزوح كبيرة للأقليات غير المسلمة من تركيا.

نجاة مندريس من تحطم طائرته

قبل العملية الانقلابية وخلال الصراع الداخلي المحتدم في الداخل التركي حول مسألة التضخم والمشكلات السياسية التي سبقت الانقلاب، توجه مندريس نحو لندن لمناقشة الاتفاق المتعلق بمسألة قبرص. في ذلك اليوم، وبسبب الضباب الكثيف في مطار هيثرو، طُلب من جميع الطائرات التوجه جنوباً والهبوط في مطار غاتويك، إلا أنه، بسبب مشكلات في الرؤية وعدم التواصل مع برج الاتصال، فقد الطاقم السيطرة على الطائرة وهبطت في الغابة. توفي في الحادث 14 شخصاً من بينهم وزير السياحة ونواب ومديرون عامون وصحافيون وطاقم الطائرة، إلا أن رئيس الحكومة مندريس نجا من الحادث بإصابات خفيفة، ونقل إلى العلاج في لندن، بالرغم من أن هذا الحادث المأساوي كان سبباً في تحسن علاقة مندريس مع المعارضة، وأعاد شد عصب ناخبيه، الذين نزلوا بالآلاف إلى الشارع لرؤية رئيس الوزراء عند عودته، إلا أنه لم يشفع له بوقف الانقلاب.

الأيام الأخيرة لمندريس

في 27 أيار/مايو 1960 توصلت مجموعة من الضباط إلى قناعة بأنه لا يمكن إزاحة مندريس من خلال الانتخابات، لذلك انقلبوا ضد الحكومة، وأسقطوا مندريس وجلال بيار، وتم تحويل نواب الحزب الديمقراطي وقياداته إلى المحاكمة.

انقلاب الجنرال جمال جورسيل على حكومة مندرس في 28 أيار/ مايو عام 1960(Getty).
انقلاب الجنرال جمال غورسيل على حكومة مندريس في 28 أيار/مايو عام 1960(Getty)

كان أدهم صديق طفولة عدنان مندريس آخر شخص يلتقيه قبل إعدامه وخلال حديثهما، قال مندريس: "السياسة دمرت حياتنا. لقد حاولنا خدمة هذا البلد، ولكن انظر إلى الحالة التي وصلنا إليها، أقسم بأنني عندما أخرج من هنا سأذهب للقرية وأجلس تحت أوراق الأشجار ولن أتحرك من مكاني".

على اليمين ادهم مندرس(صديق طفولة عدنان) في الوسط عدنان مندرس، وعلى يسار الصورة العقيد طارق غورياي.
عدنان مندريس في يومه الأخير قبل إعدامه.على يمين الصورة أدهم مندريس (صديق طفولة عدنان) في الوسط عدنان مندريس، وعلى يسار الصورة العقيد طارق غورياي.

لم يكن مندريس يعرف أن هذا سيكون حواره الأخير، فقد أخرج من مكانه يوم 17 أيلول/سبتمبر 1961، ونفذ فيه حكم الإعدام بتهمة قلب النظام العلماني وتأسيس دولة دينية. جلب له شيخ دين وطلب مندريس أن يجلسا معاً، ولم يوافق على طلبه فكتب كلمته الأخيرة: "وأنا أودع الحياة الآن أتمنى لدولتي ولشعبي السعادة الأبدية".
وعندما علق على حبل المشنقة قال: "لست غاضباً أبداً، ولا أحس بأي ضيق". أعيد الاعتبار إليه مندريس عام 1990 بقرار من الرئيس تورغوت أوزال، وحولت الجزيرة التي حوكم فيها إلى متحف (الحرية والديمقراطية) عام 2020.

المساهمون