يتوضح الصراع في تونس وتتطور الأحداث مع الأيام، وأصبح يتلخص في الدستور، أي أن تكون مع الدستور أو ضده، مدافعاً عنه على هناته ومشاكله، أو ضده وضد أحكامه، تتلاعب بها وتدوس عليها وتنسف كل حصيلة سنواته السبع منذ أقر في 2014. شكّلت حادثة حرق نسخ من الدستور التونسي وتمزيقه يوم السبت من بعض أنصار الرئيس قيس سعيّد حدثاً بارزاً، على الرغم من أنها كانت مجموعة صغيرة من أفراد متفرقين.
وبقطع النظر عن دوافعهم وأهدافهم من ذلك، فإن الحادثة لخّصت عمق الصراع التونسي، ليس على المستوى السياسي والحزبي والقانوني فحسب، وإنما أيضاً على مستوى المواطنين. فالمتظاهرون أمس الأحد من رافضي الانقلاب، جاؤوا إلى قلب العاصمة التونسية رافعين نسخاً للدستور وكأنهم يحملون بين أيديهم جوهر هذا الصراع الخطير الذي تعيشه تونس، وفهموا أن كل هذا الوضع سببه التفريط في الدستور والتلاعب السياسي ببعض أحكامه من أحزاب سياسية حكمت على مدى السنوات الماضية واستهترت بشروطه ومقتضياته ولم تعبأ بما فرضه الدستور نفسه، استكمال المؤسسات الدستورية وعلى رأسها المحكمة الدستورية خلال عام من صدوره. ولكن هذه الأحزاب أوّلت الدستور وسمحت لأنفسها بتمطيط الآجال ودخلت الحسابات السياسية على خط انتخاب أعضاء المحكمة، واعترضت الأحزاب على أسماء بيّنت الأحداث اليوم أنها من أشد المدافعين عن الدستور وعن الديمقراطية.
اليوم يندم كثيرون على ذلك حيث لم يعد ينفع الندم، ولكن التونسيين، مواطنين ومنظمات وطنية وأحزاباً وشخصيات وحقوقيين، تجنّدوا للدفاع عن دستورهم الذي قضوا سنوات في خياطته خيطاً خيطاً وتصارعوا على كل كلمة ومعنى فيه، وتوصلوا فيه إلى توازنات في ما بينهم تأخذ بعين الاعتبار خلافاتهم الفكرية والأيديولوجية والسياسية، ولذلك فهو اليوم يستعصي على الانقلاب عليه. وحيثما حاولت أن تهرب من فصل أو حاولت أن تؤوّل بالقوة بعض معانيه، وجدت نفسك بالضرورة خارج الدستور وخارج الشرعية، لا يمكن لك أن تفرض نفسك وإرادتك عليه ولا تفتح أقفاله إلا إذا اجتمع الجميع على فتحها، ولذلك انتفض الجميع ضد فكرة أن يتولى سعيّد وحده تعيين لجنة تتولى بحث هذه التغييرات. فبأي حق وبأي تفويض؟ وكأنما لا يدرك أنه إذا فتح الباب لذلك فسيكون لنا دستور جديد مع كل رئيس جديد. حول هذه المحاور يتلخص الصراع التونسي اليوم، ويمضي التونسيون إلى ذلك منفردين، في ظل صمت دولي غريب ومريب، عدا دعوة أممية باهتة للحوار ودعوة أميركية لتشكيل حكومة، وهذا أحسن وأصح للتاريخ حتى يكون الصراع وطنياً والحل كذلك.