رهان أميركي على حرب محدودة زمانياً في غزة

رهان أميركي على حرب محدودة زمانياً في غزة

06 ديسمبر 2023
بلينكن ونتنياهو، القدس المحتلة، مايو 2021 (فرانس برس)
+ الخط -

بات واضحاً أن هناك نقاط خلاف واتفاق بين الولايات المتحدة وإسرائيل حول الحرب على غزة. وكانت زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الأخيرة إلى تل أبيب محطة أساسية، وتلاها تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن "خلافات مع أصدقائنا الأميركيين".

وقبل ذلك، نقل موقع "أكسيوس" أن الرئيس الأميركي جو بايدن أبلغ رئيس الوزراء الإسرائيلي عن قلقه بشأن عملية عسكرية إسرائيلية محتملة في جنوب قطاع غزة، وأن عملية إسرائيل العسكرية في شمال القطاع لا يمكن تكرارها. وقال الموقع إن نتنياهو وافق على طلب بايدن إجراء نقاش أميركي إسرائيلي قبل أي هجوم.

جاء ذلك في 26 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، في نهاية المرحلة الأولى من الهدنة التي دامت أربعة أيام، وقبل الانتقال إلى مرحلة الهدن بالتقسيط، على يومين، ومن ثم يوم، بانتظار حصول نقلة نوعية بعد الانتهاء من عمليات تبادل النساء والأطفال. لكن ذلك لم يتم، واستأنفت إسرائيل الحرب في أول شهر ديسمبر/كانون الأول الحالي.

حرب غزة تحرج إدارة بايدن

واضح أن الإدارة الأميركية محرجة من استمرار الحرب على نفس الوتيرة لأسباب عديدة، وتمارس ضغوطاً على تل أبيب من أجل عدم تكرار سيناريو الجولة الأولى السابقة للهدنة، والذي كشفت الصور أنه عبارة عن عملية انتقامية، دمّرت كل ما هو في طريقها من البشر والعمران، ولم تكن حرباً بالمعنى التقليدي، ولا الحديث.

وقد سبق لواشنطن أن نبّهت تل أبيب، خلال الجولة الأولى، إلى ضرورة مراعاة عدة معايير، أهمها ضرورة تخفيف الخسائر في صفوف المدنيين والبنى التحتية، وأرسلت مجموعة من الخبراء العسكريين، وأمدتها بأسلحة نوعية من أجل ذلك، لكن المسؤولين الإسرائيليين لم يأخذوا بالرأي الأميركي.

ومن أجل عدم عودة الحرب الإسرائيلية إلى نفس الموجة لتدمير ما بقي من قطاع غزة، أرسلت الولايات المتحدة وزير خارجيتها، الذي وصل إلى تل أبيب يوم 29 نوفمبر، وكان قد سبقه مدير وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إيه" وليام بيرنز، الذي أمضى أياماً عدة في الدوحة.

واشنطن ليست مع حرب مفتوحة أو تدميرية أو تهجيرية

الهدف الرئيسي من مهمة كل من بلينكن وبيرنز هو تخفيف الاندفاعة الإسرائيلية نحو الحرب، وخلق أجواء تسمح بالتوصل إلى مخارج للوضع تقود إلى تفاهمات سياسية وأمنية، يمكن أن تذهب إلى ما هو أبعد من الهدنات المؤقتة.

واللافت أن مجلس الحرب الاسرائيلي انعقد ظهر الخميس الماضي بحضور بلينكن. وهذا أمر له دلالة مهمة على مستوى إجراء تقييم للعملية العسكرية، بهدف استخلاص الدروس منها، ودراسة أبعاد استمرار الحرب، وما هي النتائج المترتبة عليها، وانعكاساتها على الجانب الأميركي.

وجاء ذلك في ظلّ محاولة واشنطن تحويل قضية تبادل الأسرى والرهائن إلى عملية سياسية، تنتج تفاهمات من أجل هدنة طويلة، ومن ثم وقف إطلاق نار، وبعد ذلك البحث في حلّ ليس حسب المواصفات والخطط الإسرائيلية لجهة تهجير قسم من أهل القطاع.

لم تبدُ واشنطن على نفس الدرجة من الحماسة للحرب التي كانت عليها ما بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وقد تراجع تأييدها تدريجياً، وتسرب أنها تعتبر أنّ إسرائيل تجاوزت حق الدفاع عن النفس، ولذا تحاول أن تبحث عن مخارج لتجنب استمرارها، أو تخفيف زخمها وتقييدها بجملة من الشروط.

3 لاءات أميركية في حرب غزة

وبدا من سلسلة التصريحات التي صدرت عن المسؤولين الأميركيين خلال أيام الهدنة أن الولايات المتحدة ليست أولاً مع حرب مفتوحة، كما يبدو من خلال خطط المسؤولين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين، الذين حددوا أكثر من مهلة للحرب، وهي في مجملها ذات مدى طويل، يبلغ السنة في بعض الأحيان.

ثانياً، لا توافق واشنطن على حرب تدميرية كما حصل في الجولة الأولى التي كشفت عن تدمير كامل للبيوت والمرافق العامة، إذ إن المناطق المستهدفة باتت غير قابلة للسكن، وتحتاج إلى تجريف تام، وإعادة بناء، وهذا يكلف وقتاً ومالاً.

ومن الناحية الثالثة، عبّرت الادارة الأميركية عن معارضتها لحرب تهجيرية، وبالتالي فإن استمرار القتال في الجنوب ضمن نفس السيناريو من شأنه أن يشرد أكثر من مليونين من أهل غزة، ويتركهم في العراء. ومن هنا لا توافق واشنطن على تدمير المساكن والبنى التحتية، وتشريد أكثر من مليونين في فصل الشتاء، فليس ممكناً من الناحية المنطقية قبول إسكان هذه الأعداد في مخيمات مؤقتة.

وعلى هذا، ظهر أن أكثر السيناريوهات ترجيحاً هو تقييد يد إسرائيل، وإلزامها بحرب محددة بزمن قصير جداً، وفي منطقة محددة، ومن أجل استهداف أهداف محددة، كأن يكون الوقت بين أسبوع و10 أيام، من أجل تدمير أنفاق أو اغتيال قيادات من حركة "حماس".

وتحدثت وسائل إعلام أميركية وإسرائيلية عن شروط عدة طرحها بلينكن، منها الالتزام بقوانين الحرب والقانون الدولي، عدم التهجير، وإبقاء معبر رفح مفتوحاً من أجل دخول المواد الأولية والوقود إلى القطاع.

تأمل واشنطن من تمديد الحرب أن يتمكن نتنياهو من تحقيق إنجاز عسكري يرضي التيار المتطرف في معسكره

وتتفق واشنطن وتل أبيب على أن تتنازل "حماس" عن السلطة في غزة، ويجرى نزع سلاحها ومغادرة آلاف من قادتها وعناصرها القطاع. وهذه الشروط التي يجرى تداولها في الأوساط الأميركية طرحت عام 2014، ورفضتها "حماس".

ويختلف الطرفان، الأميركي والإسرائيلي، حول مسألة عودة السلطة الفلسطينية إلى حكم قطاع غزة، فواشنطن ترى أن ذلك هو الحل، بينما ترفضه إسرائيل، وتصر على أن تكون المسؤولية الأمنية العليا للقطاع في يدها، سواء أكانت الإدارة فلسطينية أم عربية دولية.

إسرائيل تبدو مصرة على أنها لن تقبل وقف إطلاق نار دائماً، من دون أن تحقق جزءاً من أهدافها بالقضاء على "حماس"، وتأمل واشنطن من إعطاء رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو جولة جديدة أن يتمكن من تحقيق إنجاز عسكري يرضي التيار المتطرف في معسكره، وبالتالي تعاود الضغط عليه، كما حصل في المرة السابقة، من أجل هدنة جديدة. ولذلك زودته بأسلحة نوعية جديدة.

وأعلن البيت الأبيض، مساء اليوم الأول لاستئناف الجولة الثانية من الحرب في الأول من نوفمبر، أنه "لدينا كل التوقعات بحدوث هدنة أخرى في غزة، وعلى نفس الموجة". وجاء تصريح رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني ليؤكد أن المفاوضات مستمرة لإعادة الهدنة.

أسباب الإحراج الأميركي

السؤال المهم هو حول خلفيات التطور في الموقف الأميركي، الذي يحاول أن يضع شروطاً وضوابط على استمرار تأييد إسرائيل عسكرياً ومادياً تحت بند حق الدفاع عن النفس، وفي المقدمة، ضرورة حماية المدنيين في جنوب قطاع غزة.

هناك عدة أسباب، تداخلت مع بعضها، جعلت الإدارة الأميركية تخفف من تأييد الحرب المفتوحة في غزة، بعضها يختص بتطورات الحرب، وأداء إسرائيل، وأهدافها غير المعلنة، بالإضافة إلى عوامل أميركية داخلية، والمواقف الدولية والعربية، والرأي العام.

وقبل كل شيء، بات واضحاً أن واشنطن أدركت أن هناك تياراً في إسرائيل يعمل على التصعيد أبعد من حرب غزة، وهو يتمثل في زعماء المستوطنين الذين يشاركون في حكومة نتنياهو، خصوصاً وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش.

ويطمح هؤلاء إلى تفجير الوضع في الضفة الغربية، وجرّ الصراع ضد الفلسطينيين إلى داخل إسرائيل، والهدف تحويل حياة الفلسطينيين إلى بيئة طاردة، من خلال تجييش المستوطنين ضد الفلسطينيين. والمثال على ذلك توزيع السلاح على المستوطنين، خصوصاً بعد عملية القدس يوم الخميس الماضي، التي نفذها فدائيان من "حماس".

تحاول واشنطن من خلال بعض مراكز القوى داخل المؤسسة العسكرية الحد من جموح هذا التيار الشعبوي، وقد صدرت تصريحات أميركية رسمية تدين عنف المستوطنين، كما جاء في كلمة ممثلة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد خلال جلسة مجلس الأمن يوم الأربعاء الماضي.

وتعمد بلينكن أن يثير هذه المسألة أثناء وجوده في إسرائيل. وقالت الخارجية الأميركية إن الوزير الأميركي حثّ نتنياهو على اتخاذ خطوات فورية لمحاسبة المستوطنين الذين يعتدون على الفلسطينيين.

 

التفاعلات داخل الحزب الديمقراطي قد تعقد جهود إعادة انتخاب بايدن

وتدرك واشنطن أن زعماء المستوطنين يولون الوضع في الضفة الغربية أهمية أكبر منه في غزة، وهم يستغلون حرب غزة لفتح معركة توسيع الاستيطان، وتهجير الفلسطينيين. وكما هو ظاهر، فإن نتنياهو ليس في وارد الاختلاف مع هذا التيار الذي صار أقرب حلفائه.

المسألة الثانية التي لعبت دوراً في حثّ الإدارة الأميركية على البحث عن معالجات للموقف بعيداً عن تأييد إسرائيل غير المشروط هو التفاعلات داخل الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة، حيث أظهر استطلاع رأي أجرته وكالة "أسوشييتد برس" أن نسبة 50 في المائة من الديمقراطيين "لا يوافقون على الطريقة التي يتعامل بها الرئيس جو بايدن مع الصراع بين إسرائيل وحماس".

يمكن أن تؤدي الحرب إلى تعقيد جهود إعادة انتخاب بايدن، حيث يواجه الاضطرار إلى الموازنة بين فصائل في حزبه ذات وجهات نظر مختلفة للغاية حول الصراع. وبحسب الاستطلاع، تقول أغلبية الديمقراطيين الذين تقل أعمارهم عن 45 عاماً (65 في المائة) والديمقراطيين غير البيض (58 في المائة) إنهم لا يوافقون على تعامل بايدن مع الصراع.

وفي جميع الأحول، تبقى نقاط الاتفاق والاختلاف بين الطرفين متحركة، تتحكم مجريات الميدان في الجزء الأساسي منها. لكن الثابت هو أن التغطية الأميركية للحرب مشروطة، ومحددة في الزمن.  

المساهمون