حدّد الرئيس التونسي قيس سعيّد صلاحيات الحكومة في النظام السياسي الجديد بحبكة، ليجعل من رئيس الوزراء محدود الاختصاصات ومنفذاً لقراراته في نظام رئاسي مختلّ التوازنات، شرعه في دستوره الجديد الذي أقر في 26 يوليو/تموز الماضي، عقب استفتاء لم تتخط نسبة المشاركة فيه 30%.
وحشر سعيّد مهمة رئيس الحكومة في مربع ضيق، ليختزله في وظيفة مساعد لدى رئيس الجمهورية لتسيير السلطات التنفيذية.
فرئيس الوزراء في النظام السياسي الجديد، الذي وصفه خبراء القانون الدستوري، بـ"النظام الرئاسي مختلّ التوازن لصالح رئيس الجمهورية"، سيعمل على تنفيذ السياسات العامة والقرارات والخيارات التي يرسمها رئيس الدولة دون المشاركة في وضعها.
وأقر مشروع الدستور الجديد الذي جرى الاستفتاء عليه في 25 يوليو/تموز الماضي، تحويل النظام السياسي إلى نظام رئاسي مع صلاحيات أكبر للرئيس، وجاء ذلك في باب الوظيفة التنفيذية حيث نص الفصل الـ87 على أن رئيس الجمهورية يمارس السلطة التنفيذية بمساعدة رئيس حكومة، فيما ينص الفصل الـ100 على أن رئيس الجمهورية يضبط السياسة العامة للدولة ويحدد اختياراتها الأساسية.
سحب المبادرة التشريعية
وسحب سعيّد عبر مشروع الدستور الجديد من رئيس الحكومة اختصاص المبادرة التشريعية واقتراح مشاريع القوانين لتنفيذ سياسات الدولة كما كان في دستور 2014، ليمنح رئيس الجمهورية في الدستور الجديد هذا الاختصاص الحصري، مع أولوية النظر فيه ثم مكن البرلمان في مرحلة ثانية من المبادرة التشريعية.
وهذا يتناقض تماماً مع ما جاء في دستور 2014 الذي أرسى نظاماً برلمانياً معدلاً، حيث كان رئيس الجمهورية مختصا فقط بضبط السياسات العامة في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي بعد استشارة رئيس الحكومة، بينما كان رئيس الحكومة هو المخول الوحيد لضبط السياسات العامة للدولة وعلى تنفيذها بموجب الفصلين الـ77 والـ91.
وأتاح الفصل الـ101 من مشروع الدستور الجديد للرئيس تعيين رئيس الحكومة وباقي الوزراء. في حين نص دستور 2014 على تكليف رئيس حكومة من الحزب صاحب الأغلبية في البرلمان، كما جاء في الفصل الـ89.
ويخول مشروع الدستور الجديد السهر على تنفيذ التراتيب العامة لرئيس الجمهورية وحده بشكل حصري، بينما كانت هذه الصلاحية من مشمولات رئيس الحكومة في دستور 2014 طبقاً للفصل الـ94، فيما في مشروع الدستور الجديد تسهر الحكومة على تنفيذ السياسات العامة للدولة طبقاً لتوجهات الرئيس الذي أصبح بيده الجهاز التنفيذي.
نظام رئاسي صرف
وحول الموضوع، أوضحت أستاذة القانون الدستوري وخبيرة الشأن البرلماني، منى كريم الدريدي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنه "من مفارقات مشروع دستور 2022 أنه يؤسس لنظام سياسي لا يستجيب لا لمقومات النظام الرئاسي الصرف على المنوال الأميركي الذي تغيب فيه الحكومة حيث نتحدث عن مساعدين لرئيس الجمهورية، ولا وجود لمؤسسة رئاسة الحكومة بل نائب رئيس الجمهورية، كما لا يستجيب أيضاً لمقومات النظام البرلماني الذي تكون فيه الحكومة محور السلطة السياسية وفي علاقة تواصل هيكلي ووظيفي مع السلطة التشريعية".
وبينت كريم أنه "في دستور 2022 نجد جهازاً أطلق عليه الرئيس اسم حكومة خصص له 6 فصول فقط وهو دليل على ضعف هذه المؤسسة حتى من الناحية العددية، ويترأس هذا الجهاز رئيس حكومة ليس له من الرئاسة سوى الاسم وهو مجرد منفذ للتوجهات العامة التي يضبطها رئيس الدولة وحده وهو لا يرقى إلى منزلة المساعد".
وأردفت الأستاذة المحاضرة بكلية العلوم القانونية بتونس، أن "هذا الجهاز سيكون جهازاً تنفيذياً لما يمليه رئيس الجمهورية ويحدده من سياسات يضبطها بصفة أحادية ولا يشاركه رئيس الحكومة في رسم ووضع هذه السياسات والخيارات".
وبينت أن "رئيس الحكومة في مشروع الدستور الجديد يتم تعيينه من طرف رئيس الجمهورية، أي أنه يخضع لسلطة الرئيس المطلقة وليس بإمكانه الاستقالة هو وحكومته بطريقة اختيارية ووفق إرادته، بل عندما يصوت مجلس نواب الشعب على لائحة لوم، أو يقال من قبل الرئيس لأنه ينتمي إلى رئيس للجمهورية وتحت إمرته".
وأبدت كريم استغرابها "إطلاق تسمية رئيس حكومة عليه"، موضحة: "لأن رئيس الحكومة تسمية يتم اعتمادها في الأنظمة البرلمانية التي تقتضي شخصية تتولى مسؤولية التنفيذ وتحديد السياسة العامة للدولة واقتراح المبادرات والتشريعات".
وأكدت أن "هذه الحكومة منزوعة الصلاحيات، وهي جهاز لتنفيذ التعليمات ولا يمكن مقارنتها بما كان معمولاً به في دستور 2014، حيث تحتل الحكومة مكانة أساسية داخل الدولة باعتبار أنها تشارك الرئيس في بعض الاختصاصات، ولكن في غالبية الاختصاصات تحددها بمفردها وتنفذها عبر وسائلها"، مضيفة: "لكننا نقف عند نقيض ذلك تماماً في مشروع دستور 2022 وهو يذكرنا بما كان معمولاً به في دستور 1959 في بداية الاستقلال حيث خصص لها مكانة لا تتجاوز تنفيذ السياسة العامة للدولة ولكن كان يطلق عليها وزارة أولى ويشرف على تسييرها وزير أول".
وبينت أن "سعيّد وضع نظاماً سياسياً في مشروع دستوره يجمع بين مزايا النظام الرئاسي والنظام البرلماني في سياق وضع هذه المزايا لصالح الرئيس"، موضحة أننا "نجد رئيس الجمهورية يمارس مزايا الرئيس في النظام الرئاسي مع جمع مزايا رئيس الحكومة في نظام برلماني، بحيث جمع الاختصاصين معاً في حين لا مكانة تذكر لرئيس الحكومة".
وشددت كريم على أن "جهاز الحكومة المقبلة هو محاكاة لما هو معمول به الآن في الأمر الرئاسي 117 لسنة 2021 (الأمر المنظم للسلطات الذي علق العمل بأغلب فصول دستور 2014 ومكن الرئيس من التفرد بالسلطات)، حيث نرى أن رئيسة الحكومة نجلاء بودن هي مجرد منفذة لقرارات وتعليمات رئيس الجمهورية وهو ما سيواصل العمل به مع دخول دستور 2022 حيز النفاذ والتطبيق".
وفي 26 يوليو الماضي، أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، قبول مشروع الدّستور الجديد بعد نيله ثقة المصوّتين في الاستفتاء عليه بنسبة 94.60 بالمائة.
ورفضت عدة قوى سياسية تونسية نتائج الاستفتاء على غرار "جبهة الخلاص الوطني"، و"حركة النهضة"، "والحملة الوطنية لإسقاط الاستفتاء (ائتلاف لخمسة أحزاب يسارية)"، الدستور الجديد على اعتبار أن "75 بالمائة من الشعب لم يشارك في الاستفتاء عليه".
ويمثل الاستفتاء حلقة في سلسلة إجراءات استثنائية بدأ سعيّد فرضها في 25 يوليو 2021، منها إقالة الحكومة وتعيين أخرى، وحلّ مجلس القضاء والبرلمان، وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية، وتبكير الانتخابات البرلمانية إلى 17 ديسمبر/كانون الأول المقبل.