الأبعاد العسكرية لاستراتيجية الجيش الإسرائيلي بمفهوم الأمن القومي

09 سبتمبر 2016
وجوب توفر المعلومات لبلورة استراتيجية قومية أمنية(حازم بدر/فرانس برس)
+ الخط -
يحاول كتاب "استراتيجية الجيش الإسرائيلي في منظور الأمن القومي" الصادر، أخيراً، عن مركز أبحاث الأمن القومي، وضع رؤيا نقدية لوثيقة استراتيجية الجيش الإسرائيلي التي نشرها رئيس الأركان الحالي، الجنرال غادي أيزنكوت، من مختلف أبعاد هذه الوثيقة. 

وبعدما نشرت "العربي الجديد" في تقرير، أمس الخميس، الأبعاد السياسية والاستراتيجية لوثيقة أيزنكوت، خصوصاً في ما يتعلق بوجوب توضيح أهداف الحرب أو المواجهة العسكرية من قبل القيادة السياسية، يخصص الكتاب الذي وضعه عدد من الخبراء العسكريين ذوي الرتب العالية، الباب الثالث منه لمحاولة نقد وتوضيح الجوانب العسكرية المشتقة من وثيقة استراتيجية الجيش، خصوصاً المتعلق بتفعيل القوة العسكرية وأولوياتها. ويضاف إلى ذلك نوعية الأسلحة والجيوش التي يجب أن تتولى أهمية أو أولوية على غيرها، مع تحديد أيزنكوت بوجوب تفعيل كافة الأسلحة والأذرع: سلاح البرية، وسلاح الجو، وسلاح البحرية، وبطبيعة الحال الاستخبارات.

وفي هذا السياق، يخصص الجنرال احتياط، غرشون هكوهين مقالته للحديث عن أزمة سلاح البرية في الاستراتيجية الجديدة والناتجة عن التحولات والتغييرات في نمط الحرب الجديدة، ولا سيما في ظل اقتراح أيزنكوت لإعادة الاعتبار للقوات البرية، وفق العبرة الأميركية التي تقول، بحسب تجربة أفغانستان، إنه لا يمكن حسم المعركة أو الحرب من دون تدخل القوات البرية والتوغل في ميدان وعمق العدو. ويرى هكوهين أن هذا الدور يتطلب تحسين وتحديث أداء القوات البرية في المواجهات العسكرية، بعدما تغيرت ميادين القتال وتمكن العدو الحالي (حركة المقاومة الإسلامية حماس وحزب الله) من إبطال كثير من فاعلية الجيوش البرية. وتمكن "هذا العدو"، بفعل توزيع نقاط الثقل لقواتهما على مساحة واسعة من أرض لبنان وغزة، إذ لم يعد بمقدور توغل بري أن يحقق الهدف المنشود في ضرب "عرين" العدو وشل حركته أو إبطال قدرته الصاروخية على إطالة أمد المواجهة واستمرار ضرب العمق الإسرائيلي.

ويشير هكوهين في هذا السياق إلى أنه وبأخذ تجربتَي أفغانستان والعراق في الحسبان، بات واضحاً أن أي توغل بري من شأنه أن يضع القوات البرية تحت نيران العدو، وأن يورط القيادة السياسية مع الرأي العام، مما يعني اضطرار الجيش الإسرائيلي في بنائه للقوة الجديدة وتفعيلها أن يتجه نحو النموذج الأميركي لبناء وحدات خاصة وقوات كوماندوس لتنفيذ العمليات البرية. وإن كان من غير الممكن الاعتماد على القصف الجوي والقوات البرية لتحقيق حسم عسكري على الأرض، بنفس قدر إشكالية عدم قدرة الاحتلال الفعلي لميدان العدو وأرضه، تحقيق الهدف المنشود. وبالتالي فإنه يرى بوجوب إيجاد موازنة بين دور القوات البرية والخروج به من نمط الدور التقليدي، بحسب هكوهين.

أما في ما يتعلق بدور القوات الجوية، وفق وثيقة أيزنكوت، يقر قائد سلاح الجو السابق، الجنرال عيدو نحوشتان، في قراءته للوثيقة، بأهمية الأخيرة كونها تضع للمرة الأولى، منذ التصور الأولي لمفهوم الأمن القومي الذي وضعه رئيس حكومة إسرائيل الأول دافيد بن غوريون، تصوراً محدّثاً.

ويأخذ هذا الأخير بعين الاعتبار كافة التغييرات الاستراتيجية والإقليمية في ما يتعلق بقدرات وقوة مصادر التهديد، مثل غياب خطر الجيوش النظامية مقابل صعود خطر المنظمات شبه الدولانية التي تملك تنظيمات تقترب من الجيوش النظامية، والتغييرات في طبيعة ونسق الحروب في الواقع الجديد. وبالتالي، فإن إسرائيل تحتاج بفعل جملة هذه التهديدات إلى جانب "ضيق رقعتها" إلى قوة قادرة على المناورة والانتقال من ميدان قتال لآخر، وهذا ما يوفره سلاح الجو الإسرائيلي، ناهيك عن التفوق النسبي الواضح لهذا السلاح بفعل امتلاكه أفضل التكنولوجيا والتقنيات الحربية الحديثة والمتطورة، إضافة إلى "النوعية البشرية".

ويوضح نحوشتان أنه إلى جانب امتيازات سلاح الجو الإسرائيلي، وفي ظل تراجع وتآكل الجيوش التقليدية، فإن الخصوم اليوم (حماس وحزب الله) استثمروا بشكل خاص في منظومات دفاعية ومنظومات هجومية (الترسانة الصاروخية)، ما أسفر في العقد الأخير عملياً عن ارتفاع ملموس وجدي في التهديدات التقليدية بمجال الحرب الصاروخية. ويرى أيضاً أنه لا يمكن تفضيل القوة الجوية على المناورة البرية.





ويشير إلى ضرورة تحقيق توازن بين القوتين، وإن كانت وثيقة أيزنكوت، ترجح بحسب قراءته إعادة الاعتبار للمناورات البرية، مع كل ما يترتب على ذلك من إشكاليات الخطط اللوجستية، والاعتبارات التي يجب على المستوى السياسي أخذها بالحسبان. ومن تلك الاعتبارات؛ طول المعركة، وتعقيداتها العسكرية، والثمن المتوقع من خلال سقوط عدد كبير من القتلى في المعارك البرية، والخشية من التورط ميدانياً، وحساب حجم الضغوط الدولية المتوقعة، وتأثيرات ذلك على الاقتصاد الإسرائيلي. ويضاف إلى ذلك فترات التدريب اللازمة لإعداد القوات وتحريكها ونقلها من ميدان لآخر.

ويدفع هذا بالجنرال نحوشتان إلى التحديد بأن ما ورد في وثيقة أيزنكوت: "مناورة برية فورية وسريعة وفتاكة ومرنة يمكن تحريكها من ميدان لآخر ومن جبهة لأخرى" لا يأخذ بالحسبان عملياً قدرات ومميزات القوة الجوية. ويخلص إلى القول إنه وفي أي عقيدة جديدة للأمن القومي الإسرائيلي يجب إفساح دور مهم لسلاح الجو والقوة الجوية، باعتبارها تفي بالضرورات الأمنية والدفاعية من حيث السرعة والقدرة على المناورة والتفوق العسكري الذي يميزها، وإنه كان ينبغي لوثيقة أيزنكوت أن تبرز هذا الأمر، خصوصاً وجوب ضمان التفوق الجوي الإسرائيلي.

أما على صعيد سلاح البحرية، فإن قائد سلاح البحرية السباق، الجنرال أليعيزر مروم، يركز في مقالته حول دورها على وجوب بقائها جاهزة، بفعل الطبيعة الجغرافية لإسرائيل وموقعها، لضمان استمرار تدفق الحياة الاقتصادية عبر الأمن الساحلي، وحرية الملاحة الإسرائيلية، وحرية وصول البضائع إلى إسرائيل وخروجها منها، خصوصاً في ظل تكرس نمط الحروب الطويلة، بالنظر إلى طول حرب تموز 2006 على لبنان، وطول الحرب الأخيرة على غزة عام 2014.

ويشير مروم إلى أن مهمات سلاح البحرية تطورت في السنوات الأخيرة لتشمل ليس الدفاع عن المياه الإقليمية لإسرائيل فحسب، وإنما أيضاً المياه الاقتصادية والمواقع والمنشآت الاستراتيجية، في إشارة لحقول الغاز الطبيعي، وحمايتها من استهدافها من قبل جهات معادية، وفق سيناريوهات إسرائيلية توقعت محاولات لقصف منصات استخراج الغاز. كما يرى مروم أن الواقع الجديد وتطور أنماط المواجهة العسكرية تلزم البحرية الإسرائيلية ضمان جاهزية لتنفيذ عمليات سرية في عمق العدو.

البعد الأخير في الجانب العسكري لوثيقة أيزنكوت يتعلق بدور وموقع الاستخبارات في استراتيجية الجيش الإسرائيلي. في هذا السياق، يرى دافيد بار سيمان طوف، في مقالته لدور أجهزة الاستخبارات أنّ عليها، في ظل الأهمية التي توليها وثيقة أيزنكوت لها، أن تضمن تحقيق ثلاثة مبادئ أساسية: الأول، المحافظة على التفوق الاستخباراتي، بحيث تتمكن من تقديم التحذيرات اللازمة والكافية بشأن نوايا العدو وقدراته، سواء كان دولة أو منظمة عسكرية، أو منظمات شبه دولانية، أو منظمات إرهابية. المبدأ الثاني هو تشخيص ورصد تحولات على الصعيد الاستراتيجي والتكتيكي والعملياتي. والمبدأ الثالث يكمن في الحصول على المعلومات التي تمكن التخطيط لعمليات تنزل ضرراً فعالاً بالعدو.

وعلى المستوى القومي، فإن على أجهزة الاستخبارات أن توفر المعلومات اللازمة لبلورة استراتيجية قومية أمنية، ووضع سيناريوهات تحدد موازين القوى وكيفية بناء القوة العسكرية، وتمكين الجيش من استغلال الموارد المتوفرة له بأفضل درجة ممكنة وفقاً لمختلف التطورات. إذاً على جهاز الاستخبارات، وفقاً لدافيد، تشخيص التحولات الكبيرة، بما يتيح تغيير سلم الأولويات وسلم توزيع الموارد وتخصيصها في مجمل مبنى القوة الإسرائيلية، حتى لا تذهب موارد كبيرة هباء. أما على مستوى الاستخبارات العملياتي، يفترض أن يوفر المعلومات الدقيقة اللازمة للتخطيط للعمليات الميدانية، وتحديد الأهداف الواجب ضربها وإبادتها تبعاً لدرجة خطورتها على الأمن الإسرائيلي.

وأخيراً، فإن التغييرات الإقليمية في المنطقة العربية، وتداعيات انهيارات الأنظمة والدول وكثرة الجماعات المسلحة، مع التطورات المرافقة في شبكات التواصل الاجتماعي، تلزم البحث عن سبل تمكن أجهزة الاستخبارات من قراءة وفهم التطورات المتسارعة المحيطة بإسرائيل وتداعيات هذه التطورات، كحركة تدفق اللاجئين السوريين، أو اقتراب منظمات جهادية من الحدود، وتأثيرها المحتمل على الأمن الإسرائيلي.