- دراسات من مركز دراسة الأمن القومي ومعهد دراسات إسرائيلي تشير إلى أن الحل العسكري وحده غير كافٍ لحل الأزمة مع غزة، مؤكدة على ضرورة اتخاذ قرارات شجاعة وتصميم نظام إقليمي جديد.
- الهجوم الإيراني الأخير يبرز فشل العقيدة الأمنية الإسرائيلية ويعزز المخاوف من حرب إقليمية شاملة، مع تفضيل إسرائيل للحلول العسكرية وتجنب النقاش حول الحلول السياسية.
تعالت في الأسابيع الأخيرة أصوات عديدة داخل إسرائيل تتساءل عن النصر الموعود في غزة، وعن تدمير قدرات حركة حماس وإعادة الأسرى. كما عادت التصدعات السياسية إلى الواجهة مع تصاعد التظاهرات الاحتجاجية المطالبة بإعادة الأسرى، وتقديم موعد الانتخابات البرلمانية.
إسرائيل عالقة في أزمة الوضع الراهن. فمن جهة لا تستطيع التراجع عما بلغته في غزة، ومن جهة أخرى هناك معوقات أمام التقدّم في حرب الإبادة. كل هذا في ظل الجمود في ملف المفاوضات لتبادل الأسرى. والحكومة الإسرائيلية بتركيبتها وعقليتها الحالية، عاجزة عن نقاش أي إمكانية لحلول ومخارج سياسية. في ظل هذه الأوضاع لم يكن لدى الحكومة الإسرائيلية ولا أمام المؤسسة العسكرية العديد من الخيارات لاستمرار حرب الإبادة على غزة، سوى المزيد مما قامت به لغاية الآن من قتل وتدمير، والتهديد باجتياح بري لرفح، وربما فتح جبهات أخرى.
الحل العسكري غير كافٍ
مركز دراسة الأمن القومي في جامعة تل أبيب نشر بتاريخ 12 إبريل/نيسان الحالي دراسة بعنوان "اليوم التالي: تطور الحملة العسكرية يتطلب قرارات شجاعة"، اقترح فيها سيناريوهات لتصرف إسرائيل وتعاملها مع الحرب على غزة، خصوصاً مع اليوم التالي. رئيس المركز الجنرال احتياط تامير هايمان، وهو رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية سابقاً، وعضو في لجنة استشارية لوزير الأمن يوآف غالانت منذ بداية الحرب على غزة، كتب في مقدمة الدراسة: "بعد مرور نصف عام منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وعلى الرغم من تحقيق إنجازات عملياتية كبيرة في ساحة المعركة في قطاع غزة، إلا أنه لم يتم حتى الآن تحقيق أي من أهداف الحرب بشكل كامل". وتابع: "الحرب ضد حماس بدأت تتراجع، كما كان متوقعاً في هذه المرحلة، وحتى عملية رفح لن تغيّر هذا الاتجاه جذرياً. هذا التراجع يمكن أن يؤدي إلى خلط الأوراق، وسيصاحبه إحباط وخيبة أمل. لكن من ناحية أخرى، قد يوفر هذا الوضع فرصاً من شأنها تحسين الوضع الأمني لإسرائيل مع مرور الوقت".
معهد دراسات إسرائيلي: الانزلاق إلى حرب استنزاف طويلة، سيقلل من فرصة عودة الرهائن الإسرائيليين وفرصة استبدال حكم حماس
وادعت الورقة أن "المسار الحالي الذي تسير فيه إسرائيل يؤدي إلى إلحاق ضرر بمناعة إسرائيل ومكانتها، ومخاطر كبيرة وعديدة". المعضلة الاستراتيجية التي تعرّفها الوثيقة هي "أن الانزلاق إلى حرب استنزاف طويلة وجامدة، سيقلل من فرصة عودة الرهائن الإسرائيليين وفرصة استبدال حكم حماس في قطاع غزة، ويعرّض أيضاً العلاقة الخاصة مع الولايات المتحدة للضرر، ويقوّض أمن حدود إسرائيل، ويؤدي إلى عزلة إسرائيل على الساحة الإقليمية والدولية".
من الخطوات المقترحة للتعامل مع الأزمة الاستراتيجية التي اقترحها المعهد: تصميم نظام إقليمي موازٍ لمحور المقاومة الذي تقوده إيران، ليشكّل بنية تحتية لاندماج إسرائيل في المنطقة؛ خلق أفق سياسي على الساحة الفلسطينية، مما قد يؤدي، مع مرور الوقت، إلى تخفيف حدة الصراع. وعرضت الورقة حدة الأزمة الاستراتيجية الإسرائيلية التي انتجتها عملية طوفان الأقصى، وليس فقط على المستوى العسكري والأمني، إنما أيضاً في المحور السياسي والدبلوماسي، وصورة إسرائيل في الساحة الدولية. وتقترح مخارج لا تتعامل أو ترتكز فقط على الجانب الأمني العسكري، بل تقول بوضوح إن الحل العسكري وحده غير كافٍ، ويجب أن يترافق مع حل أو تصور سياسي واضح.
فقط بعد مرور نحو سبعة أشهر على بداية الحرب على غزة، بدأت أصوات في إسرائيل تدعي أن لا حل عسكرياً في غزة من دون مرافقته بحل سياسي أو خطط سياسية، وأن الاستمرار بالنهج نفسه يمكن أن يزيد من أزمات إسرائيل وورطاتها. بل إن عدداً من المحللين يدّعون أن إسرائيل قد خسرت فعلاً الحرب على غزة. لكن على ما يبدو هذه الأصوات لم تؤثر لغاية الآن على صناعة القرار السياسي والأمني، وإسرائيل لم تغيّر من عقليتها وتصرفاتها.
بين حرب غزة واحتمالات حرب مع إيران
معهد دراسات الأمن القومي نشر الورقة قبل يومين من الهجوم الإيراني على إسرائيل (فجر الأحد الماضي)، الذي أوضح عمق أزمة العقيدة الأمنية الإسرائيلية. ويعزز الهجوم، من وجهة نظر إسرائيلية، تآكل قدرة الردع التي تحاول إسرائيل ترميمها منذ السابع من أكتوبر. على الرغم من الشعور بالإنجاز لدى الحكومة والجيش والمجتمع الإسرائيلي، بسبب إحباط وصول غالبية الطائرات المسيّرة والصواريخ الإيرانية، بمساعدة كبيرة من الجيش الأميركي وعدد من الدول الأوروبية والعربية، إلا أن العديد من التحليلات لم تقع في فخ ثمالة الانتصار والنشوة، بل تعاملت مع الحدث بحدة وخطورة لا تقل عن إخفاق السابع من أكتوبر، خصوصاً على البيئة الاستراتيجية الاسرائيلية.
المحلل العسكري آفي يسسخاروف، أوضح في مقال نشر على موقع واينت في 14 إبريل الحالي، إسقاطات العملية الإيرانية، وقال إن الهجوم كان بعكس القناعات التي سادت لدى صنّاع القرار في إسرائيل تجاه إيران لغاية الهجوم، كما فتّت السابع من أكتوبر القناعات السائدة تجاه "حماس" في غزة. وأضاف: "ما حدث يوضح عدم ردع التهديدات الإسرائيلية لإيران، ويثبت مدى فشل سياسة إسرائيل تجاه إيران في عهد (رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين) نتنياهو. عقيدة "سيد أمن" تحوّلت إلى فشل ذريع وعجز، وتجد إسرائيل نفسها عالقة بين الرد على الهجوم الإيراني أم لا. هنا تبدأ المشكلة فعلياً: هجوم إسرائيلي من شأنه أن يؤدي إلى رد فعل إيراني آخر، وقد يدخل حزب الله في نهاية المطاف إلى الحملة أيضاً. حينها نتحدث بالفعل عن حرب إقليمية شاملة ضد عدو يمتلك ترسانة من الأسلحة أكثر فتكاً من تلك التي تملكها حماس".
الهجوم الإيراني أوضح مرة أخرى مدى فشل أجهزة المخابرات الإسرائيلية، شعبة المخابرات العسكرية و"الموساد"، في توقع طبيعة الرد الإيراني، كما حصل في السابع من أكتوبر. وعلى الرغم من أن كافة القيادات الإيرانية، ومن ضمنها الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، صرحوا بأن الرد آتٍ لا محال، لكن إسرائيل التزمت بقوالب التفكير والتحليل القائمة، وكانت على قناعة أن إيران لن ترد أيضا هذه المرة، أو أن الرد سيكون متواضعاً.
أورن: الإخفاق الحالي جدي وكبير ويقع على مسؤولية نتنياهو الشخصية، بالإضافة إلى كافة أعضاء مجلس الحرب
المحلل في شؤون المخابرات أمير أورن كتب في صحيفة هآرتس بتاريخ 14 إبريل الحالي، أن الإخفاق الحالي جدي وكبير ويقع على مسؤولية نتنياهو الشخصية، بالإضافة إلى كافة أعضاء مجلس الحرب والقيادات العسكرية، وأن إسرائيل رجعت إلى أخطاء الماضي نفسها ولا تتعلم ولم تستخلص العبر. وانتقد قرار إسرائيل اغتيال القيادات العسكرية الإيرانية في سورية، قائلاً إن هذا "فشل شخصي لنتنياهو، يضاف إلى سلسلة إخفاقاته على مر السنين. ففي نهاية المطاف، لو كان قد اتخذ قراراً مختلفاً قبل أسبوعين وتحلى بالصبر، لما تعرّضت إسرائيل للهجوم الآن، بطريقة ترضي (زعيم حماس في غزة يحيى) السنوار الذي يشعر بالإحباط لأن خطته لوحدة الساحات لم تتحقق بعد. نتنياهو أضاف مشكلة جديدة لدولة متورطة في غزة ولبنان".
كما أوضح المحلل الإسرائيلي تسفي برئيل في صحيفة هآرتس (16 إبريل الحالي) أن "الغضب الإسرائيلي الهائل الذي تراكم منذ يوم السبت لا يتعلق فقط بالهجوم الإيراني، الذي تم إحباطه بنجاح، بل بسبب وقاحة الإيرانيين، خصوصاً بسبب الفشل الاستخباراتي المدوي، وخطأ إسرائيل في تقدير وتوقع الرد الإيراني بشكل صحيح". وأضاف أن عبثية المشهد تأتي من دعم المجتمع الإسرائيلي للقيام بضربة إسرائيلية لإيران، على الرغم من التجربة الحديثة في غزة وأن عملية الانتقام في غزة لم تحقق أهداف الحرب. وقال إن "الجمهور الذي يبدي استعداداً لابتلاع الإهانة ووقف الحرب في غزة من أجل تحرير المختطفين، لا يتردد، مرة أخرى، في شراء البضاعة من عميل الأكاذيب، الذي يدعي أن الانتقام من إيران هو الأمر الوحيد الذي يمكن أن يضمن أمن البلاد".
كذلك أوضح المحلل العسكري في "هآرتس" عاموس هارئيل (16 إبريل) عمق الأزمة الاستراتيجية الإسرائيلية بعد الهجوم الإيراني، إذ يتضح أن كافة الخيارات الإسرائيلية مُرّة، وعدم الرد يعني ضربة إضافية لقدرة الردع الإسرائيلية ونجاح الاستراتيجية الإيرانية وجائزة لـ"حماس"، بينما يمكن أن يؤدي رد إسرائيلي إلى حرب إقليمية، وهو ما لا تريده إسرائيل ولا الولايات المتحدة لغاية الآن.
التهرب من الأسئلة السياسية
بالتوازي مع الجمود في حرب غزة، إسرائيل غارقة لغاية الآن في ثمالة نجاح التصدي للهجوم الإيراني ومن الدعم الدولي لها، وهي تخاطر بأن يؤدي رد فعلها إلى تداعيات حاولت منعها منذ اندلاع الحرب على غزة، منها مواجهة مباشرة مع إيران، أو حرب واسعة في الشمال مع حزب الله، وتراجع أولوية الحرب على غزة. ربما تتشجع إسرائيل من مواقف الدول الغربية وبعض الدول العربية حيال الهجوم الإيراني، وتعتقد أن هذه المواقف ستدوم. فالذاكرة الإسرائيلية قصيرة منتقاة، إذ نسيت أن غالبية الدول الغربية وقفت إلى جانب إسرائيل بعد عملية طوفان الأقصى، لكنها عدّلت مواقفها وتصرفاتها في ضوء نتائج حرب الإبادة على غزة وقتل عشرات آلاف الفلسطينيين وتدمير غزة. وليس مستبعداً أن تغيّر الدول نفسها الداعمة الآن مواقفها في حال توسعت الحرب واندلعت مواجهة واسعة مع حزب الله أيضاً. وتوضح إسرائيل في كل مناسبة أن تصرفها في أي حرب مقبلة مع حزب الله لن يختلف عن تصرفها في غزة، بل ربما يكون أقصى، وأنها ستعيد لبنان إلى العصر الحجري، وأنها لن تفصل بين الأهداف العسكرية لحزب الله والأهداف المدنية.
غالبية الدول الغربية وقفت إلى جانب إسرائيل بعد عملية طوفان الأقصى، لكنها عدّلت مواقفها في ضوء نتائج حرب الإبادة على غزة
إذا كانت إسرائيل تلتزم الاستمرار بالتصرف نفسه، فلماذا تتوقع أن تكون النتيجة مختلفة؟ سؤال لم يُطرح في إسرائيل لغاية الآن. لكن ربما بعد مرور ستة أشهر من حرب جديدة سيبدأ الإعلام ومراكز الأبحاث بنشر أوراق بحثية ومقالات تدعي ألا جدوى من الحرب الجديدة، وألا حلول أمنية من دون حلول سياسية. طبعاً هذا لن يمنع وقوف كافة مراكز الأبحاث والمحللين إلى جانب الحرب الجديدة في بدايتها، تماماً كما فعلوا منذ بداية الحرب على غزة. وتبقى الأسئلة السياسية وأسباب وصول إسرائيل لما هي عليه الآن من دون أي جواب أو فحص، إذ تفضّل إسرائيل الحلول العسكرية وتتهرب من الأسئلة والحلول السياسية وأثمانها.