العرب‮ ‬يكتفون بالفيروس وليس بما بعده‮

24 مارس 2020
+ الخط -
فاجأت الخبيرة الأميركية‮ ‬آلانا شيخ‮، ‬العالم،‮ ‬بقسوة تصريحاتها، وهي‮ ‬تردّد‮ "‬فيروس كورونا هو مستقبل الإنسان‮"‬. ولعله أكبر تحول في‮ ‬بلاغة التوقع،‮ ‬كما هو تحول في‮ ‬استعارات التبشير‮. ‬فقد كنا‮، إلى وقت قريب،‮ ‬نسمع سيمون دو بوفوار تقول لنا‮: المرأة مستقبل الإنسان.‮ ‬أو الرفيق فيديل‮ كاسترو‮ ‬يصيح: إن‮ الاشتراكية هي‮ ‬مستقبل ‬البشرية‮. ‬أندريه‮ ‬مالرو، وزير الثقافة الفرنسي في‮ ‬عهد الجنرال ديغول،‮ ‬كان قد تنبأ بغير قليل من الصواب بأن‮ ‬القرن الواحد والعشرين سيكون دينيا أو لا‮ ‬يكون.‬
ومنذ سبعينيات القرن الماضي‮، نحن ننتظر أن تتحقق نبوءة‮/ ‬كتاب آلان بيريفت "عندما تستيقظ الصين سيهتز العالم‮"‬‮ ‬التي‮ ‬يقال إنه اقتبسها من نابليون الأول،‮ ‬حتى تحققت بالفعل‮‬،‮ ‬قبل كورونا ومعه وبعده‮.‬
ربطت الخبيرة بين مستقبل الوجود الإنساني‮ ‬وكورونا‮. ‬كيف‮ ‬نفهم ذلك‮؟ ‬لقد تم تفسير كلامها أنه‮ ‬تغيّر مرتقب‮ ‬في‮ ‬الجيواستراتيجيا،‮ ‬كما في‮ ‬علاقة الإنسان مع عالمه‮ ‬غدا،‮ ‬سواء‮ ‬في‮ ‬التجوال أو المناخ أو السلوك العام أو البيئة أو الهشاشات المتعددة‮‬،‮ ‬وكذا العلاقة مع الحضارة المستقبلية‮.‬ وهنا‮ ‬يتساءل العالم عمّا بعد الفيروس، وكيفية‮ ‬قلب الأولويات رأسا على عقب،‮ ‬وتغيير منظومة القرار في‮ ‬العالم‮.‬ هل‮ ‬يحق للدول في‮ ‬شرق المتوسط وغربه‮، ‬أو‬ بالأحرى هل يقيض لها‮، أن تطرح الأسئلة ذاتها،‮ ‬من قبيل‮ ‬التحول الجيواستراتيجي‮ ‬بعد‮ ‬الفيروس،‮ ‬ومنظومة القيم الدولية اقتصاديا وسياسيا في‮ ‬العالم بعده، وتركيبة القرار الداخلي‮،‮ ‬إلى‮ ‬غير ذلك من الأسئلة ذات الصلة بأولويات المجتمعات؟
قبل الإجابة،‮ ‬لا بد من أن نسرد ولو قليلا مما‮ ‬يشغل العالم اليوم، أول ما‮ ‬يشغل الناس،‮ ‬هو ما 
أطلق عليه المستشار الخاص للدولة الفرنسية،‮ سفيرها السابق لدى الأمم المتحدة‮ ‬وفي‮ ‬موسكو وبروكسل‮ "‬جيو- استراتيجية الجائحة‮". ‬والتفكير‮ ‬يذهب بلا مواربة إلى التأثير‮ المتوقع لتدبير الوباء على السياسة الدولية،‮ ‬بمعناها المفرد، لا بصيغة سياسات دولية متفرقة‮، ‬باعتبار أن الفيروس هو دليل حي ‮-‬ ميت على مميزات العالم‮ ‬الراهن،‮ ‬ثم الذي‮ ‬سيولد‮.‬ ميزات منها ‬انتقال مركز التوازن إلى الصين وآسيا،‮ ‬ثم أفول الولايات المتحدة،‮ ‬مع بقاء جزء من ملامح قوتها وسعيها إلى الحفاظ عليها،‮ ‬ثم أخيرا ضعف الحكامة الشاملة، لا سيما في‮ ‬مجال الصحة‮.
الصين،‮ ‬في‮ ‬اللعبة الاستراتيجية المرافقة للفيروس،‮ ‬تخرج منتصرة، وقوة إنقاذ بالنسبة لدول عديدة، منها أوروبية،‮ ‬في‮ ‬وقت تبين، أميركيا، أن الرئيس دونالد ترامب أظهر عجزا مهولا في‮ ‬التدبير، وفي‮ ‬القدرة على تجاوز المحنة،‮ ‬اللهم من تصريحات سجالية ذات نفس مخابراتي‮‬،‮ ‬لم تستطع أن تقنع العالم بأن أميركا قادرة على إنقاذه‮، ‬أو مهتمة أصلا بذلك‮.‬
على مستوى آخر،‮ ‬تكرس الصراع بين النماذج السياسية علميا،‮‬ صراعا بين سلطوية ناجعة وشعبوية معبأة وليبرالية موضع تساؤل‮. بمعنى آخر‮، ‬يرى‮ ‬الدبلوماسي الفرنسي، ميشيل ديكلو‮‮، ‬أن هناك تلازما،‮ ‬بل تزاوجا، بين التنافس الدولي‮ ‬وصراع النماذج المطروحة للعرض والطلب 
في‮ ‬الفضاء العالمي‮ ‬العام‮.
بالنسبة لدول‮ ‬الشرق والغرب المتوسطيين،‮ ‬يمكن‮،‮ ‬بلا مجهود كبير،‮ أن نخمّن أن الدول تعيش اختبار‮ ‬نموذجها أو نمط الحكم لديها من خلال تدبير الفيروس،‮ ‬من دون أن تكون لها خصائص النقاش العام الحالي‮، وهي‮ ‬إما رهينة التنافس الدولي، أو ‬غريبة سياسياً عن النقاش العقلاني‮ ‬للنماذج المطروحة‮. ‬بمعنى‮ ‬أن الدول‮ ‬إما تعيش في‮ ‬حروب ما قبل التحول في‮ ‬اللعبة،‮ ‬القائمة الآن،‮ أو أنها تختار،‮ ‬عكس الصين وروسيا،‮ ‬السلطوية‮ ‬غير المنتجة للمواقع الجيواستراتيجية،‮ ‬بل تابعة بالمطلق لتحولات تجرّها جراً إلى رقعةٍ لا تأثير لها فيها،‮ ‬أو أنها تحتمي‮ ‬باستبداد عقيم (إن كان هناك استبداد خصب‮!) ‬سيفوت عليها أيضاً ثمرات المرحلة المقبلة.
أرادت دول بكاملها أن تبحث عن ريادة أميركية نموذجية للوجود الذاتي، تحتمي‮ ‬تحت مظلتها‮ ‬فلم تربح،‮ ‬مع ما برز من ضعف أميركي‮ ‬في‮ التنافس مع الغريم الصيني‮ ‬أو الآسيوي،‮ ‬على الرغم من أنها أقرب إلى المركز الجديد في‮ ‬الاستراتيجية‮ ‬الدولية،‮ ‬باعتبار العيش في‮ القارة نفسها،‮ ‬آسيا‮. كما أن النماذج السلطوية العربية رثة للغاية،‮ ‬وتكاد تكون باهتة، اللهم من لون الدم الذي‮ ‬تحيط به نفسها،‮ ‬بدون القدرة على إقناع مثيلاتها في‮ العالم، المبنية على نجاعة وطنية ما، ‮
‬قادرة على مواجهة التحولات العصية للعبة الدولية‮.‬
‮‬لقد طرحت المحنة الدولية أولويات جديدة،‮ ‬على مستوى تنظيم المجتمع الدولي،‮ ‬والمحلي. وفي‮ ‬هذا‮ ‬يقول جاك أتالي، ‬الذي‮ ‬كان مستشارا للرئيس الفرنسي‮ ‬السابق فرانسوا ميتران "سنرى ميلاد شرعية جديدة للسلطة،‮ ‬لن تكون قائمة لا على المعتقد ولا على القوة ولا على العقل‮، ‬فالسلطة السياسية ستكون لمن‮ ‬يحسنون إظهار أكبر قدر من التضامن مع الآخرين".
وإذا تجولنا بنظرنا في‮ ‬الخريطة العربية سنرى أن دول المعتقد مهدّدة بالتراجع إن لم نقل الانتفاء، بعد أن اختبرته في‮ ‬الجائحة‮،‮ ‬واختبرت مدى قدرته على مواجهتها. ودول القوة ستمتحن انتحارا سياسيا مختلفا بدوره. أما العقل، فالدول التي‮ ‬عوضته بالمال وحده،‮ ‬فقد‮ ‬غاب منذ زمان في‮ تدبيرها السياسي‮، ‬اللهم في‮ ‬ما ندر‮.
768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.