تقرير أردني: حال البلاد ليس كما يجب

تقرير أردني: حال البلاد ليس كما يجب

22 فبراير 2020
+ الخط -
صدر قبل أسابيع في عمّان التقرير السنوي للمجلس الاقتصادي الاجتماعي الأردني بعنوان "حالة البلاد 2019"، في أزيد من ألف صفحة، مُعزّزاً بالبيانات والجداول، مع تغطية واسعة لشتى الحقول الأساسية والقطاعات الحيوية للدولة والحكومة، وفي سائر مجالات الحياة المدنية، ضمن ثمانية محاور رئيسية. وهذا الإصدار هو الثاني من نوعه، بعد التقرير الذي تناول حال البلاد في العام 2018. وقد أثار التقرير الجديد أصداء إعلامية مهمة، نظرا للمعالجة النقدية التي اتسم بها، ولمنطلقاته الفكرية الواضحة المستندة إلى قيم التحديث والديمقراطية والعدالة الشاملة والمواطنة والهوية الوطنية المركبة الجامعة، والالتزام بالدستور والسعي إلى تطويره. 
وكما هو الحال في التقارير غير السنوية التي دأب على إصدارها، فإن المجلس نجح في التقرير الواسع الجديد باعتماد لغة تحليلية موجزة ودقيقة، موثقة بالنماذج والأدلة، وتنأى عن الخطاب الإنشائي الذي تتسم به الخطابات الحكومية ووسائل الإعلام التقليدية (بدأ أخيرا بعض الانفكاك عنها)، وبيانات الأحزاب والهيئات الاجتماعية وغالبية ما تزخر به المنابر والقاعات في العاصمة وخارجها، بل يُسائل التقرير بعض المصطلحات الرائجة التي يتم تداولها، باعتبارها بدهيات مثل "المصلحة الوطنية"، إذ تشير مقدمة التقرير إلى غياب فهم موحد لهذه المصلحة، وإلى أن الوصول إلى هذا الفهم تقتضيه شروط أساسية: تحقيق التنمية السياسية، والحد من "أمننة" الحياة العامة، ونشوء مجتمع ديمقراطي يستند إلى المواطنة وتكافؤ الفرص واحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون.
ويعرض التقرير، في مجمله، صورة غير وردية عن الوضع في سائر الميادين، مع التنويه إلى 
تحقيق قدر من الإنجازات الملموسة. وخلافاً لما تبْرع به مؤسساتٌ حكوميةٌ وشبه حكومية، وحتى مؤسسات القطاع الخاص، فقد عُني التقرير، بالدرجة الأولى، في تعيين أوجه القصور واستكشاف أسبابها ومقدماتها، مع وضع تصوّرات للتشبيك (الربط) بين خطط الوزارات والمؤسسات التي تؤدي مهامّ مشتركة ما بينها، والخلوص إلى توصياتٍ واقعيةٍ قابلة للتنفيذ لإصلاح أوجه الخلل، ولضمان الاقتراب من تنفيذ الخطط وتحقيق الأهداف المرسومة لكل مؤسسة وقطاع. وينهض المجلس في ذلك بدور رقابي (على غرار ديوان المحاسبة، وبمهام اوسع وأشمل)، وبما ينطوي عليه ذلك من توسيع لمهام المجلس البحثية والاستشارية.
وفي تحديد مكمن القصور العام، يستعيد تقرير 2019 ما ورد في التقرير عن العام السابق، عن ضعف مؤسسات الدولة، وعدم قدرتها على تحقيق أهدافها المعلَنة، وإلى أن "الخطوة الأولى تكمن في التمكين المعرفي لحلقات الإدارة العليا والوسطى وبناء القدرات القيادية". تضاف إلى ذلك الآثار الناتجة عن معايير المحاصصة في التعيينات في حلقة الإدارة العليا، وما يترتب على ذلك من تعييناتٍ في حلقات الإدارتين الوسطى والدنيا، علاوة على غياب الرقابة والمساءلة على صعيد المؤسسات، ما يعمّق من النهج القائم، والذي يؤدي بالضرورة إلى مزيدٍ من التراجع. وتذهب مقدمة التقرير إلى أبعد من ذلك، إذ تصف الوضع العام بأنه "يزداد تعقيدا"، وإلى أن ثمّة "أزمة عميقة ومركبة، تمر بها المملكة على الصعد كافة". وذلك مع استمرار سياسة الاسترضاء و"غياب أثر تطبيق الخطط على حياة المواطنين، وصولا إلى تعميق الفجوة القائمة بين الحكومات والمواطنين".
أما أبسط أشكال غياب التربيط والتنسيق بين الجهات الرسمية المعنية، فتكمن في ما تشير إليه مقدمة التقرير الجديد، أنه تم إرسال تقرير العام 2018 إلى الوزارات والمؤسسات والهيئات المعنية بصورة رسمية، إلا أن أياً منها لم تُجب المجلس (بعد مضي سنة) بما يفيد استلامها التقرير الذي أصدرته جهة رسمية!
على صعيد آخر ذي أهمية بالغة، يلحظ التقرير عن العام 2019 أنه قد مضى ثلاثون عاما على التحول الديمقراطي الذي عرفته، وما زالت تعرفه المملكة، غير أن هذا التحول ما انفكّ أسير المرحلة الانتقالية. ويشير التقرير، بوضوح، إلى "أن الاستمرار في إطالة أمد هذه المرحلة التي بدأت عام 1989 يساهم في المزيد من تعقيد الخلافات وتعميقها، ويقلل من احتمالات إحراز 
تفاهماتٍ وتوافقاتٍ للوصول إلى فهم موحَّد للمصلحة الوطنية". وهنا، يدعو التقرير إلى "البدء بسرعة في تغيير نهج الإدارة العامة للدولة، بموازاة البدء بتحسين أداء الوزارات الخدمية بشكل ملموس، يمكنه أن يشكّل المدخلَ الأوّليّ المناسب لتضييق فجوة الثقة، وسيكون لهذه الخطوة تأثيرها الإيجابي على مسار التغيير الاجتماعي في البلاد". وتستحق الإشارة، في هذا المعرض، إلى أن مرحلة التحول الديمقراطي المستمرة شهدت وضع الميثاق الوطني (1991) ووضع الأجندة الوطنية (2006)، وقد أريد بهما أن يشكلا مرجعية سياسية ومرشدا وطنيا، لكن أحدا من الفاعلين السياسيين في الحكومات المتعاقبة قلما يأتي على ذكرهما، ناهيك عن الدعوة إلى الاحتكام إليهما والاسترشاد بهما.
وخلافاً لأي انطباع متسرّع، يتوقف التقرير عند الإنجازات، وعند قصص النجاح الأردنية طوال عقود، وهو ما تشهد عليه تقارير وتصنيفات دولية، منها النجاح في تلبية حاجة السكان (نحو عشرة ملايين الآن) من المياه، على الرغم من أن الأردن يعتبر واحدا من أفقر الدول العشر مائيا، ومنها التقدم في مجال الاتصالات، والسير حثيثا نحو رقمنة المعاملات الحكومية، ومنها برامج مكافحة الفقر وجيوبه، وتنشيط السياحة العلاجية، وتزايد المؤسسات التعليمية، وهو ما يلمسه زائر هذا البلد، بسماته العصرية الظاهرة.
وإذ يستحق المجلس الاقتصادي الاجتماعي الثناء على جهده العلمي الدؤوب بإعداد هذا السِّفْر وإصداره، حصيلة مئات الأوراق البحثية وعشرات الورش وجلسات النقاش والعصف الذهني، 
وبمشاركة نحو 560 خبيراً ومختصاً ومسؤولاً وباحثاً (من خارج كادرالمجلس)، وذلك في معاينة المشكلات وتحليلها، ووضع مقترحات الحلول لها، فإن ثمّة بعدئذ مسألة جوهرية تستحق الإشارة إليها، وهي أن قضية التغيير الاجتماعي والثقافي المأمول، والتنمية الشاملة المنشودة في المملكة، ينقصها (إضافة إلى ما تم التطرق إليه من تشخيص دقيق في سائر المحاور موضع البحث) مشروعُ نهضوي بآفاق واضحة، تعتنقه الدولة والمجتمع، يشحذ همم المواطنين، ويشحن طاقاتهم، ويضيء طريق الأجيال الجديدة إلى المستقبل، وتتمثل هذه الآفاق بخيارالانتقال إلى دولة منتجة ومتقدمة، تضع حلولاً لمعضلة الديْن العام، وتستغني بالتدريج عن المساعدات الأجنبية والدعم الخارجي (باستثناء الممنوحة من هيئات دولية، ولا تحمل مضمونا سياسيا). ولئن بدا هذا الطموح مثاليا، أو غير واقعي، قياسا بتحديات الوضع الملموس الراهن، فإن المشاريع الوطنية الكبرى تبدو دائما لدى إطلاقها واعتناقها على هذا النحو "الحالم". هكذا كان حال ماليزيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية وتركيا قبل أربعة عقود. أما النظر إلى المساعدات والدعم من دول شقيقة وصديقة باعتباره من الثوابت، وركناً ركيناً لضمان تسيير عجلة الحياة وإلى ما شاء الله، فذلك ليس من الواقعية في شيء.
ويُذكر أن المجلس الاقتصادي الاجتماعي الأردني تأسس في العام 2009، وهو بمنزلة هيئة بحثية استشارية مستقلة إدارياً، وتتبع مجلس الوزراء، وتقدّم للحكومة توصيات أنشطته، إضافة الى الجهد الاستشاري. ويترأسه حالياً الأكاديمي والباحث، مصطفى الحمارنة، فيما يتولى الباحث محمد النابلسي أمانته العامة. وتعرف دول عربية وجود مثل هذا المجلس، منها لبنان والمغرب والسعودية والجزائر.