تركيا وأميركا.. نصف اتفاق في سورية

تركيا وأميركا.. نصف اتفاق في سورية

28 اغسطس 2019
+ الخط -
نصف اتفاق، ربما يمثل هذا أفضل توصيف للتفاهم الذي توصلت إليه تركيا والولايات المتحدة أوائل أغسطس/ آب الحالي بشأن المنطقة الآمنة في منطقة شرق نهر الفرات في شمال سورية. ونص الاتفاق أساساً على تشكيل غرفة عمليات مشتركة لتنسيق إدارة المنطقة الآمنة وإنشائها، ممر السلام حسب المصطلح المتبع، من أجل عودة طوعية للاجئين السوريين إليها، ومعالجة مخاوف أنقرة الأمنية ومواجهة الأخطار التي تهددها. وترك الاتفاق (أو التفاهم بالأحرى) في المقابل والتفاصيل الشائكة ونقاط الخلاف العالقة لغرفة العمليات المشتركة التي سيكون لها مقر ميداني مركزي في مدينة شانلي أورفا التركية قرب الحدود مع سورية، كما مكتب آخر للتنسيق والاتصال في العاصمة أنقرة. وتتعلق نقاط الخلاف التي لم تحسم بعمق المنطقة الآمنة وطولها، أي مدى امتدادها على الحدود السورية التركية، كما كيفية إدارة ممر السلام بعد خروج مقاتلي حزب العمال الكردستاني (السوري)، إضافة إلى سحب الأسلحة الثقيلة منهم، حتى بعد انسحابهم من المنطقة المعنية. 
وتطرح تركيا منطقة آمنة بعمق 30 إلى 40 كيلومتراً، أي مسافة قريبة للتي طرحها الرئيس الأميركي ترامب (20 ميلا)، حين تحدث أول مرة عن فكرة المنطقة الآمنة. وتتحدث تركيا كذلك عن منطقة ممتدة من نهر الفرات غرباً إلى الحدود العراقية شرقاً، أي بطول 460 كيلومتراً تقريباً مع خروج ذلك الحزب الكردي السوري منها وإدارتها من بين أهلها وسكانها، من دون أي تمييز عرقي أو ديني بينهم، مع إشراف أمني أميركي تركي مشترك عام عليها. بينما تطرح واشنطن عمقا من 5 - 15 كيلومتراً أقل حتى من اقتراح ترامب الأول، وامتدادها على الحدود بطول 160 كيلومتراً فقط، كي لا تصل إلى حدود العراق، مع عدم ممانعة الإشراف الأمني المشترك مبدئياً وضبابيةً، وحتى تخبط تجاه مسألة خروج أولئك المقاتلين، وسحب الأسلحة الثقيلة الأميركية منهم.
وكانت تركيا قد طرحت فكرة المنطقة الآمنة أول مرة في العام 2013 في أثناء زيارة للرئيس أردوغان إلى واشنطن، غير أن إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، رفضت الفكرة 
لعدة حجج وذرائع، منها عدم التورّط والانخراط في القضية السورية، أو عدم الثقة بالثوار السوريين، على الرغم من أن الهدف والسبب المركزي كان رغبة أوباما في تقديم سورية (والعراق) لإيران، ضمن سعيه إلى الوصول إلى اتفاق نووي معها، شرط التزامها خطوطه الحمر الثلاثة المتعلقة بحماية أمن إسرائيل، حدود سايكس بيكو وحرية الملاحة فى بحار المنطقة ومضائقها. أما إذا رغبت طهران في إهدار ثرواتها وأرواح مواطنيها على الحروب والغزوات، فهي حرّة، كما كان يردّد أوباما حرفياً، وهو الذي لم تدعم إدارته ليس فقط الفكرة، ولكنها سعت حتى إلى منع أنقرة من تنفيذها منفردة، عبر تهويل سياسي إعلامي، كما استخدام أدواتها من جماعة عبد الفتاح غولن فى الداخل، لعرقلة الخطة التي وضعت آليات تفصيلية لها منذ العام 2014. وللمفارقة، كان قائد القوات الخاصة التركية حينها، الجنرال سميح ترزي، أحد القائمين عليها، قبل أن يتضح أنه مسؤول كبير في جماعة غولن، وأحد قادة محاولة الانقلاب الفاشل في يوليو/ تموز 2016، والتي كانت نقطة مفصلية في تاريخ تركيا الحديث، حيث تحرّرت القيادة السياسية، وأضحت أكثر قوة ثقة، حتى قبل التحول إلى النظام الرئاسي، تم تطهير الجيش من عناصر الدولة الموازية لجماعة غولن، والأهم أنه بات خاضعا تماماً للقيادة المنتخبة، كما في أي نظام ديمقراطي.
من هنا، تشكلت البيئة المناسبة لتنفيذ عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون، مع اعتبار عملية شرق الفرات، وإقامة منطقة آمنة فيها هدف دائم وحيوي للسياسة التركية في سورية كونها الأوسع والأعقد والأكثر حسماً لمنع إقامة دويلة انفصالية (ممر إرهابي) تمنع تركيا من التواصل مع محيطها العربي الإسلامي جنوباً.
ثم انتهت الاستحقاقات، بل المعارك الانتخابية التركية بمستوياتها المختلفة، الرئاسية البرلمانية والبلدية التي تواصلت عامين تقريبا (2017 – 2019)، وتمّ الخروج بسلام منها، واستغلال التخبط والفوضى في إدارة الرئيس الأميركي ترامب، والافتقار إلى تصور محدّد في سورية والمنطقة، ثم الخروج بسلام من الحرب الاقتصادية التي حاولت واشنطن فرضها على أنقرة، واستغلال الأخيرة قوة البلد ومقدّراته ونفوذه ودوره المحوري في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، كما في القضايا الإقليمية الأخرى، حيث لا تستطيع الولايات المتحدة الاستغناء عنها، أو الاستمرار في السياسة العدائية تجاهها.
بناء على ذلك كله، أعاد الرئيس أردوغان، في الأشهر الأخيرة، فتح ملف المنطقة الآمنة مع تحضيراتٍ عسكريةٍ ميدانيةٍ جدية لتطبيقها بشكل أحادي، في حالة امتناع واشنطن عن التعاون والتنسيق، واعتبار ذلك الخطوة، بل "الخطة أ" بالنسبة لأنقرة، والعمل الأحادي بمثابة الخطة "ب". وأمام الإصرار التركي، وتأكد واشنطن من عزم أنقرة وجدّيتها، ناقش ترامب مع أردوغان، في يناير/كانون الثاني 2019، فكرة المنطقة الآمنة، منفتحاً على التعاون والتنسيق والعمل المشترك مع تركيا لتنفيذها. وربما سعى الرئيس الأميركي، بطرحه المفاجئ، إلى قطع 
الطريق على العملية العسكرية، مع مماطلة تقليدية لتأجيلها إلى أجل غير مسمّى، ثم إفراغها من محتواها وجدواها، غير أن تجاوز تركيا أزمة صواريخ "أس 400" من دون خسائر جدّية وكبيرة، وإظهار إصرارها على تنفيذ المنطقة الآمنة الحيوية لها، ولو بشكل أحادي، دفع إدارة ترامب إلى التعاون الجدّي عبر حوارات متنقلة من واشنطن وبروكسل إلى اليابان شرقاً، ومن ثم إرسال وفود سياسية وعسكرية متلاحقة إلى أنقرة (الأسبوع الأول من أغسطس/آب) لأجل التفاوض، وصولاً إلى إعلان الاتفاق، أو التفاهم على تشكيل غرفة عمليات مشتركة، تأخذ على عاتقها التنسيق لإدارة المنطقة الآمنة وإنشائها في شمال سورية. وقد جاء الاتفاق أساساً نتيجة تقليص الفجوات في الرؤى والمواقف تجاه فكرة المنطقة الآمنة. والأهم ربما أنه كان بمثابة تعبير سياسي عن الرغبة في التنفيذ المشترك، وخصوصا أنه ترافق مع تأسيس جدّي لغرفة العمليات، بموازاة تمهيد تركي أحادي لها، عبر تحليق طائرات مسيّرة فوق المنطقة، استعداداً لانطلاق عملها الثنائي في الأسبوع الثالث من أغسطس الحالي، كما أعلن وزير الدفاع التركي خلوص أكار.
على الرغم من هذه الاستنتاجات والمواقف، إلا أن ثمة حذرا في أنقرة من تكرار تجربة خريطة طريق منبج (2018)، والتي ماطلت واشنطن في تنفيذها، كما أعلن بحزم وزير الخارجية، مولود جاووش أوغلو، علماً أن ملف منبج يبدو أكثر تعقيداً، خصوصا أن منطقة شرق الفرات أكثر اتساعاً وعمقاً، وفي وسع تركيا القيام بعملية عسكرية فيها في أي لحظة، من دون المخاطرة بالاصطدام المباشر مع الأميركيين، كما هو الحال فى منبج، إضافة إلى أن المنطقة الآمنة في حالة تحقيقها ستوفر سياسياً وميدانياً أهداف خريطة منبج نفسها. وعموماً، ثمّة اطمئنان تركي نسبي لجدية واشنطن هذه المرّة، خصوصا مع تقليص الفجوات فى الرؤى والشروع الجدّي في تشكيل غرفة العمليات المشتركة ومقرّاتها، ثم حديثها، أي واشنطن، عن عودة خطر تنظيم داعش إلى إلهاء حزب العمال الكردستاني، السوري، وإشغاله في هذا الملف، وتبرير إبعاده عن المنطقة الآمنة سياسياً عسكرياً وجغرافياً.