بورخيس.. صناعة عربية

29 يوليو 2019

بورخيس في باريس.. تشرب المعارف العربية (20/5/1979/Getty)

+ الخط -
منذ ترجم إبراهيم الخطيب بورخيس أول مرة إلى العربية، وجمع مختارات من قصصه، تحت عنوان مدلّل "المرايا والمتاهات"، صدر عن دار توبقال في 1987، أمكن الوقوف على عناوين قصصية لقاصين عرب صدرت متفرّقة من المحيط إلى الخليج، كان لبورخيس فيها مكان بارز، اسماً وموضوعاً. مثلاً، محمود الريماوي في قصته "ما فعله السيد بورخيس"، محمد زفزاف في قصة "بورخيس في الآخرة"، طارق إمام في قصة "عينا رجل أعمى - إلى بورخيس أو عنه"، حسن البقالي في قصة "جبة بورخيس"، إبراهيم الهندال في قصة "بورخيس وأنا"، ليلى البلوشي في قصة "بورخيس - بورخيص"، أحمد خلف في قصة "مساء عادي في بوينس آيرس"، جبار ياسين في قصة "يوم في بوينس آيرس".. فضلاً عن قصص لمحمد خضير وعبد الفتاح كيليطو وأنيس الرافعي تتواشج نسقياً مع قصص بورخيس.
وفي المقابل، لكن يكون لبورخيس المحل المهم في خريطة الأدب العالمي، المليء بالمتنافسين، لولا الثقافة العربية. وهذا ليس حديثاً رومانسياً، بل واقعيٌ بامتياز، حتى وإن لم يذكره بورخيس مباشرة. وباختصار شديد، الثقافة العربية التي تشرّبها بورخيس بعمق، منذ اكتشافه "ألف ليلة وليلة"، حوّلته من شاعر على طريقة اليوناني كافافي إلى قامة قصصية مدهشة قلّ نظيرها، كما ذكر ذلك مترجمُه إلى الإنكليزية ومرافقه عقدين، الشاعر الأميركي، ويليس بارنستون، في كتابه "مع بورخيس".
بل امتدّ ذلك الفضل (فضل الثقافة العربية على بورخيس) دائرياً إلى أدب العالم قاطبة، ما جعل ماريو فارغاس يوسا، مثلاً، يعترف بفضل بورخيس، ليس على أدب أميركا اللاتينية فحسب، وإنما على الأدب العالمي كله، حين قال "لقد خلّصَنا بورخيس من الالتزام السارتري". كما يمكن الوقوف أمام عشرات من الكتاب العالميين الذين كان لبورخيس دورٌ في توجيه مسارات كتاباتهم، من أهمهم السيميائي الإيطالي، أمبرتو إيكو، صاحب الرواية الأشهر "اسم الوردة" التي بيعت منها قرابة الخمسين مليون نسخة، فقد اعترف، في مقال مفصل، بأنه لبورخيس الفضل الأكبر في كتابة هذه الرواية.
ومن يتأمّل قصص بورخيس، أو المساحات الأكثر منها، سيتلمّس شواهد عديدة على هذا التصادي العربي والمشرقي الإسلامي. مثلاً، قصته "بحث ابن رشد"، فلنتفحّص عدد الأعلام والمعارف فيها: (أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد، تهافت التهافت، تهافت الفلاسفة، الكتابة من اليمين إلى اليسار، الصحارى العربية، الوادي الكبير، قرطبة، بغداد، القاهرة، القرآن، الإسلام، حنين بن إسحاق، أبو بشر متّى، كتاب المحكم للأعمى ابن سيده، لا إله إلا الله، الأذان، كتاب العين للخليل بن أحمد، الأمير يعقوب المنصور، الرحالة أبو القاسم الأشعري، فرج عالم القرآن، ابن قتيبة، لا إله إلا الله محمد رسول الله، أوائل السور في القرآن، أم الكتاب، أصل القرآن، الجاحظ البصري، المذهب السنّي، كتاب الجمهورية، قمر اليمن، ياجوج وماجوج، تجار مسلمون، قصة أهل الكهف، تسعة وثلاث مائة عام، فضائل اللغة العربية، فضائل شعر العرب، زهير بن أبي سلمى، الإسكندرية، مراكش، عبد الرحمن الداخل، نشأت بأرض أنت فيها غريبة/ فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي، عصر الجاهلية، ابن شرف، معلقات الكعبة..).
وقد كتب عبد الفتاح كيليطو مقالاً صريحاً في هذه المسألة، أطلق عليه "بورخيس العربي" في كتابه "بحبرٍ خفي". وفي كتابه الموالي "من نبحث عنه بعيداً يقطن قريباً"، أي بعد عام من الكتاب السابق، كتب "لم يمتلك بورخيس بعد أن تشرّب المعارف العربية سوى أن يتعلّم لغتهم". وهذا ما فعل في آخر أيامه في سويسرا، كما يستطرد كيليطو، إذ استعان بمعلّم مصري من الإسكندرية لكي يعلمه العربية. لم يستطع بورخيس أن يفارق الدنيا من دون أن يرد الديْن للغة التي حوّلته من شاعر على طريقة اليوناني، قسطنطين كافافي، أو في أحسن الأحوال قاصّ على طريقة كافكا وإدغار ألن بو اللذّين كان معجباً بهما، إلى قاصٍّ بلغ في شهرته شهرة الأسطورة التي يصعب أن يطمسها الزمن.
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي