الجزائر.. الوزن الإقليمي لا يحجب أعطاب الداخل

الجزائر.. الوزن الإقليمي لا يحجب أعطاب الداخل

09 مارس 2019
+ الخط -
يثير الوضع في الجزائر اهتمام شريحة واسعة من الرأي العام في مشرقنا العربي، إذ يمتلك الناس ذكرياتٍ مجيدة عن المحطات الأخيرة من ثورة الجزائر، ثم استقلالها، وهي التي اقترنت آنذاك في حقبة الخمسينيات، بصعود المدّ القومي، عقب سنوات قليلة على نكبة فلسطين. احتل هذا البلد موقعه إبّان الحرب الباردة وانقسام العالم إلى معسكرين، في عداد الدول المنضوية في المعسكر الشرقي/ السوفياتي، من دون أن يحول ذلك دون اتخاذ موقع متصدّر في حركة عدم الانحياز، وتفسير ذلك أن دول هذه الحركة غير منحازة أيديولوجياً للمعسكر الاشتراكي، وإن كانت على صداقةٍ متينةٍ آنذاك، على المستوى السياسي، مع هذا المعسكر. كما اقترنت صورة الجزائر بتقديمها الدعم لحركات استقلالية في أفريقيا، ولحركة المقاومة الفلسطينية، عقوداً. وخلال ذلك، فإن الوضع الداخلي (طبيعة الحكم وآلياته) لم يستوقف الكثيرين، باعتباره شأناً يخص الجزائريين، حتى الصراع على الصحراء الغربية، فإنه لا يثير اهتماماً يُذكر، ما دام المتنازعون عرباً، ولأن أحداً لا يشكك في عروبة الصحراء! هذا ما خلا المحطة التي جذبت الاهتمام، وهي وقف المسار الانتخابي، وما تلى ذلك من عشريةٍ سوداء في مطلع تسعينيات القرن الماضي. عند ذلك، "تشوشت" صورة هذا البلد في الأذهان، وضعف التواصل الوجداني منه، باستثناء المتابعين المهتمين من سياسيين وأكاديميين وإعلاميين.
ينبع الاهتمام المشار إليه من أهمية البلد، ومن أهمية الأحداث التي تدور فيه منذ الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، ولكن من دون تفاعل ملحوظ، فالناس هنا وهناك ينوءون تحت ضغوط 
الحياة. وقد أنهكتهم متابعة محطات الربيع العربي، وخصوصاً المحطة السورية التي آلت إلى كوارث وموجات تهجير إلى دول الجوار، وإلى تدخلات خارجية، وإلى وجود أجنبي ثقيل: إيراني وروسي، وبدرجة أقل وجود تركي.
لا مراء في أن ما يجري في الجزائر والسودان يمثل استئنافاً لموجة الربيع العربي؛ ففي الجزائر نفسها وقبل ثماني سنوات، كانت شوارع المدن تعجّ بالمحتجين، تساوقاً مع ما جرى في تونس ومصر. وقد أمكن آنذاك استيعاب تلك الموجة الاحتجاجية بوعود إصلاحية، وخصوصاً أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة كان يتمتع بوضع صحّي لائق، فضلاً عن الكاريزما الوطنية، غير أن تلك الوعود آلت إلى تفاقم الصعوبات الداخلية. وفي السنوات الثلاث الأخيرة، انعكس هبوط أسعار النفط بصورة مباشرة على الوضع الاقتصادي، إذ يشكل النفط (مع الغاز) 97 في المائة من الصادرات. ومعنى ذلك أن الجزائر بلدٌ يصحّ تسميته نفطياً، بأكثر مما هي دول الخليج نفطية! علماً أن الجزائر هي بين الدول العشر الكبرى في إنتاج الغاز وتسييله، وتتصدّر القارّة الأفريقية، وتأثرت أسعار الغاز الطبيعي، بصورة طفيفة، بالانخفاض، على أسعار الطاقة، بل شهدت هذه السلعة، في النصف الثاني من العام الماضي صعوداً في الأسعار، مع زيارة الطلب عليها في الصين وجنوب شرق آسيا إضافة إلى أوروبا. وقد هبط الاحتياط النقدي بالعملة الأجنبية من 193 مليار دولار إلى 82 مليار دولار. ومعنى ذلك أن الثروات الطبيعية الهائلة لم تنعكس على حياة الأربعين مليون جزائري، باستثناء شريحة المحظوظين. ومن المؤلم أن يقرّ المرء بفشل الدولة هناك في الاستجابة للمتطلبات الأساسية للتنمية. ولا يكفّ السياسيون الجزائريون، من مختلف أنواع الطيف الحزبي (باستثناء الحزب الحاكم) عن الحديث عن حجم الفساد الهائل.
وفي تقرير لإذاعة دوتشي فيله الألمانية باللغة العربية، بث أخيراً، جرت الإشارة، لدى قراءة سريعة للتطورات في الجزائر، إلى أن الرئيس بوتفليقة لن ينتهي، في جميع الأحوال، إلى مصير الرئيسين السابقين، التونسي زين العابدين بن علي والمصري حسني مبارك، فللرجل احترامه لدى شريحة واسعة من الجزائريين، ممن يحتفظون بذكريات الثورة والاستقلال،
وهؤلاء من كبار السنّ. كما أنه ليس لدى فئة الشباب موقف من الرئيس، إنما تعبر عن احتجاجها الساخط على انحدار الوضع الاقتصادي. وهذا حقاً هو لبّ المسألة، فالأجيال الجديدة التي يضربها الفقر والبطالة تضرب صفحاً عن الأمثولات والشعارات السياسية، وتولي اهتماماً فائقاً بمستوى الحياة وانعدام الفرص. ويمثل هؤلاء الكتلة الكبرى بين المحتجين، وقد نشأوا على الوعود التي لا ترجمة لها في أرض الواقع. والواضح أن النظام هناك يخاطب فئة كبار السنّ، ولا يأخذ علماً بما يعتمل في نفوس الأجيال الشابّة، وما تعترض حياتهم من عقبات كأداء، فيما لا تجد الأحزاب، بما فيها الموالية للسلطة، سوى مواكبة حركة الشارع الصاخبة، ولن يطول 
الوقت، قبل أن يستجيب برلمانيون لنداءات شعبهم.
والحصيلة أن المراهنة على الوزن الإقليمي لدولة ما لا تغطّي على الأعطاب الداخلية، ولا تحجب مظاهر الفشل، علماً أن هذا الوزن أخذ يتناقص في العقد الأخير، وقد حدث مثل ذلك في سورية. بأمل أن يبقى الوضع في الجزائر في النطاق السلمي، وأن يتم استلهام نموذج تونس بمواكبة تطلعات الناس المشروعة، وألا يتم اللجوء إلى العسكرة أو العنف الذي لا مسوّغ له في الأساس، فالناس ليست بصدد القيام بانقلاب، بل تروم تغييراً سلمياً آمناً. وكما هو جليّ، لم يعد للانتخابات الرئاسية التي كانت مقرّرة في إبريل/ نيسان المقبل من موضع على الأجندة الوطنية العامة.
قَدَر ربيع الجزائر، كما بقية نُسخ الربيع العربي الجديدة، أن يجد أصداءً واسعة في مختلف وسائل الإعلام الحديثة والتقليدية، ولكن بأقل حجمٍ من ردود الفعل السياسية الخارجية، الرسمية والشعبية على السواء، حتى إن الاهتمام الفرنسي بما يجري في هذا البلد يفوق الاهتمام العربي، الرسمي والشعبي معاً، كما تدل على ذلك التصريحات المتواترة لكبار المسؤولين الفرنسيين. وقلة من الجمهور العربي يعرفون أن بلد المليون شهيد هو نفسه بلد العشرين مليون متعطل وفقير حالياً، وبلد الثروات الطبيعية الهائلة. عسى أن تكون هذه الانعطافة فرصةً ثمينةً لتجديد الدولة، وتمكّنها من الوفاء بمتطلبات شعبها، بغير خسائر أو أضرار جسيمة تُذكر.