المحاسبة على طريق الطاغية

15 مارس 2019
+ الخط -
في خطاب التهرّب من المسؤولية عن الدماء التي أريقت من الجيش المصري، ومن الأجهزة الأمنية، والمحاسبة عليها، روى عبد الفتاح السيسي حكاية سردية تطمس كل الحقائق التي تدور بشأن عدد المذابح التي أدارها العسكر في ذلك الوقت، وهو ما سماه صاحب هذه السطور، في حينه، الإدارة بالكوارث، وبما يؤكد حضور قوات الجيش المأمورة باستخدام القوة المفرطة في التعامل مع المحتجين، وقتلوا من قتلوا. وهنا، تحمل أسئلة جوهرية عناصر سردية أخرى، تمثل الحقيقة المرّة أكثر من تلك السردية الكاذبة، والتي تتحلل من كل مسؤولية وتتهرّب من أي حساب:
من الذي حدد المدة الانتقالية التي كانت ستة أشهر فحسب على الأكثر.. أليس هو المجلس العسكري، في أول بيان له، بعد أن آل إليه الأمر، إثر إعلان تنحّي حسني مبارك المخلوع؟ ما هو القول في كل الفيديوهات المصوّرة، والتي تؤرخ للأحداث التي ذكرها ليبعد المسؤولية المباشرة عن الضحايا الذين وقعوا في الميادين المختلفة، شارع محمد محمود، وأمام مجلس الوزراء و"ماسبيرو" واستاد بورسعيد، وإرادتكم في إثبات سردية مزورّة عن كل تلك الأحداث التي قتلتم فيها، بكل انتقام وبدم بارد، وبعد إحداث الوقيعة بين القوى السياسية المختلفة، في إطار "الإدارة بالكوارث" في أداء المجلس العسكري، ذلك أن هذه الكوارث المتتابعة يعد هذا المركز مسؤولاً عنها. ويحاول المستبد، بصناعة هذه السردية، أن يحيل قتل كل هؤلاء إلى 
طرفٍ مجهل، يحاول أن يربطه بما تسمّى حروب الجيل الرابع، إنها مقولاته المأثورة. السؤال الثالث بشأن تلك السردية السيسية، في محاولة لاستغلال شيطنة "الإخوان المسلمين"، وقد أخذ الجميع عليهم أنهم توقفوا عن المشاركة في بعض هذه الفاعليات، فإنه للأسف يقوم في إطار
تلبيس بالإشارة من طرف خفي إلى مسؤولية "الإخوان" عن عمليات القتل، أي أن الغائب عن الأحداث هو الذي قتل. أما الذين أطلقوا أيديهم في القتل، وفي الضرب بقسوة، فهم لم يمسوا أي مصري. يتعلق هذا السؤال بفرية الكذب المركب، حينما يتحدث السيسي عن عدم قيام أجهزته الأمنية التي كان يشرف عليها آنذاك بأي أفعال تمس أي مواطن مصري، ليصبح السؤال: من قتل إذاً؟
إننا إذا أمام صناعة سردية زائفة، يحاول أن يحرّكها السيسي ضمن عمله الخطير والحقير الذي قام به مرارا وتكرارا، فيقوم، إضافة إلى تلك السردية الزائفة، بتلبيس "الإخوان" الجريمة. وأصبحت هذه لعبة ممجوجة ومكشوفة للجميع، فالجميع يعرف من قتل في تلك الأحداث المتتابعة، ولماذا. وصار الطرف الثالث المجهول معلوما للجميع، تحت إدارة عبدالفتاح السيسي الذي أعلن، بشكل قاطع وواضح، أنه كان مسؤولا عن ملفي الاتصال بـ"الإخوان" والأجهزة الأمنية. إنه يقدم، باعترافاته تلك، وبحق، أدلة ملموسة عن إدانته، بشكل مباشر، عما آلت إليه الأحداث، وعن ذلك التلاعب الشديد الذي قام به بالاتصال بالقوى السياسية المختلفة، وهو يذكر أحداث شارع محمد محمود، إنما يريد بذلك إحياء بيئة الاستقطاب التي توارت، بعض الشيء، مع حملات عدة، ومع دعوات متعدّدة، لنفي استبعاد أي قوى سياسية في المرحلة المقبلة من بعض رموز سياسية. وبغض النظر عن قيمة هذه الدعوات، فإن حملة #اطمن_انت_مش_لوحدك، عبَّرت، جيدا عن حالة الاصطفاف الشعبي ضمن حالة واحدة تؤصل لحال جديد "مع بعض نقدر"، هذه هي القضية الأساسية حينما يعطي درسه الشهير والخطير والحقير عن حروب للجيل الرابع التي تستهدف مصر، وهي لا تستهدف إلا المستبد
الذي تحكم في البلاد والعباد، واختطف، مع عصابته، المؤسسات بكل تنوعاتها. مرة أخرى، نحن أمام صناعة الفرقة والفوضى والتبشير بالدولتية في إطار استهداف مصر واستهداف الاستثمار. هكذا يقول، في كل وقت وفي كل آن، ثم يستدعي الجميع، ليصطفوا في صفوف طغيانه، من مثقفين ومن مفكرين ورجال دين، حينما يرسم صورته بأنه ذلك الناصح الأمين من أجل مصر، ومن أجل مواجهة تحدياتها، وهو في الحقيقة يقوم على عكس ما يقول من تخريبٍ متعمد وممنهج للبلاد، ومن صناعة كراهية، ومن تكريس فرقةٍ لا يستطيع أن يعمل إلا في ظلها.
وفي هذا الإطار، يتحدث عن حكاية عجيبة وغريبة في إطار الهروب عبر الزمن، فيطلب عدم الحساب، لأنه لا يفكر في مشكلات مصر الآنية فحسب. إنه يفكر في مشكلة مصر الكبرى الاقتصادية في عام 2060، فهو يقسم بالله أنه يعمل لحل مشكلات مصر، قبل أن تقع في العام 2060، ويدّعي، مؤجلا كل حساب، أنه سيكون مات وشبع موتا، لكن مقسما أنه يتصدّى من 
الآن، حتى لا يترك للأجيال الخراب والضياع. وحقيقة الأمر أنه لا يقوم إلا بتخريب مصر في الحال وفي المستقبل. لو كانت الأجيال القادمة تهمه، لما استدان هذه الديون، ليصادر مستقبل البلاد والعباد، ويغرق مصر في حلقة جهنمية من القروض الداخلية والخارجية. ولكنه حينما يتحدث عن مواجهة مشكلة 2060، وحتى يتصدّى لها منذ الآن، فإنه يشار إلى خطته الجهنمية، بقوله "نعملها صندوق". هذه هي عقلية الجباية، ويتحدث عن أملٍ منتظر، حينما يؤكد "الموضوع ده هيبان أمتى؟ 2060، نعملها صندوق عشان نجهز نفسنا وميبقاش في مشكلة".. إنه الوعد من الأوهام والهروب من الحساب على الآن، فلم يحاسب، لأنه سيكون مات وشبع موتا، كما قال.
وفي إطار خطته الاستراتيجية، للتهرب من المحاسبة، وقد قال شيئا يحسّ بأنه قد أسرف فيه "أنتم مصدقوني ولا لأ؟ هغشّكم ليه؟ هضحك عليكم ليه؟ أضيعكم ليه؟ مبحبكمش!!"، ثم ينتقل إلى أقوال هنا أو هناك، نحاسبه على وعوده، فيصنفها في خانة الإشاعات. وحينما يطالبه بعضهم بإنجاز يتعلق بهموم الناس، يواصل سلسلة التهرّب الرهيب "هو أنا وعدتكم فأخلفتكم؟ هو أنا قلتلكم معايا السمن والعسل، هاتوا كل تصريحاتي اللّي قلتها لما قلتلكم أننا هنبقى مع بعض في مواجهة تحديات مصر"، فإذا سئل عن العاصمة الإدارية الجديدة وبعض المدن الجديدة، وكيف تموّل، بينما يتهرب من كل ما يتعلق من خدمات من سكك حديدية أو في الصحة أو في التعليم، يقول من يطلق ذلك "ينغص عليك عيشتك، وأنا قلتلكم وبقلكم تاني، طب مدام الحلفان بتصدقوا". أقسم السيسي ثلاثا أن كل هذه المدن الجديدة لم تنفذ من موازنة الدولة، هذه الأمور التي تشير إلى أن هذا من الميزانية، وأن هذا خارج الميزانية، إنما يعبر عن إدارة السيسي موارد البلد كعزبته الخاصة التي يتصرف فيها كيفما شاء.
وفي سلسلة التهرب من الحساب والمحاسبة، يؤكد "أنا مش رئيس ليكم، أنا واحد منكم، قلتولي أمنّاك علينا"، ثم يحلف مرة ثانية "لا أقف أنا وأنتم قدام ربنا أسالكم زي ما أنتم بتسألوني وأحاسبكم زي ما أنتم ما بتحاسبوني"، فحتى حساب الآخرة هو الذي سيحاسبنا، وهو غير قادر للحساب، وأنه سيشارك الله سبحانه وتعالى في الحساب للناس. إنها الفرية التي يتعلق بتهرب من كل حساب في الدنيا، ولكنه أيضا سيباشر حسابنا في الآخرة، وأنه فوق الحساب في دعواتٍ شتى.
وخروجا عن كل حساب، يؤكد "لو كنا فاهمين قضية بلدنا كان لازم نعمل ده، ونتحمل تبعاته وتزعلوا من السيسي، وتكرهوا، ميجراش، لكن البلد تعيش. الفكرة إن إحنا لأجل خاطر إننا نعيش نضيع شعب، ده ميحصلش". هذه هي القضية، قضية الحساب على طريق المستبد، يهرب من كل حساب، وهو فوق الحساب، وأن من يحاسب لا يفهم، وأن من يكرهه لا يهمه. ما دام أنه يفهم الصحيح، وهو طبيب الفلاسفة، ويفعل ما يريد، فإن لم تفهموا، فإنه فوق الحساب. هكذا نصل إلى هذا الخطاب الذي يجعل الطاغية فوق كل حساب، وما يفعله في الناس من تضييق، وحتى قتل، هو لمصلحة العباد والبلاد، "لا يسأل عما يفعل"، حتى في الآخرة سيحاسبنا السيسي.. السيسي فوق الحساب، وسيحاسبنا في الدنيا وفي الآخرة، أفلا تعقلون!
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".