ربّة بيت في شارع السكينة

ربّة بيت في شارع السكينة

25 نوفمبر 2019

(عصام درويش)

+ الخط -
أجفّف يدي اللتين غاصتا عميقا في هرس حبات البندورة. ألتقط الموبايل بتوجس، رسالة صوتية رقيقة تنبهني إلى ضرورة تسديد فاتورة الهاتف والإنترنت تحت طائلة القطع في حال التأخر. موظف شركة الكهرباء يسلمني الفاتورة المستحقة، وألمح في عينيه نظرة شماتة. أواجهه بنظرة عدائية لا مبرّر لها. في تلك اللحظة غير المجيدة، تنفد جرّة الغاز قبل أن تنضج الطبخة تماما. أقف مستسلمة على الشرفة بانتظار مرور سيارة توزيع الغاز بموسيقاها المميزة. يعتريني القلق من أن لا أنجز قبل موعد وصول عائلتي التي أجمع أفرادها على البامية طبقا لليوم. يشق الفضاء تسجيل صوتي ذكوري أجش، ينطلق من سيارة رثّة متهالكة. يكرر بإلحاح مثير للغيظ "اللي عنده غرف نوم، كنابايات، ثلاجات، غسالات، أفران غاز، أثاث مستعمل، للبيع". يخالطه صوتٌ لا يقل إزعاجا ينبعث من سيارة تكدّس أصناف الفاكهة والخضروات "يلا بطاطا، سبانخ، تفاح، فاصوليا، برتقال، رمان، بندورة البوكسة بدينارين يا بلاش". أتساءل بغيظ: أين تغيب سيارة توزيع الغاز في عز الحاجة إليها؟
رافعة ضخمة تنقل الطوب إلى سقف العمارة المقابلة، قرّر صاحبها إضافة شقتين إضافيتين، بعد أن حصل على قرضٍ بفائدة عالية. الجميع يعرف أن ابنه الأكبر هرب إلى تركيا، لأنه من المتعثرين، وقد تراكمت عليه الديون، بعد أن عجز عن تسديدها، جرّاء فشل مشروعه التجاري الصغير الذي استنزف تحويشة عمر الوالد. يعلو صوت صراخ الجارة التي تتعرّض إلى تعنيف دائم من زوجها الجلف، المتجهم الذي لا يلقي تحية الصباح على أحد. غالبا ما يلاحظ الجيران آثار كدمات تغطي وجهها. بادرت ذات ليلة، باعتباري مواطنة صالحة، إلى الاتصال بالشرطة، بعد أن اشتد الصراخ المنبعث من شقتهما. وصلت الدورية في وقت قياسي. طرق الضابط الباب، ليخرج الزوجان مبتسمين، ويؤكدا أن الأمور على ما يرام في بيتهما، وأن شكوى الجيران لا أساس لها من الصحة. في اليوم التالي طرقت الجارة باب بيتي، ورجتني بصوت مهزوم، من دون أن تجرؤ على النظر في وجهي، أن لا أتدخل فيما لا يعنيني! حاولتُ تصنع الجهل، لكنها قالت إن زوجها على يقين بأنني صاحبة الشكوى. نقلت إلي تحذيره من مغبة التطفل على خصوصيات الآخرين. ظللت على إصراري بالإنكار. غادرتني منكسرة تحاول إخفاء نظرة استغاثةٍ ضاعفت من إحساسي بالقهر.
يدبّ شجار بين رجلين وقورين، وصل إلى اشتباكٍ بالأيدي على إثر ادعاء كل منهما أحقيته في موقف السيارة. جارة عديمة الحساسية، اكتظت نوافذ شقتها في الطابق الأخير بنباتات الزينة. تحرص على سقايتها يوميا، ولا تكترث للماء الممزوج بالطين الذي يتسرّب إلى نوافذ الجارة المهووسة بالتنظيف، فيشتعل بينهما شجار يومي بات روتينا يتبادلان خلاله أقذع الشتائم. تصل سيارة الغاز بعد طول انتظار. يشتعل اللهيب الأزرق في الفرن. تواصل طنجرة البامية نضجها على نار هادئة. أسكب الطعام لأفراد العائلة الذين وصلوا جائعين. يأكلون باستعجال، فيما عيون كل منهم شاخصة إلى الموبايل. لا أحد منهم يخبرني عن مجريات يومه. يتوارون تباعا كلٌّ إلى حجرته. أنهمك في تنظيف الصحون، تتعالى الأصوات الساخطة في الخارج من جديد، وأفكر جدّيا بمخاطبة أمانة العاصمة للمرة العاشرة، مكرّرة طلبي الرسمي ضرورة تغيير اسم الشارع، السكينة، إلى أي اسم آخر.

دلالات

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.