مدخل محوري لمناقشة "قصور الاستشراق"

مدخل محوري لمناقشة "قصور الاستشراق"

19 نوفمبر 2019
+ الخط -
في مقدمته المهمة مترجِما، أشار عمرو عثمان إلى صعوبة مهمته، بناء على تعدّد مصطلحات وائل حلاق وطول الجملة الفكرية التي اقتضت التقسيم لفهم دلالتها، ثم حرّر رأيه بوصفه متخصصا وضليعا في وعي حوارات الفكر، بأن منظومة أفكار الكتاب التي تَنقُد بجرأة كتابات إدوارد سعيد، هي بذاتها مطروحةٌ للنقد بناء على القاعدة نفسها، والحديث هنا عن كتاب وائل حلّاق التاريخي، "قصور الاستشراق"، والذي ذيّل تحته العنوان التفسيري "منهج في نقد علم الحداثة".
وهو سفرٌ تاريخي ليس من باب التدبيج للعبارات المفخمة، عند تناول إصدارات المكتبة العربية في مسار الفلسفة الحديثة، وإنما لما يمكن أن يُحدّد معالمه الباحث هنا، في مفاهيم الفرز النقدي المتخصص، والخلاصات الجمعية التي عادت إلى منظومة الفلسفة الغربية الحديثة المحسوبة على خط التنوير وخارجه، والتي حرّرها حلّاق في الكتاب، وحرّر أفكاراً رئيسية، تفتح بوابة مهمة لنقد المنتج الفلسفي الحديث، أمام أهم طرحٍ تسعى إليه أي إنسانيةٍ راشدة، تبحث عن منظومة أخلاقٍ وفكرٍ يؤسّس لعالم فاضل، لم يولد حتى اليوم. وهي هنا ليست نقطة نظام، بل مركز تفكير، لا بد من تسجيله حتى لا يتيه الهدف المعرفي من بحوث الفلسفة، أمام التدفق المزدحم والمختلط، لإنتاج الفلسفة الحديثة، ثم مداورتها من دون مرجعٍ مركزيٍّ ينظم خطوط الجدل المعرفي، والنقد والنقض للنظريات أو المعادلات المختلفة. والتي وصل عبرها اليوم 
البناء السياسي الحديث لصورة الدولة المدنية المعاصرة، أو موقع الحضارة المتقدمة من الحضارات الأخرى، أو مسرح المعرفة البشرية أمام المسرح الغربي الأوحد، ثم هُيكل بقية العالم كصفوف، باعتبارها مستمعة صمّاء جرداء من أهلية النقد.
ومن ثم بُني هذا الجدار الذي فَصَل المحور الذي تبحث عنه رحلة الفلسفة قديماً، ماذا يحتاج العالم لرحلة الوجود؟ وما هو الوجود الذي تَخلّق فيه الإنسان وأصبح يدور في فلكه أو يُدير فلكه؟ وباعتبار أن هدف الفلاسفة هو أخلاقيٌ في أصله، فهنا المحور المركزي مرة أخرى يعود، على ماذا نبحث وما هي الدلالات التي تحملنا على هذا البحث، ما هو سؤال التقوى الأخلاقي الذي تناوله حلاق في عدة مواضع.
وهل سؤال التقوى الأخلاقي بمعناه المحوري، خاص بالناقدين الجدد لمآلات التنوير الغربي، القائمة على مركزية مادة الإنسان من دون روحه المحرّكة لعقله، أو إدراج الروح في نظرية ظنيةٍ تُعيدها إلى كينونةٍ مادية، لا يؤيدها عقل العقل، ولا جوهر الروح، وإنما في الحقيقة قدستها فكرة القوة لا قوة الفكرة التي سيظل لميشيل فوكو فيها منصته الإلهامية بين حلاق وسعيد وغيرهما.
هل العالم يخضع بقناعة موضوعية لفكرة قوية، تمكّنت عبر خلاصةٍ يُعتمد على صحتها وقياس صوابيتها، بعيداً عن التيه في تحديد مقاييس النفع للبشرية، وضبط هذا النفع الممكن تحديد
 معالمه من فطرة الإنسان، وقصة الحياة ومدلولات السعادة والرفاه التي يأنس بها، أو مدلولات البؤس والألم والحرمان التي تحاصره. وعليه، فإن سؤال التقوى الأخلاقي يشمل كل هذا العالم، والمنظومة الفلسفية (للتمركزية الإنسانية)، وهو البحث عن نسبة الحقيقة في هذا العالم، وعن منتج الوصول إلى الحقيقة لصالح مستقبل الأسرة الإنسانية.
ومن دون تحديد لهذا المحور سيظل البحث هلامياً، وغير مرتبط بالقدرة على تنزيله واقع الحياة المدنية لكل الشعوب، فحتى أنصار المرجعية المادية المطلقة، لو طُرح على طاولة بحثهم إحصائيات السقوط لما بعد الحداثة الرأسمالية، وتسليعها القاتل للإنسان، والذي بني ابتداءً على معطيات نظريتهم التي عُمّمت على العالم، ووضعت في إطارٍ تقديسي، مدخلا ملزما لمعرفة الفلسفة، فجوابهم على خسائر العالم المعاصر وازدواجية واقعه لن يكون مدافعاً عن سياسة الدولة الحديثة التي صُنعت بناءً على تفوق نظريتهم، وقُرن التقدم المدني الذي يُقرأ إيجابيا في بعض منتجاته، لكنه ليس منصفاً ولا عادلاً في مجمله، ولا تزال آثار الخلل فيه ضخمة، ترتد على هذه البشرية، فإن كان جوابهم هو المعتاد إن هذا الخلل ليس في تطبيقات النظرية، وإنما في تحريفها، فلماذا لم تُطبق، وكيف أصبح العالم يُشار إلى ولادته من جديد تحت نظرية التنوير الغربي، من دون الوصول إلى مفاهيم سلام وتعايش، وتوزيع ثروة وقيم عدالة أكثر، منذ الحقبتين اللتين عاصرهما هذا التنوير بين الرأسمالية والشيوعية الماديتين.
تأكيدي محورا مركزيا للجدل الفكري والفلسفي هو ربط إنساني ضروري، وعلمي موضوعي 
ثانياً، فما فائدة هذا العالم الذي يُغتال منه موسمياً، مئات الألوف أو تُسفك حقوقهم، أو تتيه ضمائرهم في عذابات متعددة، تنتهي بكابوس كآبة أو مقصلة حرمان، أو فراغ يؤدي إلى الانتحار، جرّاء تصاعد فكرة التَشيّؤ والتسليع التي أتت مترادفةً مع هذه التمركزية المحصّنة بغطاء تنويري، فلو عزلنا هذا المحور، فهذا يعني بأننا كمن يُهذرم بأغنياتٍ رومانسية، فوق جبال من جثامين الضحايا، باسم التحرير الفلسفي الحديث ونقده. المفهوم الموضوعي هنا ليس مصطلحاً ترفياً، ولا سفسطة فلسفية، وإنما قاعدة حوار يُرجى أن تؤسّس لثقافة وعي إنساني مشترك، لصالح معادلة معرفية جامعة للبشرية، ومن يأتي لنقد النقد أو نقض النظرية، فلا بد أن يكون ملتزماً، بهذا المعيار. وقد يصنف هذا الطرح في هامشٍ لا يكاد يُذكر، في إصدارات الجدل الفلسفي الحديث، لكننا نراه متناً لا يمكن أن يُسقَط لاعتبارات تصنيفٍ لا تتفق مع المحور المركزي، لموقف الضمير الروحي أو التقوى الأخلاقية، لأجل مستقبل البشرية وسر سعادتها. وهو جدل معرفةٍ لا يَنقل الناس إلى ما بعد الحياة، ليعدهم بمآل سعيد أو حزين، على الرغم من أن فكرة رسالة الروح وكيف فُطرت تمثل فارقاً رئيسياً في مدلولات الرحلة البشرية، وهي أصل فلسفي وأخلاقي معاً للتنوير الإسلامي، ولكن الجدل هنا والتداخل هو في مسار تأسيس أرضيةٍ لمستقبل تطبيقي ينفع الحياة البشرية.

دلالات