الحراك اللبناني مغامرة خارج التصنيفات

الحراك اللبناني مغامرة خارج التصنيفات

19 نوفمبر 2019
+ الخط -
تقول المراسلة الشابة لرجل في مقهى في حي بيروتي: رئيس الجمهورية قال لكم "بجبكن يعني بحبكن كلكن" شو رأيك؟ يرد الرجل بلا تردّد: لا نريد هذا الحب. تدخل المراسلة في نقاش معه، فيتدخل المحيطون به، لمنعها من التسجيل، بعدما عرفوا أنها مراسلة "أو تي في"، المحطة الموالية لرئيس الجمهورية وحزبه، بعدما نزعت اللوغو عن المايكروفون لتفادي التعرّف على هوية المحطة. يقول المتجمعون في المقهى: "ما منحكي مع هيك ناس" (المحطة وتوجهها السياسي)، فتكرّر المراسلة بعدما فقدت أعصابها: "يا عيب الشوم، يا عيب الشوم". ويتابع الرجل: "لو ما كنتوا مستحيين بحالكن ما خبّيتوا اللوغو". يتحوّل المشهد إلى عنف، وتطرد المراسلة وفريقها. المحطة أطلقت منذ فترة حملة تخوين ضد الحراك الشعبي اللبناني، واستعارت من معجم الإعلام المصري الشتائم والتشهير، ومن الاستعارة استضافة "معلقين صحافيين" يقومون بتشويه الحراك، ومنهم "صحافية" بشرت المشاهدين بحالات حمل نتيجة التظاهرات. في موقعة أخرى، تلطم مراسلة المحطة نفسها متظاهرا حاول التشويش على تقريرها، ثم تواصل الرد على أسئلة المحاور من الأستوديو كأن شيئا لم يحدث.
يبدو الحراك اللبناني للمستشرق فيلما شائقا طويلا. بلد يرقص ويحتفل وهو على كفّ عفريت. ماذا يعني أن يخرج هذا الحراك المفاجئ والعابر للطوائف، والخلاق في أشكال تعبيراته غير المسبوقة، أن يخرج عن التصنيفات المذهبية والطائفية التي طالما اعتمدت المقياس في فهم 
الواقع اللبناني. كيف يمكن فهم الانقسام الجاري بين المراسلة وجمهور المقهى خارج تصنيفات معسكري 14 و8 آذار التقليدية؟ كيف بالإمكان أن نفسّر أن الشتائم التي كيلت لأحد السياسيين تحديدا، وتحولت إلى نشيد بنكهاتٍ مختلفةٍ ليست من باب العنف ضد النساء، بل تعبير ساخر عن تحقير سياسي أرعن؟ خلطة مفاجئة وغريبة يصعب فهمها في تصنيفات ضيقة. على سبيل المثال فقط، يستغرب أحد مراسلي قناة "سكاي نيوز" أن تنزل مدينة طرابلس التي يصفها بالمحافظة إلى الشارع في حراكٍ يصفه بالعلماني. المدينة المحافظة رقصت بالفعل، والحراك غير معني أساسا بالصراع بين العلمانية والتدين، وهي ازدواجية يصعب على بعض الإعلام ودوائر الأبحاث فهم المنطقة خارجها.
ماذا يجري في لبنان؟ يصعب فهم الحراك الجاري في الشارع اللبناني وشرحه خارج الأطر التقليدية لتصنيف البلاد، لجهة اعتبارها مجموعة من المذاهب المتناحرة التي لا تلتقي إلا على الفرفشة، وعلى المطبخ اللبناني. يستوجب إيجاد أدواتٍ جديدة لفهم الواقع الجديد الغريب. خرج قسم غير قليل من اللبنانيين عن ولائهم لزعماء طوائفهم. لا يعني ذلك أن كل اللبنانيين شفوا من داء التبعية للزعيم، ولا أن آليةً ما ستمنع عودة زعماء الطوائف، في حال انتخابات قريبة، إلا أن الأعداد الضخمة التي خرجت إلى الشارع كافية للتأكيد (أو الطمأنة) أن وعيا جديدا تشكل ولن يتراجع، أو أقله لن يختفي، مهما كان مسار الحراك في المستقبل، وأن دولةً مدنيةً 
يحكمها القانون قادمة يوما ما. كيف يمكن للباحثين عن أنماط جاهزة في تغطية الحراك أن يفهموا الشابة في النبطية التي قالت إنها، وغيرها من المشاركين في حراك المدينة، ليسوا ضد المقاومة، لكنهم ضد الذل اللاحق بهم، ومن أي جهة كانت. كيف يفهم هؤلاء أيضا أن يوجّه متظاهرو طرابلس تحيات الدعم للمتظاهرين في الضاحية والنبطية وصور، وهم الذين أمضت مدينتهم أعواما دامية من الصراع بين السنة والعلويين في منطقةٍ باتت تعرف بالصراع الإقليمي بين السنة والشيعة؟ كيف يمكن فهم أن يوجّه أبناء طريق الجديدة تحيات التضامن لأبناء الضاحية المشاركين في الحراك، بعد سنوات من الصراعات الدموية بين الفريقين؟ أو أن يعتدي شبّيحة حركة أمل وحزب الله على متظاهرين سلميين في المناطق المحسوبة على مذاهبهم؟ أو أن يقصد الزعيم (الدرزي)، وليد جنبلاط، موقع مقتل أحد المحسوبين عليه من المتظاهرين برصاص جندي هو أيضا ينسب إليه أنه محسوب على معسكره، ليلاقيه الحشد الغاضب بهتاف "كلّن يعني كلّن وجنبلاط واحد منهم"؟
يلتقي مشهد الحراك اللبناني بمشاهد مماثلة من موجات الربيع العربي. مشهد التظاهرات مرح 
وصاخب، وهو ما يتناغم مع صورة اللبناني الغارق في التسلية، ويؤكد الصورة النمطية عن اللبناني الليبرالي المحب للحياة. مشهدية الحراك والكم الهائل من الفرح والأمل والنكات إلى جانب الشتائم، ساهم ذلك كله في أجواء الاحتفال (بارتي)، والتي تتماشى مع صورة اللبناني القادر على المرح في الشدة. ألم نزل نذكر ونتفاخر بالمرح في فترات وقف التقاتل القصيرة خلال سنوات الحرب الطويلة؟ تقول صديقتي إن أكثر ما أزعجها، هي وصديقتها، ليس أن انفجارا عصف بالشارع، حيث كادت أن تموت، بل إنه تسبب في تشويه تسريحتها، بعدما كانتا توجهتا للسهر في أحد النوادي في الحي. إلا أن الحراك اللبناني الحالي ليس مرحا فحسب، ولا هو فقط انتفاضة عابرة على زعماء الطوائف. عبر أهل الحراك اللبناني خطّا لم يكونوا يتوقعون أن يعبروه، ولم يفعلها غيرهم، ولو تشابهت تظاهراتهم وشعاراتهم مع الحراك الشعبي العربي في أشكاله المتجدّدة، كما تشابه الرد عليهم عبر محاولات الشيطنة والاستعانة بأبواق الإعلام وأصوات الكراهية، ونظريات المؤامرة عن تمويل السفارات. فتح أهل الحراك صندوق الفساد الأسود، وأخرجوا بعض ما فيه من عجائب. قد يكون التمرّد على الزعماء مقبولا، أما فضح الأزلام وصفقاتهم فهو خط أحمر لا يمكن السكوت عليه، لما قد يعني سقوط المنظومة كلها على رؤوس أصحابها. يشبه الحراك اللبناني أهله ولا يشبههم. موسم المرح لن ينتهي قريبا، لكنه موسم جديدٌ فصوله ليست كلها مرحة، بات يستوجب على القريب والبعيد تطوير أدواتٍ جديدة لفهمه، توازي عملية إعادة اكتشاف اللبناني نفسه ووطنه.
A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.