ابن المقفع في السفارة

04 يناير 2019
+ الخط -
لم يختلف الحال كثيرًا؛ فما جرى بالأمس تجتره بعض الحكومات اليوم، ويظل سلطان الكلمة فوق سلطان السيف والنطع والمنشار. لا حاجة للتفكير في حلول، ولا مبرّر لمراجعة الأوراق وتصحيح المسار؛ فالقتل يفي بالغرض، ويضمن تكميم الأفواه، ولا بأس أن يُرمى المعارض بالمروق والتمرّد أو الكفر والزندقة.
كتب ابن المقفع "رسالة الصحابة"، وأخذ على الدولة العباسية أربعة مآخذ: "لا تعزّز جيشها بجند الخراسانية، ولم ترفع يد الجند عن نظام الخراج، تقيد سلطة القضاء بيد العرب، ولا تقيم نظامًا سياسيًا بعيدًا عن القرآن والسنة". طارت الرسالة من البصرة إلى بغداد، ووصل أمرها إلى المنصور فتميّز من الغيظ، وعقد اجتماعًا مغلقًا مع وزيره أبي أيوب المورياني وكاتبه ابن الخصيب.
في الاجتماع، كانت للمنصور أجندة تختلف قليلًا عن أجندة الوزير؛ فالمنصور لم ينس لابن المقفع كتابته شرط الصلح! أما المورياني فيجد في رسالة الصحابة تهديدًا لسلطاته؛ فقد يسحب المنصور الثقة منه، أو يقوِّض صلاحياته، ويحد من طموحاته.
لم يكن ابن المقفع معارضًا للنظام، بل هو محسوب عليه، كما أنه لم يهاجم المنصور ولم يخلع عباءة الطاعة، وأبلغ دليل على ذلك أنه نشأ في كنف أعمام المنصور؛ عيسى وسليمان وعبد الله أبناء علي بن عبد الله بن عباس، وأسلم على أيديهم. وفي سنة 137هـ (754م) خلع عبد الله بن علي بيعة المنصور في الشام، ونادى لنفسه بالخلافة، وانقسم العباسيون على أنفسهم، وهنا بدأت محنة ابن المقفع.
بعد سلسلة مفاوضاتٍ استمرت عامين، اتفقوا على الصلح، وعهدوا لابن المقفع بكتابة شرط الصلح؛ فبالغ اتقاءً لغدر المنصور، وجاء في الشرط: "ومتى غدر أمير المؤمنين بعمد عبد الله بن علي؛ فنساؤه طوالق، ودوابه حُبُس، وعبيده أحرار، والمسلمون في حل من بيعته".
دارت الأرض بالمنصور قبيل الاجتماع بوزيره؛ فهذا الفارسي قد أفسد عليه أمر عبد الله، وتشدّد في شرط الصلح، ولم يكتف بذلك بل يكتب اليوم رسالة تفتح عليه النار، وتحرجه أمام الرأي العام؛ فلا بد من إسكات هذا المخرِّب. لم يستغرق الاجتماع دقيقتين؛ فالحكم أعد سلفًا وواجب النفاذ، وطار المورياني فرحًا عند سماع الحكم؛ فأرسل إلى والي البصرة، سفيان بن معاوية المهلبي، للتنفيذ. واستدعى المهلبي ابن المقفع إلى مقر السفارة العباسية في البصرة، وأنجز مهمته، وبشّر للمورياني قائلًا: أبلغ رئيسك أن المهمة تمت بنجاح!
اختلف المؤرخون في طريقة القتل؛ فقيل: ألقي في بئر وردمت عليه الحجارة، وقيل: أُدخل حمامًا وأغلق عليه بابه فاختنق، وقيل: قطعت أطرافه عضوًا عضوا، ثم أُلقي في تنور وأُطبق عليه. رواية نادرة في "المقالات والفرق" لسعد بن عبد الله بن أبي خلف الأشعري (ت 201هـ) قالت إنه لما وقع في قبضة سفيان أدرك النهاية، وتناول السم، وقيل إنه خنق نفسه، لكن المؤرخين أجمعوا، بما لا يدع مجالًا للشك، أنه لم يُخنق بمعرفة فريق اغتيال، ولم يقطع جسده بمنشار عظام، أو تذوَّب جثته في حمض الهيدروفلوريك.
لما بلغ الخبر سليمان وعيسى، دخلا على معاوية، وأحضراه إلى المنصور مقيدًا في أغلاله، وأحضرا شهودًا صرحوا أن ابن المقفع دخل دار سفيان، ولم يخرج منها؛ فأجابهم المنصور: أرأيتم إن قتلت سفيان به، ثم خرج ابن المقفع من هذا البيت (وأشار المنصور إلى باب خلفه) وخاطبكم، ما تروني أصنع بكم؟ أفأقتلكم بسفيان؟! فاستولى الرعب على الشهود، ورجعوا عن شهادتهم؛ فعلم سليمان وعيسى أن ابن المقفع قُتل تحت سمع الباب العالي وبصره، وبمباركته وتعليماته المباشرة، وأُطلِق سراح القاتل، وعند الله تجتمع الخصوم.
D14DCC9E-4695-4E3F-AF5D-957B3D79F68C
D14DCC9E-4695-4E3F-AF5D-957B3D79F68C
محمد الشبراوي (مصر)
محمد الشبراوي (مصر)