هل أنت يوسف؟

26 يناير 2019
+ الخط -
قد تقرأ للرجل أو عنه فيستبد بك الإعجاب، ثم تجالسه أو تلتقيه في مجلس أو محفل؛ فكأنما صببت على إعجابك شلالًا من ماء، وتراك تقول بلسان الحال والمقال: هل أنت هو؟! ولو أقسم لك بالأيمان المغلظة أنه هو، ما قبلت منه، ولربما زهدت فيه، وفي ما يكتبه إلى يوم الدين.
يبني السامع أو القارئ للآخرين صورة ذهنية، ويؤطرها وفق هواه وميوله الشخصية؛ فالكاتب الذي يهواه لا بد أن يكون بمواصفات تروقه، وأن الرجل الذي يحبه حتمًا يخلو من المثالب والعيوب، نعم هذه صفات انتقائية لكننا نخلعها عن من نحبهم، وكأننا تحولنا إلى كتَّاب سيناريو نضيف لمن نحب ما نميل إليه، ونحجب عنهم كل خصلة لا تمثلنا، ويتعين على غيرنا أن يتقولب قالبنا الخاص وإلا لفظناه وأشحنا عنه بأفئدتنا قبل أبصارنا! وقديمًا قال إخوة النبي يوسف: "أئنك لأنت يوسف"؛ فلم يخطر ببالهم أنه سيصل لهذه المرتبة.
استوقفتني هذه النظرة، وأنا أطالع سيرة أستاذنا عبد الحميد جودة السحار، وهي جديرة بالتأمل والبحث؛ فكتب أخوه سعيد عددًا من الأزجال، وأرسلها إلى مجلة "السيف" وقوبلت بترحيب منقطع النظير، ونشرت له المجلة مرارا. بعد مدة، قرّر سعيد أن يزور المجلة، ويسلِّم الزجل باليد، دخل مقر المجلة برفقة عبد الحميد، واستقبلهما رئيس التحرير بدبلوماسية، وسلماه المادة فسألهما: أنتما من طرف الأستاذ سعيد؟ فانسحب سعيد من لسانه، وقال فرحًا: أنا سعيد! لم يعلق رئيس التحرير بكلمة، واكتفى بأن يهز رأسه.
وانتظر سعيد أن يُنشر زجله؛ فلم تقع عينه على زجل أو غيره في مجلة السيف مطلقًا، وظن رئيس التحرير (أو توهَّم) أن طالبًا في المرحلة الثانوية قد خاتله، وأنه لم يعد أهلًا للنشر؛ لأنه ليس كما رسم رئيس التحرير في مخيلته. يتضح لك ذلك من سؤاله: أنتما من طرف (الأستاذ) سعيد؟ فلم يدر بخلده أن سعيد أقل من أستاذ مفتول الشارب، وليس مجرد تلميذ، وإن كانت كتاباته تستحق النشر.
تدور الأيام دورتها، ويقع عبد الحميد في الفخ نفسه، فخ التنميط والقولبة وتأطير الناس وفق أهوائنا. هذه المرة لم يكن عبد الحميد طالبًا بل مؤلفًا ذائع الصيت، وبينما يقف في مكتبة مصر، وهي مكتبةٌ يمتلكها سعيد السحار صاحب الزجل، يدخل رجلٌ يرتدي جبة خضراء وقفطانًا، وعلى رأسه عمامة خضراء، وفي وجهه سيماء الوقار، تنحنح قليلًا وخاطب البائع وهو يفرك يديه كأنما يتوضأ: أعطني خمسمئة نسخة من "أبو ذر الغفاري" للشيخ عبد الحميد السحار، وكذلك خمسمئة نسخة من "سعد بن أبي وقاص" للشيخ عبد الحميد السحار.
تطوّع أحد الموجودين في المكتبة فقال جذلًا: حضرته المؤلف، هذا هو الشيخ عبد الحميد السحار! نظر الشيخ، فإذا أمامه أفندي وليس شيخًا كما تصوّر. ومن دون مقدمات، راجع الرجل موقفه، واهتزت صورة الشيخ السحار في نفسه قبل عينه، ونادى البائع بصوتٍ جاف: أعطني خمسة نسخ من "بلال مؤذن الرسول".
انكمش الرقم من خمسمئة إلى خمسة، ولو أنه عرف شخصية المؤلف، قبل أن يطلب الكتابين الأولين، لكان محتملًا أن يطلب خمس نسخٍ فحسب لكل كتاب. مع أن الكتاب قيم والفائدة فيه لن تتبدل، لكن الصورة الذهنية عند المتلقي تؤثر كثيرًا في تقبله أو رفضه، والمرء يشتري بالعاطفة ويبرّر بالمنطق، هذه طبيعة الإنسان، وقديمًا دخل المعيدي على النعمان بن المنذر، وكان النعمان معجبًا به قبل أن يراه؛ فلما وقعت عينا النعمان على الرجل استصغر شأنه، ولم يملك النعمان لسانه، حتى قال: "تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه".
D14DCC9E-4695-4E3F-AF5D-957B3D79F68C
D14DCC9E-4695-4E3F-AF5D-957B3D79F68C
محمد الشبراوي (مصر)
محمد الشبراوي (مصر)