عندما تلتهم الألفةُ الدهشةَ

عندما تلتهم الألفةُ الدهشةَ

17 سبتمبر 2018

(نصير السماوة)

+ الخط -
لا أرض تشبه أرضاً أخرى. هذا خطأ نقع فيه جميعاً. نظنُّ التراب واحداً، والصخورَ مقدودةً من الجبال نفسها. كان هذا العابر يمشي على الأرض، ويفكّر بأرضٍ أخرى، يمشي بين الناس ويفكّر بآخرين، يسمع لغةً، وفي أذنه ترنّ لغة ثانية. لا تفعل ذلك. صدّقني ستخسر. وستقول لنفسك: كم كنت لاهياً، كيف لم أر؟ كيف لم أسمع؟ وأنا أكتب هذه الكلمات، أفكّر بجدّي الذي رأيته يتعامل مع الحجر كما لو كان بشراً. كان يكلّمه ويُحاوره، ولا ينزعه عنوةً. كانت له طرقه في جعل الحجر يلين. بنصف عينٍ كان يفعل ذلك.
لهذا أرهف سمعه إلى ما لم يكن يراه. فَقَدَ حاسّةً فعوّضها بأخرى. ولكن ليس على نحو أتوماتيكي. استغرقه ذلك طويلاً. أفكِّر، الآن، أنه فعل ذلك برمي وجوده الكامل في ما كان يفعل. لم يكن يفكّر بحجرٍ آخر. فقط بهذا الصخر الجلمود الذي كان بين يديه. بتحسّسه بيدٍ ترى وتسمع، وتمسيده على الصخر. كان الصخر يمنحه سرَّه. لقد رأيت ذلك بعينيْن كاملتيْن. كم من الوقت انقضى لأدرك ذلك؟ وقتٌ طويلٌ جداً كاد يستغرق عمري كله. هكذا صرت أركع على الأرض، كلما وصلت إلى بلادٍ، لا لأقبّلها كما يفعل الوطنيون، عندما يعودون إلى بلادهم بعد نفي وترحال طويليْن. ليست كل البلاد بلادي. من في وسعه أن يزعم ذلك، حتى لو كان أكبر الطوباويين، أو المتصوّفة. لا أركع لأرضٍ لأنها بلادي. كلا. بل لأضع يدي على التراب. أنبشه. أدور حول الحجر، وأقرّب أذني منه، مثلما كان يفعل جدّي، وعمّي من بعده. رحل الاثنان. هذان، أكثر من أبي، قرباني من الحجر والتراب. وهما، أيضاً، أكثر من أبي، قرباني من الكلمات (فضلاً عن جدّتي، سيدة كلماتي الأولى). لم يكونا كثيري الكلام. كان كلام جدّي، خصوصاً، للضرورة. للحاجة. لا كلمة عنده تسدّ عن أخرى. يا لهؤلاء الذين يجدون الكلمات اللازمة فقط.
كنت أتحدّث عن الحجر والتراب، فصرت أتحدّث عن الكلمات. يبدو أنني لم أفعل ذلك إلا لأصل إلى العلاقة المعقّدة بين الكلمات والأشياء، فنحن لا نرى الأشياء من دون كلمات. نسمّيها ثم نتعامل معها. بالتسمية تصبح، في ذهننا، موجودة. لكن ذلك قد يعيق علاقتنا مع الأشياء على ما هي عليه من غفلة. لا أعرف إن كان جدّي يقترب من الحجر بيديْه العاريتين، اللتيْن تنفر منهما العروق الزّرق، مسبوقاً بكلمة. بتعبير. لا بد أن هذا كان يحدث بدليل كلامه معها. لكن ليس كما يفعل حفيده الماشي مرحاً على الأرض. أعود على بدء. لهذه الصخرة الضخمة التي أراها الآن على الشاطئ علاقة خاصّة بالموج. أنظر من موقعي القريب، حيث يصل إليّ رذاذ ماء البحر الأبيض المتوسط، إلى الموجة وهي تضرب، برفقٍ (فلا رياح شديدة اليوم) ثم ترتد. لتعود من جديد مكتسبةً قوةً أكبر. ما أريد قوله، ولم أفلح في بلورته تماماً، هو التالي: لا تعتبر ما تراه مُسلَّماً به. ولا ما تسمعه. لأنك قد لا تراه مرّة أخرى، ولن يطرق سمعك من جديد. لا تنزع الدهشة عما ترى. لا تدخله في دائرة "الألفة" التي تلتهمه، وتجعله تحصيل حاصل.
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن