يداها تمسكان بأطراف دمشق

28 يوليو 2018

مي سكاف

+ الخط -
قبل أكثر من عام، في آخر زيارة لي إلى باريس، التقيت مي في معهد العالم العربي، حيث جاءت لحضور أمسية شعرية، كما كانت تفعل دائما في دمشق. كانت المرة الأولى التي أراها منذ غادرنا دمشق. اخترتُ القاهرة واختارت عمّان. كنا، هي وأنا، وربما غالبية السوريين الذين خرجوا من البلد، نظن أننا عائدون بعد مدة قصيرة. كان أمل العودة يخفت يوما بعد يوم، والبلاد العربية التي قصدناها ضاقت بنا، كان لا بد لمي أن تختار اللجوء إلى دولة أوروبية. لم تكن تفكر بنفسها، أعرفها جيدا، إذ لو كان الأمر لها لبقيت في أقرب مكان إلى دمشق. كان لديها ولد يكبر، يحتاج أن يشعر بأمانٍ لا توفره بلاد العرب للسوريين. اختارت فرنسا وذهبت إليها.
منذ لمحتها في معهد العالم العربي، أدركت ماذا فعل بها الحزن، كانت تتحرّك ضمن مساحةٍ من الوحشة والفقد، مساحةٍ واسعةٍ تفرشها حولها أينما ذهبت، كما لو كانت تريد أن تخبر الجميع أنها هنا، حيث هم، لكن مساحتها هي دمشق، تفرشها حولها كي لا يتوه دربها، كي لا تفقد حواسّها، كانت ترى دمشق، وتسمع دمشق، وتتنفس دمشق، دمشق المفقودة، التائهة وسط الخراب الذي لم يترك مكانا في سورية إلا وقصده.
لم أعرف ممن خرجوا من سورية أحدا ظلت روحه معلقةً بدمشق مثل روح مي سكاف. أكاد أقسم أنني، يوم رأيتها آخر مرة، شاهدت يديها تُمسكان بأطراف دمشق، وتكاد هي تذوي من فرط الشوق لها. قد تكون هذه صورة شعريةً، لكنها تشبه مي في مختلف حالاتها، فمن يعرف مي سينتبه إلى الحالة المجازية التي تغلّف حياتها، ليس بعد الثورة فقط، بل طوال الفترة التي عرفتها فيها منذ ما قبل الثورة بسنوات طويلة. كانت تحلم بعالم محشوّ بالعدالة، ومغلفٍ بالفن والحب، وتعيش كما لو أن هذا العالم حقيقة. مي التي كانت في فترة من حياتها نجمة سورية الأولى، وحلم كثيرين من شبابها. كانت تبدو أحيانا ساذجةً لفرط ثقتها بالآخرين. لم يكن يخطر لها يوما أن الأصدقاء يخونون، فتعرّضت لطعناتٍ عديدة، كانت أقساها أزمتها مع مسرح تياترو، مشروع حياتها، الأزمة التي يعرفها جميع من عرف مي، ويعرف ما تركته من أثر سلبي، جعلها فريسة مرضٍ نادر جدا، كاد أن يودي بها وقتها.
لم تكد تعبر خيبتها ومرضها، حتى قامت قيامة سورية، وانطلقت ثورتها المفاجئة. وكالجميع، لم تتوقع مي أن تكون ردة فعل النظام على هذا القدر من الوحشية، لا لأنها كانت تعتقد أنه نظام وطني، بل لأن لا أحد يتوقع أن يرتكب نظام جرائم ضد شعبه على مرأى العالم ومسمعه، من دون أن يتدخل أحد. ظن السوريون أن لبلدهم عمقا حضاريا يجعل العالم يحميها من الدمار. كانوا واهمين، كعادة كل الحالمين بالتغيير، فالتغيير ليس أكثر من حلم جميل، تم وأده بأفظع الطرق الممكنة. اشتعل هذا الحلم في روح مي سكاف، المتمردة والمتأججة. أعلنت وقوفها مع الشعب الثائر، خرجت في المظاهرات، شاركت في العزاء والجنازات الكبيرة، ساعدت في فك الحصار عن المحاصرين، اعتقلت مع مجموعة من الأصدقاء، ظهرت على محطات الأخبار وهي تفضح جرائم النظام. رصيدها الفني في الوجدان السوري جعل موقفها بمثابة حثٍّ على الثورة لدى فئات كثيرة. لهذا استنفرت أقلام النظام ومؤيديه لتشويه سمعتها وتاريخها، ووصمها بأبشع الصفات، لكنها لم تهتم، واستمرت بما هي عليه. كانت الثورة بالنسبة لها الحاضنة التي يمكن لروحها المتمرّدة أن تصبّ فيها. لهذا كانت ارتكاستها كبيرة، بعد أن حصل ما حصل، وتحول الحلم إلى دم وخراب. لهذا أصبح الحزن صنوا لها، يعرفه من يعرفها، ويراه من يراها.
لم تكن مي سكاف تشبه سوريات كثيرات، لا الممثلات ولا غيرهن، كانت الأكثر عفويةً وشغفا وتمرّدا، والأقل استعراضا، لم تكن سياسيةً ولا دبلوماسية، كانت كتلة من الغضب والقهر، تكتب قهرها منشوراتٍ على صفحتها، تكتب ما تشعر به من دون حسابات. كل ما كتبته على "فيسبوك" منذ الثورة كان عن سورية وثورتها فقط. خرجت مرتين عن هذا السياق، يوم رحيل لمى شقيقتها الوحيدة قبل أكثر من عام، ويوم رحيل والدتها قبل أشهر. لم يفهم ثورتها وغضبها كثيرون، لم يقدّروا عفويتها، اعتبرها بعضهم شعبوية، هي لم تكن سوى امرأة منفعلة بالحدث الذي تجاوز قدرتها، وقدرة كثيرين على الفهم والاستيعاب.
"ما بدّي شي.. بس بدي موت بسورية"، جملة كتبتها مي قبل رحيلها بأيام قليلة، جملة بسيطة وعفوية، لكنها لسان حالنا جميعا، نحن الذين نبهنا موتها الوحيد كم نحن وحيدون وغرباء.
BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.