فيلتسيا لانغر نموذج للمثقف الكوني

فيلتسيا لانغر نموذج للمثقف الكوني

26 يونيو 2018

فيلتسيا لانغر .. حالة ثقافية إنسانية بامتياز (1990/Getty)

+ الخط -
غيّب الموت في الثاني والعشرين من يونيو/ حزيران الحالي المحامية الإسرائيلية، فيلتسيا لانغر، التي كانت من أبرز المناصرين للحقوق الفلسطينية، ومن أوائل المحامين الذين دافعوا عن حقوق الأسرى الفلسطينيين في معتقلات الاحتلال الإسرائيلي، وأمام محاكمه العسكرية، ولم تألُ جهدًا في فضح انتهاكاته وجرائمه منذ تبنت قضية الفلسطينيين، والجور الممارس تجاههم، انطلاقًا من إيمانها بالحق الإنساني، بعيدًا عن كل تعصبٍ أو انتماءٍ ضيقٍ، لا يرقى إلى مستوى الإنسانية.
تغيب هذ السيدة الإنسانية في وقت يعاني منه الشعب الفلسطيني من حملةٍ عنصريةٍ أخرى، شديدة العنف والتطرف، منذ انطلقت مسيرات العودة أخيرا، حيث وصل العنف إلى ذروته يوم افتتاح السفارة الأميركية، تطبيقًا لقرار الرئيس دونالد ترامب بإعلان القدس عاصمة موحدةً لإسرائيل. وفي الوقت نفسه، تغيب قامة فارعة الإنسانية، في وقتٍ يبدو العالم منشغلاً عن قضايا الشعوب، غافلاً عن كل الانتهاكات لاهثًا خلف كرةٍ تركلها الأرجل، وقلوب الملايين معلقة على قدم لاعبٍ، أو حذائه الرياضي، بينما الحروب وقتل الأرواح والتهجير والموت في البحار، وانتهاك حقوق الفارّين من هذا الجحيم، لا تشغل العالم إلاّ بمقدار ما تشكل هذه الأمور من عبءٍ على الأنظمة والشعوب التي لا تتنازل عن رفاهيتها.
كانت فيلتسيا لانغر محامية مدافعة عن الحق الإنساني، وصاحبة مواقف شجاعة، لم تقبل المساومة عليها، على الرغم من إغراءاتٍ قدّمت لها، ولم ترضخ للتهديدات التي تعرّضت إليها من الوسط الإسرائيلي المحيط بها، بل غادرت إلى ألمانيا، حاملةً معها مشروعها الإنساني، وتابعت دفاعها عن الشعب الفلسطيني، وفضحها ممارسات الحكومات الإسرائيلية التي تدّعي أنها صاحبة الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط.

يعيد رحيل هذه المرأة، المحزن على الرغم من تقدّمها في العمر وأن الموت حق، إلى الوعي المنشغل بجنون الواقع العربي سؤال المثقف والثورات وقضايا الشعوب. بل سؤال مثقفينا خصوصا. ويطرح السؤال الجوهري، أو الأساس الذي يمكن اعتباره الوازن، أو المعيار، لموقف المثقفين ودورهم، كيف يمكن للمثقف أن يكون صاحب ضمير حر، غير مرتهن لأي انتماء سوى إنسانيته، وأن يكون قادرًا على الفصل بين الأمور وتحديد موقعه وزاوية نظره؟ وبأي معيار يُحاكَم، ويُحاكم إنتاجُه الثقافي معه؟ في وقتٍ اختلطت فيه الأمور على الساحة العربية، وانحرفت الثورات عن أهدافها، أو بالأحرى حُرفت عن أهدافها، وصودرت لصالح حربٍ دمرت بنيان الدول والمجتمعات؟
هناك مقولة تنسب إلى وزير الدعاية السياسية في عهد هتلر والنازية، جوزيف غوبلز: كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي. .. فهل هناك أخطر من المثقف على الأنظمة السياسية القمعية والاستبدادية؟ بل على كل السلاطين من سياسيةٍ ودينية؟ ما الذي يجعل مثقفةً وحقوقيةً لامعةً، وناشطةً ومفكرةً تتخذ قضية شعب، يُعتبر سياسيًا العدو الوجودي للكيان السياسي الذي كانت تنتمي إليه، أو تعيش تحت سلطته، قضيتها بكل شجاعة وإيمان؟
في المقابل، ما الذي دفع مثقفي سورية إلى الحالة الراهنة المليئة بالتناقضات والخلافات والاختلافات التي وصلت في كثيرٍ منها إلى حربٍ كلاميةٍ، لم توفر منبرًا إلا واستغلته من أجل تخوين بعضها بعضا، واحتكار الوطنية وتبادل الشتائم والسباب والنعوت التي تنتهك الكرامة البشرية؟ لقد بدأ مثقفون كثيرون باكرًا في الاصطفافات والاستقطابات السياسية والطائفية أحيانًا، ضاربين عرض الحائط بكل التيمات التي شغلت إنتاجهم، وكل خطابهم السابق عن الحق والعدالة والمساواة ومقاومة الطغيان ونصرة قضايا الشعب، غافلين أو متغافلين عن أن هذا الشعب محقٌّ في انتفاضته، من أجل استعادة حقوقه البديهية التي سطا عليها الطغيان السياسي والديني والاجتماعي والاقتصادي، فانقسموا بين مؤيدٍ، من دون تحفظ، لآلة العنف التي يمارسها النظام وحلفاؤه، باعتبار أن ما يجري في سورية مؤامرة أداتها زرع التطرّف والإرهاب وفسح المجال أمامه ليصادر المستقبل، وأن ما يجري هو دفاع عن الكيان السوري، بل دفاع مقدّس حتى لو كان الشعب يُحصد ويُهجر بالمئات كل يوم. وفي المقلب الآخر، الانحياز الكامل نحو العسكرة والأسلمة واستدعاء التدخل الخارجي والتبعية له، من دون تمييز أو إقامة اعتبار لواقع أن تلك الأطراف التي تجاهر بمحاربة النظام حتى إسقاطه لم تستطع تقديم مشروع بديل، يلامس حاجة الشعب وطموحه وأهدافه التي قتل وهجر من أجلها، بل إن ممارسات الميدان لم تختلف عن ممارسات النظام، ولم تكن أرحم أو أكثر وعدًا بصون الحريات والكرامات والأرواح.
لماذا لم يقبل المثقفون في سورية الاختلاف، ولم يستثمروا فيه؟ لماذا مارسوا الشوفينية في احتكار الوطنية والرأي والموقف السديدين بشأن ما يجري، وما يتعرّض له الشعب من انتهاك لكيانه المادي والروحي والمعنوي؟ ولماذا انكفأ دور بعض المثقفين، ليفسح الساحة للناشطين على مختلف أنماطهم من ناشطين حقوقيين إلى سياسيين إلى إعلاميين، وارتهن بعض منهم للمنابر الإعلامية المرتهنة، في الأساس، لأجندات خارجية، أو لتلك التابعة لآلة النظام وأعوانه؟ أو في أفضل حالاتهم صمتوا وطال صمتهم؟ يقول سارتر في إحدى مقابلاته: كنا جميعا نخشى الموت والمعاناة من أجل قضيةٍ لا نؤمن بها. في ذلك الوقت، كانت فرنسا مثيرةً للاشمئزاز جرّاء تفشي الفساد والعنصرية وانعدام الكفاءة ومعاداة السامية. كان الأغنياء يديرون البلاد من أجل الأغنياء فقط، ولم يكن هناك من يرغب بالموت في سبيل فرنسا كهذه. إلى أن أدركنا أن النازيين كانوا خيارًا أسوأ.

لقد رفض مثقفون كثيرون الطروحات والممارسات النازية، لكنهم اختاروا الصمت، أو ما يمكن تسميتها المقاومة السلبية، وقد تعرّض المثقفون حينها للمحاسبة الاجتماعية على مواقفهم، لكن الشعب أعاد النظر في تلك المرحلة، انطلاقًا من النقد باعتباره ضرورةً يؤمن بها، واستوعب مواقف المثقفين، ولم يمارس القطيعة أو الإعدام بحق منتجهم الثقافي أو الإبداعي.
هل يمكن القول إن ناشطةً حقوقيةً ومثقفةً وباحثةً وصاحبة مشروع إنساني، هي فيلتسيا لانغر، تتمتّع بميزةٍ خاصةٍ، يفتقدها معظم مثقفينا، هي نشأتها على ثقافة الديموقراطية وحرية التعبير والحقوق التي اختمرت مع الزمن في أوروبا، حتى لو أن هذه المبادئ والقيم الثقافية والحقوق تعرّضت، في حقبةٍ ما، للمحاصرة والشلل، في ظل الأنظمة الشمولية التي حكمت دولا أوروبية عديدة، تحت راية التجارب الشيوعية المدعومة من الاتحاد السوفييتي، لكن تاريخًا امتد منذ عصر الأنوار في أوروبا كان له وشومه التي حفرت في الوعي الجمعي لتلك الشعوب، بعد أن خاضت تجاربها المريرة والدموية، ودفعت الأثمان الباهظة إلى أن نحتت منظومة قيمها ومبادئها، فصارت ثقافةً يعيشها الأفراد ويتمثلونها؟
لقد خسرت القضية الفلسطينية أحد مشاعلها والمدافعين عنها، لكن فيلتسيا لانغر تبقى حالة ثقافية إنسانية بامتياز، لا يعيب المثقفين العرب أن يستلهموا من تجربتها.